هل فشلت الحضارة في تهذيب الإنسان؟
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2024-01-15 05:10
(هدف الأديان والحضارات هو تهذيب الإنسان وتمكينه من العيش بأمن وسلام)
الإمام الشيرازي
في كينونة الإنسان قطبان متناقضان هما الخير والشر، والحضارات التي تعاقبت على البشر واحدة بعد أخرى، أو تزامنت في الوجود مع بعضها، سعت كما هو معلَن إلى تعطيل القطب الشرير في الإنسان، وتهذيبه، ومحو كل سمات العنف والتنمّر في شخصيته، وكذا فعلت الأديان، إذ كان الهدف منها أيضا هو تهذيب شخصية الإنسان.
ولكن للأسف الشديد حتى الآن لم تستطع الحضارة، ولا الأديان تحقيق هدفهما في تهذيب الإنسان، وتعطيل بؤرة الشر المشتعلة في أعماقه، ولعل الحضارة زادت الطين بلّة، فأطفأت فطرة الإنسان، ولوثتهُ بالكثير من ملوِّثات المادة، والتشعب الكبير والمتسارع في التكنولوجيا والصناعة، والهوس الهائل في التجارة وأرباحها.
فضاعت الحضارة، وضاع جوهرها، حتى أن بعض المفكرين صرّحوا بصريح القول، بأن الحضارة المادية أساءت للإنسان، وبدلا من أن تهذبه، جعلت منه وحشا ضاريا هدف الفوز بالأرباح والكسب المادي بعيدا عن السبل المسموح بها، وبعيدا عن المشروعية المتَّفق عليها إنسانيا، فلوّثت حواس الإنسان بدلا من تهذيبها، حيث يقول س. يو. ليتس (أعتقد أنّه كان لدينا حواس رائعة كثيرة، ولكننا مع تقدم الحضارة أضعناها، ولم يبق لدينا سوى هذه الخمس البائسة)، نحن إذن نقف أمام غول الحضارة وجها لوجه.
وهذا إعلان واضح عن فشل الحضارة والأديان في تحقيق الهدف الأسمى لهما وهو تهذيب الإنسان.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) يقول في كتابه القيِّم الموسوم بـ (فقه السلم والسلام/ الجزء الثاني):
(إن سائر الحضارات والأديان تدّعي تهذيب الإنسان وتسعى إليه، ولكن لم تصقل سلوك الإنسان ولم تستطع أن تروض حاجاته، ولم تهذّب طبيعته تهذيباً كاملاً حتى في عصرنا الحاضر).
الإنسان هو الذي أساء حالات التطور الهائلة التي أنتجتها ثورة العقول، إذا لم يراعِ التطور المعنوي الروحي، وركّز على التطور المادي السريع، فكان هدفه الحضاري ليس بناء الإنسان، وإنما بناء المادة، واكتناز الأموال، وتطوير الصناعة والتجارة والتكنولوجيا، بدون مراعاة التطور الروحاني الذي يجب أن يوازي جميع أنواع التطور البشري ومنها المادي.
الحضارة قلَّصت حواس الإنسان
كثير من المفكرين المهتمين بشؤون الإنسان والحضارة، رصدوا هذا الاختلال الكبير بين ما يدّعيه حاملو مشاعل الحضارة، وبين ما تنتجه حضارتهم في الواقع الفعلي، فقد طغت السمة المادية بشكل هائل على حضارة العصر، لدرجة أن المفكر علي عزت بيجوفيتش قال: (أَنْتِج لتربح، واربح لتبدد، هذه سمة في الحضارة).
فالحضارة المادية بدلا من تهذب أحاسيس الإنسان، وتجعله أكثر إنسانية، شوّهت عقليته، وأفسدت تطلعاته، من خلال الإسراف الشديد في التوجه الاستهلاكي المادي، مما اساء لشخصية الإنسان المعاصر، وأسهم في تغذية تفكيره بما هو ربحي فقط، بعيدا عن التفكير بالجانب الأهم في الحياة، وهو إنسانية الإنسان، والقيم التي يتصرّف في ضوئها، ويتعامل من خلالها مع الآخرين.
لذا مع كل تطور في الحضارة المادية، تضاعفت تطلعات الإنسان، وكثرت أهدافه، وازدادت طموحاته وتشعبت كثيرا، لدرجة أنه أفسد الطبيعة، ودمَّر البيئة والطبيعة، وما مشكلة التغيّر المناخي التي يعاني منها اليوم العالم كله، إلا إحدى نتائج إساءة الحضارة للإنسان وللطبيعة معا، حيث بات الإنسان غير قادر على الشبع بعد أن استولت عليه النزعة المطلبية.
يقول الإمام الشيرازي حول هذه النقطة:
إن (السبب في ذلك لأن الإنسان كلما تقدم في الحضارات المادية وزادت معارفه، تعددت أهدافه واستولى على الطبيعة وأفسدها أكثر فأكثر، وزاد حرصه وتشعبت مسالك هذا الطموح، ولذا يطلب الإنسان أكثر من القدر المحتاج إليه).
