بين الجموح المادي والاعتدال الروحي

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

شبكة النبأ

2023-12-18 05:35

(الإنسان موجود ذو بعدين: روح وجسم، عقل وشهوة، إنه مزيج من المعنويات والماديات)

الإمام الشيرازي

يُحارُ الإنسان في بعض الأحيان من تصرفات تبدر منه، فتأخذ به في دروب لا تنسجم مع العقل السليم وتوجّهاته، وهذا ما يسمى بالخضوع للإغراء المادي في مقابل الضعف الروحي، فالإنسان كائن يتكون من الروح والمادة، وما بينهما العقل، وأي عصيان لهذا العقل يعني متاهة قد يدخلها الإنسان في لحظة سهو، لكنه من الصعب عليه الخروج منها.

لذا هناك أهمية قصوى لاستخدام العقل لصالح تحقيق حالة الاعتدال عند الإنسان، وهذا يعني قدرته على الاستفادة من عقله كي يتقدم إلى أمام في ميادين ومضامير الحياة المختلفة، وهذا يتطلب منه التمسك بكل الضوابط سواء تلك التي يحصل عليها من الأحكام الشرعية، أو من الأعراف والتقاليد أو من العقائد، أو حتى تلك التي يحصدها من صداقاته وعلاقاته الإنسانية الرصينة.

فهذه الضوابط تحمي الإنسان من السقوط في الانحراف، وتحميه من اللهاث وراء الماديات، وتبني بينه وبين المغريات حاجزا أخلاقيا يحرسه من الوقوع في اللذات السريعة الزائفة، كل هذا يحصل عليه الإنسان من خلال العقل الراقي، والقلب المؤمن، والالتزام بالثوابت التي ستحميه بدورها من التفريط بحقوقه الشخصية أو بحقوق الآخرين عليه.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) يقول في كتابه الموسوم بـ (العقل رقيّ الإنسان):

(يريد الدين كمال الإنسان وسعادته، وأن يستفيد من عقله لكي يرقى ويتقدم، فهي تحثه على رعاية الآداب الاجتماعية واكتساب الفضائل الأخلاقية من جانب، وتنبهه إلى رعاية حقوقه الشخصية، وتذكره بأن لبدنه عليه حقاً من جانب آخر).

كذلك يذهب الإمام الشيرازي في تفصيله أكثر لقضايا وصفات الإنسان، فيؤكد على أنه كائن مكوَّن من ثنائيات متقابلة، وهي الروح في مقابل الجسم، والعقل في مقابل الشهوة، لذلك فإن الروح والجسم يشتركان في كينونة الإنسان، وهناك فروع تنتمي لكل من الروح والجسم، فكل ما ينتمي للروح هو جانب أو كائن أو فعل روحي، وكل ما ينتمي للجسم هو شيء مادي.

كما أن المعنويات تنتمي للروح، يقابلها الجانب المادي بكل أشكاله، فهو ينتمي إلى الجسم، وشتان بين الاثنين، الروحي هو ما يسمو بالإنسان روحا وكيانا وشخصية، ويجعله في مراتب عالية من العلوّ في الكينونة والمكانة وحتى في التصرّف الواقعي، فالإنسان كلما ارتقى معنويا يرتقي في سلوكه وتفكيره، وتكون فاعليته على مستوى الحياة كبيرة وذات فائدة للناس وللذات في نفس الوقت، لهذا فإن المعنويات تُكسب الإنسان مزايا أخلاقية عظيمة.

الإنسان ذو بعدين روح وجسم

أما الإسراف في الماديات فإنه بأخذ الإنسان في مسارات محبِطة، تجعله مشغولا بشكل كلي في قضايا وأهداف سريعة وتافهة، كالانشغال بغريزة الإطعام، أو الجنس، ومن ثم الذهاب في طرق الضياع المختلفة كاللهو واللعب وتبذير الوقت، ومن ثم يصحو الإنسان ليجد نفسه وقد خسر كل شيء بسبب انحطاطه ولهاثه المادي الذي أوقعه في مصيدة الغرائز.

لذا يقول الإمام الشيرازي:

(إن الإنسان موجود ذو بعدين: روح وجسم، عقل وشهوة، فهو مزيج من الروحانيات والجسمانيات، ومن المعنويات والماديات، فالمعنويات تسمو بالروح وتعرج بالإنسان نحو نيل المحاسن والمكارم، وأداء الحقوق والواجبات، وكسب الاخلاق والآداب، من الحلم والعفو، ولين الجانب وحسن العشرة، وغيرها. بينما الماديات لا تسمو بالجسم لو أفرط فيها، وتهبط بالإنسان إلى مستوى إشباع الغرائز من الأكل والشرب والنوم والجماع وغيرها. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب، فإن القلوب تموت كالزروع إذا كثر عليه الماء).

