الرأي العام وترجيح كفّة ثقافة الحوار

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

شبكة النبأ

2024-01-08 05:20

(علينا الاستفادة من الرأي العام لصالح نشر الفضيلة والتقوى وثقافة الحوار)

الإمام الشيرازي

لم يعد عالمنا اليوم يحتمل حالة الاحتقان التي يعيشها، ولا الأزمات التي تحيط به، وليس هنالك سبيل للخلاص من حالة التشنج العالمي إلا بنشر ثقافة الحوار، وهو ما دعا له الإسلام منذ قرون طويلة، مع إشهار الدعوة النبوية والبدء بنشر قيم وأخلاقيات الإسلام، فكانت الدعوة للتسامح والتكافل والتراحم من أهم الأهداف التي يسعى إليها.

هذه الثقافة تحتاج إلى رأي جماهيري عام يتعاطى معها بقبول وتوافق، عبر تكوين رأي عام يتبلور حول نشر هذه الثقافة التي يمكن أن تنقذ الناس جميعا والبشرية كلها، مما تعانيه اليوم من أزمات وكوارث الحروب المشتعلة في أكثر أماكن العالم ضراوة وحساسية وأهمية جيوسياسية واقتصادية وتجارية، لهذا باتت الحاجة لثقافة الحوار لا مفرّ منها، ولا يصح إهمالها، أو التغاضي عنها، في ظل تصاعد العنف ونسف القيم على مستوى عالمي.

هذا الهدف الكبير يحتاج إلى همة عالية، ورأي جماعي كبير، وقد جاء في قول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (على قدر الرأي تكون العزيمة). فإذا استطاع الناس المسؤولون وصناع القرار والمساعدون عليه، من تحشيد الرأي العام نحو ثقافة الحوار، فإن الأمر يغدو ممكنا، وحالة إنقاذ البشرية من تصدعها يصبح أمرا ممكنا.

لذا نحتاج اليوم إلى رأي عام يتبلور حول هذه الثقافة للقضاء على الأزمات التي باتت تهدد الجميع بلا استثناء، ولا يمكن القول بأن الطرف الفلاني لا تضره الأزمات العالمية حتى لو كان يعيش في دولة قوية، ففي ظل الأزمات العالمية يتضرر الجميع، لأن الأرض مركب واحد يتواجد فيه القوي والضعيف والغني والفقير معا.

ولكي نناقش ماهية الرأي العام، نقرأ تعريفه في كتاب الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) الذي يحمل عنوان (الرأي العام ودوره في المجتمع) حيث يقول:

(يعرَّف الرأي العام: هو موقف مجموعة من الناس تجاه مشكلة معينة كالفقر أو الظلم أو الاستبداد، أو حادث معين كالكوارث الطبيعية أو البشرية من حروب وغيرها، إمّا سلباً أو إيجاباً).

ولكي نضمن الفائدة الحقيقة من الرأي العام، لابد من توفير المقومات اللازمة له، فهناك مقومات يستند إليها الرأي العام حتى يكون قويا ومؤثرا، لأننا إذا أردنا النجاح في هذه المهمة، لابد أن نخطط للأمر بدراية، ولابد من الجهات المعنية أن تؤدي دورها كما يجب، وكل منها تتحمل دورها ومسؤوليتها في هذا الجانب.

توفير مقومات صناعة الرأي العام

فالرأي العام يحتاج إلى تهيئة واستعداد، وهو نفسه يحتاج إلى تبادل الأفكار، وطرح الأهداف ومناقشتها، وطالما أن نشر ثقافة الحوار هو الهدف، فهذا يعني توفير المقومات المطلوبة لإنجاح هذا الهدف والاقتراب من تحقيقه.

لذا يقول الإمام الشيرازي:

(للرأي العام مقومات، منها: الجماعة وهم الأفراد بميولهم، وتقاليدهم، وعاداتهم، ونُظُمهم السياسية والاجتماعية. والمشكلة: وهي الموضوع الذي يؤثر في الرأي العام قبولاً ورفضاً. وبعبارة أخرى ما يترتب عليه الرأي العام. وكذلك المناقشة: بمعنى وجود النقاش والحوار والتفاعل بين الجماعة حول الموضوع المؤثر).

هناك حالات ظلم واضحة على المستوى العالمي، وهي التي جعلت من العالم غير مستقر، بل محتقن، متضارب، متعثر، غير قادر على الانسجام، بسبب غياب العدالة في الكثير من الأمور، وأكثرها وضوحا، محاولات الحضارة الغربية (الغرب) الاستئثار بثروات الشعوب، وحصر الأموال واحتكار الثروات في الغرب تحديدا.

ليس هذا فحسب، وإنما احتكار الأموال والثروات وتكديسها في أيدي وخزائن أفراد وشركات، على حساب المجموع البشري، وهذا أدى بالنتيجة إلى زعزعة الاستقرار العالمي، بسبب حالة الغبن التي تهيمن على دول العالم الفقيرة، المهمشة المقصيّة عبر التاريخ، حيث لم تستطع الحضارة الغربية أن تنصف هؤلاء، بل لم تستطع أن تنصف نفسها، لأنها آثرت الهيمنة والسيطرة على مقدرات البشر بعيدا عن ثقافة الحوار.

وطالما أن هناك من يشعر بالغبن، فإن الحاجة للحوار مطلوبة بشدة، وليس استعمال العنف والقوة لاسترجاع الحقوق أو الثروات المنهوبة بشتى الطرق، وهذا يعني أهمية تكوين راي عام عالمي ومحلي أيضا، يهدف إلى تقوية المطالبات بالعدالة العالمية، عبر توحيد الرأي العام، ومن خلال ثقافة الحوار وليس قوة السلاح والتصادم المباشر بين الغرب والشرق.

لذا يؤكد الإمام الشيرازي على هذه النقطة حين يقول:

(إن صوت الحق وانتشار العدل والفضيلة لا يمكن إيصاله إلى الناس بواسطة المدافع أو الأسلحة الذرية الفتاكة أو أساليب العنف، قال تعالى: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ سورة البقرة 256، وقال عزوجل: ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ) سورة النحل 125.

وإذا كانت مهمة نشر ثقافة الحوار عالميا عسيرة، أو غير قريبة من الإنجاز، لأسباب كثيرة، منها العقلية الاستعمارية التي لا تزال تتلبس العقل الغربي رغم أنهم خلعوا قبعة الاستعمار لكنهم في الحقيقة لم يخلعوا الفكر الاستعماري من رؤوسهم، لكن السؤال المهم الذي نطرحه هنا، هل سعى المسلمون إلى هضم ثقافة الحوار ونشرها في دولهم ومجتمعاتهم؟

تسلّق سفوح المجد نحو القمة

الجواب واضح ومعروف، ويمكن الحصول عليه من واقع المسلمين اليوم، فلأنهم تركوا ثقافة الحوار التي بدأ بها الإسلام وبنى بها أعظم دولة وأقوى متانة اجتماعية في الأمة الإسلامية إبان العهد النبوي الكريم، نجدهم اليوم يعانون حالات التناحر فيما بينهم، هذا لأنهم لم يفلحوا بنشر ثقافة الحوار، ولم ينجحوا في بلورة رأي عام يشجع على بلوغ هذا الهدف.

لذا يقول الإمام الشيرازي:

(إن عدم الاهتمام بالرأي العام وسائر مقومات التقدم والرقي يعدّ من الأسباب التي أدت إلى وقوع الأمة بين مخالب الاستعمار إعلامياً وثقافياً واقتصادياً وعسكرياً وغيرها).

إذن نحن كمسلمين لابد أن نعمل على تكريس جهودنا، والتخطيط العقلاني المدروس، لبلورة رأي عام يقبل ثقافة الحوار، ويتمسك بها كبديل دائمي لأساليب العنف المختلفة، ومن ثم الانتقال إلى معالجة الأزمات العالمية التي تهدد الجميع ومن بينهم المسلمين أيضا.

نحتاج إلى أن نرتقي ونسمو، وهذا لن يكون ممكنا ما لم نسعى إليه بالطرائق الناجعة والمدروسة، لذا نحتاج إلى صناعة الرأي العام السديد الذي يساعد على نشر وترسيخ ثقافة الحوار بين الجميع.

كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي في قوله:

(لكي نمارس حريتنا الإنسانية المشروعة لابد أن نكرس جهودنا، وبهمة عالية من أجل تحصيل مقومات التقدم والرقي، ومنها الاستفادة من الرأي العام في صالح نشر الفضيلة والتقوى).

إن النظر إلى الرأي العام على أنه شيء ثانوي، أمر غير صحيح، ولا يجدي نفعا، بل علينا التنبّه إلى ملاحظات وإشارات ومضامين الإمام الشيرازي التي أكد فيها على أهمية صناعة الرأي العام الداعم لثقافة الحوار، ومن ثم جعل هذه الثقافة ذات بعد عالمي لتخليص الأرض من الحروب المشتعلة في أرجائها.

ومن ثم استرداد الحقوق، وتسلق سفوح المجد مرة أخرى، وبلوغ قمة الارتقاء والسمو عاليا بين الأمم، كما كانت أمة المسلمين في سابق عهودها.

يقول الإمام الشيرازي:

(علينا الالتفات إلى أهمية الرأي العام وكيفية تحشيده لصالح الإسلام والمسلمين، فنستعيد حقوقنا المسلوبة، ونعيد إلى أمة المسلمين المكانة الطبيعية العالية والراقية التي كانت تمتاز بها في عصر تطبيق المبادئ الإسلامية).

علينا إذن أن نهيّئ أنفسنا بشكل جيد، لتكوين الرأي العام المساند لثقافة الحوار، حتى نقضي أولا على أزماتنا الداخلية المختلفة، سواء كانت اقتصادية أم سياسية أو اجتماعية أو حقوقية أم سواها، وهذا يمكن تحقيقه إذا تم ترجيح كفّة الحوار عبر صناعة الرأي العام المساند والساعي والمنادي بتحقيق هذا الهدف.

ذات صلة

أزمة البرود الجنسي: أسبابها وحلولهاالخطاب السياسي الإسلامي في العراق.. اضاءات في طريق التجديددفاع عن المثقفكيف أصبحت جامعة كولومبيا بؤرة للاحتجاجات في الجامعات العالمية؟الدولة من الريع الاستهلاكي الى الاستثمار الانتاجي