ومن المؤسف حقا أننا نقف أمام إنسان يريد أن يستولي على كل شيء، ولا يكفيه شيء، ولا يقف عند حدود معينة، فهو يستمر بحالة الاستحواذ، بسبب البهرجة الشكلية للحضارة، وبسبب الشعور الغريب الذي يتلبس الإنسان المعاصر، من أنه غير قابل للفناء، مع أنه يعيش الموت في كل لحظة، لكنها لا يدرك ذلك ولا تعنيه الحروب التي تسبب بها.
المهم عنده حجم الأموال التي يمتلكها، أرصدة وأطيان وقصور وسيارات وطائرات وشركات، ولا يعنيه الفقر، أو سوء الأخلاق، أو النسف التام للقيم الإنسانية، لذا يطلب المزيد دائما حتى يبلغ درجة الطغيان، لهذا يغص عالمنا اليوم بعديد الطغاة.
يقول الإمام الشيرازي:
(الإنسان بالإضافة إلى احتياجاته للشؤون الحيوية وجمالـه العادي، يريد أن يزداد في كل شيء، بما لا يحتاج إليه إطلاقاً، حتى يصل إلى مرحلة الطغيان، كما نلاحظ ذلك عند أغلب الحكام خصوصا الطغاة منهم).
الإسلام نافذة السمو والرفعة
ولكن من جانب آخر، هناك نافذة يطل منها الإنسان نحو السمو والرفعة، ألا وهي نافذة المنهج الإسلامي الذي اضاء القلوب والأرواح والعقول معا، فقد ارتفع الاسلام بالإنسان كقيمة عظمى، ولم يعطِ للمادة أكثر من حجمها الحقيقي، وإنما نادى بالمساواة بين العنصر المعنوي من جهة والمادي من جهة ثانية.
وقدمت مضامين القرآن الكريم الكثيرة، دروسا علمية وعملية للإنسان، فهذبته، وارتفعت بقيمته وسمتْ بشخصيته وأفكاره، حتى بلغ شواطئ الأمان والرفعة، فحدث ذلك التوازن بين ما يريده الإنسان وبين ما يحتاجه بالفعل، وحدد الإسلام الهدف من وجود الإنسان.
ومن ثم الانطلاق من هذه الدنيا نحو هدف أبعد وأبقى لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال تهذيب النفس وتنقية القلب، من خلال ما يجده من مضامين في النصوص القرآنية وأحاديث وأفكار السنة المطهّرة، ومن ثم التوقف عن الإسراف في الجوانب المادية التي تغدق بها حضارة الغرب على الجميع من دون حساب للنتائج التي تتسبب بها.
لهذا يؤكد الإمام الشيرازي على هذه النقطة فيقول:
(عمل الإسلام على تهذيب الإنسانية بأكملها، وسموها ورفعتها، ولأجل وصول الإنسان إلى شاطئ الأمان والسلام، لأن الناس في نظر القرآن الكريم والسنة المطهرة أسرة واحدة متعاونة متكاملة، وكلهم أُخوة كما قال سبحانه في كتابه الكريم: إنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) سورة الحجرات الآية 10.
وهكذا بدا الفارق واضحا فيما بين الأديان وحتى الحضارات، فالدين الإسلامي بنى منهجا واضحا للناس، يقوم على السلم والسلام، وينبذ العنف، ويسعى لنشر الوئام بين بني البشر، بعيدا عن حالات التشويه المتعمّد من قبل مجاميع أساءت للإسلام وللمسلمين، وشوهت مضامينه، خصوصا فيما يتعلق بتهذيب الإنسان وتلطيف مشاعره وأحاسيسه وأفعاله.
الحضارة الإسلامية لم تفشل في تهذيب الإنسان، وإنما هناك من يسعى لتلويث منهج الإسلام الحقيقي، وكل من يحاول التمسك بهذه الإساءة سوف يُهزَم عندما يعود العالم بأسره إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وحكمه وقراراته وإدارته للسلطة، وكذلك الحال بالنسبة لعهد الإمام علي (عليه السلام)، هذا هو الدين الإسلامي الحق، وما ينشره المزيفون لا علاقة له بالإسلام.
يقول الإمام الشيرازي:
(من هنا أصبح الفرق الشاسع واضحاً بين تهذيب الأديان والحضارات للإنسان من جهة، وبين تهذيب الدين الإسلامي وحضارته لـه من جهة أخرى. فكانت حضارة الإسلام وتهذيبه للإنسان مبنيّة على السلم والسلام، على عكس غيره).
بالنتيجة نحن لا نخطئ إذا قلنا بفشل الحضارة الغربية في تهذيب الإنسان، لأن الشواهد تقوم أمامنا اليوم، في الحروب التي تشتعل في بقاع من الأرض، وكلها حروب ظالمة، حروب الأقوياء على الضعفاء، وتقف وراءها النزعة المادية التجارية الربحية، ونزعة الاستملاك والاستحواذ الرأسمالي الصارخ، مما يؤكد أن الإسلام له وجهة نظر أخرى لا علاقة لها بما يجري في عالم اليوم المادي.