لماذا على الإنسان أن يحذر من فقدان حالة الاعتدال بين الروحي والمادي، إن القضية واضحة لمن يكون حذرا في التعامل مع قضية التطرف في علاقاته الاجتماعية أو العملية، فمثلا ليس صحيحا أن تعامل الناس استنادا إلى مصالحك وحدها، ومراعاة حقوقك وحدها، وسعيا لتحقيق رغباتك وحدها، فأنت تتقاسم الكوكب مع أشخاص وأمم أخرى، لهم أيضا مصالحهم وأحلامهم وأهدافهم لذا من الواجب مراعاة حقوقهم أيضا.

الماديات تأخذك باتجاه ظلم الآخرين، والتركيز على حقوقك وفوائدك، والحرص على شهواتك، فتترك حقوق الآخرين عليك، وتركز على واجباتهم تجاهك وتضخم منها، فتغيب حالة الاعتدال والوسطية، كل هذا بسب حالة الاختلال التي تحصل فيما بين الروح والمادة، وفيما بين الماديات والروحيات، وهذا الخلل يعود كله إلى تركيز الإنسان على مصالحه وترك مصالح الناس، وعدم الانشغال بها، بل لا ينظر لها على أنها حقوق للآخرين عليه مراعاتها، والتمسك بتأدية واجبه الأخلاقي والإنساني والديني تجاههم.

لذا يرى الإمام الشيرازي: (بأن الماديات والشهوات من طبيعتها أن تجر الإنسان عادة إلى التسافل، وتدعوه إلى التخلي عن الفضائل، وتهبط به إلى ترك الحقوق والواجبات، إلاّ إذا تعامل معها بنحو من الاعتدال والتوازن).

من هنا فإنك حين تعيش في وسط اجتماعي، وهذا شيء حتمي لابد منه، فعليك أن تراعي العقل والاعتدال في التعاطي من ما تحتاجه من الماديات، حتى لو كانت لديك القدرة على الاستحواذ والحصول عليها بما يفوق حاجتك، فعليك أن تتذكر أن هناك حصة للآخرين بالماديات التي تسرف في الانقضاض عليها بقدرتك المادية.

لهذا فإن مراعاة الاعتدال قضية في غاية الأهمية، حتى لا يسرف الإنسان، ويراعي الآخرين، ويحذر من أنانيته التي قد تدفعه إلى نسيان حدود وحقوق الناس.

الاعتدال بين الماديات والمعنويات

يؤكد الإمام الشيرازي على هذه النقطة فيقول: (إذا لم يراعِ الإنسان العقل في تناول الماديات، ولم يلاحظ الاقتصاد والتوسط، والاتزان والتعادل، فإنها تكون مهلكة له؛ فربما تجره إلى اقتراف المعاصي والذنوب، وهتك الحقوق والفرائض، نتيجة سعيه غير المشروع في تناول بعض الأمور المادية، واتباع بعض الأهواء النفسانية، وما أكثر هذا الصنف من الناس؛ فإن من أبرز مواطن الضعف عند الإنسان عدم اعتداله في الأمور المادية، والأهواء النفسانية، الأمر الذي يوقعه إما في الإفراط أو التفريط).

وغالبا ما تقود الماديات الإنسان إلى السقوط في شهواته، وهذه مشكلة يعاني منها كثيرون، لا يمكنهم تحقيق التوازن والاعتدال المطلوب بين حاجات الروح والجسم، بين المادة والروح، لذا قد يقع هؤلاء في دائرة مغلقة للغرائز، لا يخرجون منها، ويكونون كالعبيد لغرائزهم، مما يسلب منهم المزايا الروحية التي يحتاجها الإنسان لكي يكون متوازنا وناجحا ومقبولا من الآخرين.

وقد نلحظ في مجتمعنا اليوم افرادا متمسكين بالنهج المادي المصلحي القائم على النظرة الضيقة، حيث ينسى هذا الفرد ان هناك بشرا معه ويجب ان يؤدي التزاماته نحوهم، وان يكون معتدلا في تعامله معهم حتى يسهم في صنع مجتمع متعاون مستقر ومتوازن.

إن من يلهث وراء المادة، سوف يترك حتى واجباته الدينية، وإذا التزم بها فيكون هذا الالتزام شكليا لا أكثر، ولا روح ولا تقوى فيه ولا إيمان، لهذا يكون التزاما شكليا بسبب انغماس الإنسان في القضايا المادية على حساب الالتزامات الروحية والدينية والشرعية.

يقول الإمام الشيرازي:

(الإنسان غير المتوازن في طريقة تمتعه بالطيبات والاستفادة من الماديات لا شك أنه سيقع فريسة الشهوة إذا ما تغلبت عليه، فيكون مضيعاً للحقوق تاركاً للواجبات، شرهاً في الأكل والشرب والنوم والسكن والجماع والملبس، ونحو ذلك).

وأخيرا، لقد ثبت بما لا يقبل الشك، أن الشخص الناجح هو الشخص المعتدل، وأن المجتمع المتميز هو الملتزم بالعقل وبالثوابت وبالأعراف والقوانين، والناجح هو الملتزم بالحقوق في مقابل الواجبات، وهو الذي يعتمد العقل الراقي ويلتزم بقضية التوازن بين الروح والمادة، فيحقق عنصر الاعتدال في مسيرة حياته الناجحة حتما.

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا