العقل وإشكالية التفكير السطحي
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2023-10-09 05:37
(عقل البعض في عينه وعين البعض في عقله) الإمام الشيرازي
هناك إشكالية عقلية تواجه الإنسان، تتمثل بالعجز العقلي عن التفكير بعمق، أو الفشل في الغوص عميقا لاستغوار بواطن الأشياء، ويحصل هذا العجز على الرغم من أن العقل له قابلية على الاستمرار بالنمو في حال صمّم من يحمله على ذلك.
يمكن للإنسان أن يلاحظ بسهولة نمو أعضاء جسده، فهو يرى أصابعه حين تنمو، ويلمس شعر رأسه حين يطول، كما أنه يقص أو (يقرض) أظافره حين تطول أكثر من اللازم، حتى جسده يمكنه ملاحظته حين تطول قامته، ولك كيف يمكن للإنسان أن يرى (عقله) حين ينمو، هل يراه بالعين المجردة مثلا كما يرى شعر رأسه حين يطول؟
الجواب كلا بالطبع، فالإنسان لا يمكن أن يرى عقله بعينه، ولهذا لا يمكن أن يرى العقل بطريقة حسيّة ومع ذلك فإن (العقل ينمو كما ينمو النبات) بحسب قول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي، وقد جاء هذا القول في أحد مؤلَّفاته وهو بعنوان: (من اقوال الامام الشيرازي حول العلم والمال والحرية).
إذًا فإن العقل ينمو ولكن لا نرى كيف تحدث عملية نموه، ولكن يمكن للإنسان أن يكتشف نمو عقله بطريقة فكرية، أي أنه يراقب شخصيته وتفكيره وتصرفاته ومدى الحكمة التي يتحلى بها ومقدار الذكاء الذي يتحلى به وهو يتعامل مع القرارات المختلفة في حياته، وحصيلة نجاح الإنسان في إدارة هذه الأنشطة في الحياة تعني أنه يمتلك عقلا ناميا متميزا.
لقد أعطى الله تعالى كل إنسان عقلا، وميّزه عن الكائنات الأخرى، وبذلك فإن امتلاك الإنسان للعقل جعله قادرا على امتلاك كل شيء لا يمكن أن يمتلكه فاقد العقل، فالمخلوقات الأخرى التي لم يهبها الله العقل لا تمتلك مجاراة الإنسان في الذكاء والامتلاك والتطور الهائل، بل حتى الإنسان الفاقد للعقل (المجنون) لكونه فاقدا للعقل فهو لا يمتلك أي شيء.
ولهذا يقول الإمام الشيرازي في كتابه المذكور أعلاه: (إذا أعطى الله الإنسان عقلاً أعطاه كل شيء).
وطالما أن الكون كله يحكمه التوازن، فإن خَلْق الإنسان محكوم بقانون التوازن أيضا، وحين امتلك الإنسان العقل، فإنا ما يوازن العقل أو يقابله (العاطفة)، حيث يتميز العقل بالتأني والحكمة وعدم التسرّع وبشيء من الخشونة والجفاف أيضا، بينما تتميز العاطفة بعكس ذلك، حيث لا خشونة في العاطفة ولا تأنٍّ ولهذا فإن وجود العاطفة عند الإنسان رجلا كان أو امرأة، يمنحه درجة من التوازن يحتاجها في إدارة حياته وقراراته المختلفة.
اختلاف مهام العقل عن العاطفة
لذلك يتحاشى معظم الرجال السير وراء العاطفة، لأنها قد تصيب الرجل بالضعف والتردد والنعومة التي تضرّه أكثر مما تفيده، ولهذا قيل إذا سيطرت العاطفة على الإنسان، فإن عقله سوف يتوقف عن اتخاذ القرارات، وسوف يسير الإنسان وفقما تفرضه عليه عاطفته، وقد يتعرض الإنسان العاطفي إلى إخفاقات كبيرة بسبب غياب التصرّف العقلي أو المعقول، حيث تدفعه عاطفته في اتجاه خاطئ أو غير مناسب.
لهذا يقول الإمام الشيرازي: (إذا سرت وراء العاطفة فاعلم أن عقلك في إجازة).
العقول في الحقيقة تختلف عن بعضها، ليس في الجانب البيولوجي الخَلْقي، بل في جانب التصرف والسلوك وإصدار الأوامر لأعضاء الجسد، فهناك عقول مسطّحة أو ساذجة، لا ترى سوى السطوح الخارجية لأشكال الأشياء، ولا تدخل في الأعماق، وهذه العقول يُقال لها (إنها تُبصر الأشياء بالعين)، في حين هنالك أشخاص يبصرون الأشياء بعين العقل الثاقبة التي تغطس عميقا في الأشياء وتكتشف مجاهيلها.
هذا النوع من العقول المبصرة للأعماق، هي التي تكون من حصة الأشخاص العباقرة المتميزين، أولئك الذين ترى عقول أعماق الأشياء، وتكتفي بالنظر إلى الأشكال الخارجية أو إلى أسطح الأشياء، بل تغور في الأعمال لكي تكتشفها جيدا، حتى تتعامل معها بالأسلوب المناسب والصحيح، تحقيقا للنجاح في جميع التعاملات.
من هنا يقول الإمام الشيرازي: (عقل البعض في عينه وعين البعض في عقله).
التعقّل هو نتاج العقل المتميز المفكّر، العقل الذي يتقن التعامل مع تفاصيل الحياة المختلفة ويفكّر جيدا في أسرارها، فالتعقل هو نتاج العقل الراجح الذي يشك بالأشياء فيفكر بها عميقا، أما ما يقابل التعقّل فهو الحمق أو الحماقة، وهي تعني ببساطة الانفعال السريع، وفقدان رباطة الجأش، والانجراف السريع وراء ردود الأفعال الجماعية (تفكير القطيع)، وبالتالي فإن المطلوب هو العقل المفكّر وليس العقل الأحمق العاجز عن التفكير.
بناء العقل المتفرّد
التسرع هو نتاج عجز العقل عن التفكير، وردود الأفعال المتعجلة العصبية هي نتاج عقل فارغ من الأفكار، ومتسرع وبائس، لهذا يجب أن يحرص الإنسان على تنمية عقله بآليات التنمية المعروفة كالقراءة العميقة، والاطلاع على تجارب الآخرين، والبحث عن الأفكار المختلفة، وعدم التعلق المستمر بالسائد من الأفكار التي أكل الدهر عليها وشرب، لهذا نجد أن العقول الراجحة تجدها دائما عن العلماء والمفكرين والمثقفين، هؤلاء الذين حرصوا على تنمية عقولهم بالبحث والاطلاع والمثابرة، وحماية العقل من كل أنواع الحماقات.
يقول الإمام الشيرازي: (العاقل كثير الشك كثير التفكر، والأحمق عكسه)
لماذا علينا دائما تنمية عقولنا؟، ما السبب الذي يدعو إلى تنفيذ ذلك، إن حياة الإنسان مزروعة بالشر مثلما هي مزروعة بالخير، ولكي يتجنب الشرور عليه أن ينمّي عقله باستمرار حتى يكون قادرا على فرز الخير عن الشر، لاسيما أنه يمتلك هذه الإمكانية كما أثبت العلم ذلك، وكما أثبتت التجارب الفعلية أيضا.
وهذا ما أكده الإمام الشيرازي حين قال: (العقل ينفذ إلى الشرور فيقلعها من الجذور)، وأضاف الإمام أيضا في كتابه نفسه: (العقل يطرد الشقاء)، أي أن العقل كلما كان سليما حكيما كان أكثر قدرة من سواه على تجنب الشرور وتقريب الخير، وبهذا فهو يطرد الشقاء عن حامله، ويجنّبه المشاكل الكثيرة التي تنتج عن وجوده في الحياة مع الآخرين.
لهذا هناك تأكيد علمي وتجريبي على أن مالك العقل المتميز بإمكانه امتلاك الأشياء النادرة التي يعجز عن امتلاكها الآخرون من أصحاب العقول العادية أو الفقيرة فكريا، وهذا ينطبق على الأمم والمجتمعات أيضا، فالمجتمع الفقير عقليا سوف يكون فقيرا في امتلاك أسباب ووسائل التقدم إلى أمام كما يحدث حاليا مع المجتمعات المتأخرة في المشهد العالمي.
من هنا يقول الإمام الشيرازي: إن (من فقد العقل لا يملك شيئاً، ومن وجد العقل لا يفقد شيئاً).
ومما لا شك فيه أن نوعية الحياة وفرادتها وتميزها، يرتبط بالعقلين (الفردي والجمعي)، فإذا كان العقل مفكّرا متمعنا متعمّقا متأملا، طارحا للأسئلة بشكل دائم، ومشككا بالحقائق حتى تثبت له، هذا النوع من العقول سوف يجعل الحياة أكثر حيوية، ويزيح إشكاليات كثيرة ومنها إشكالية التفكير العادي أو ما يسميه بعض المفكرين بإشكالية التفكير السطحي، لذا يجب مراعاة الإنسان لامتلاك العقل المفكّر المتدبّر بعمق.
يؤكد الإمام الشيرازي هذه النقطة فيقول: (كلّما زاد العقل تفكّرا زادت الحياة حيوية)
وهكذا بات واضحا لنا دور العقل في تحسين التفكير وتطويره، والتخلص من إشكالية التفكير العادي، كونه أحد أكبر الأسباب التي تُبقي على الفرد والمجتمع في حالة تراجع مستمر، وعدم قدرة على التنافس مع الآخرين في ميادين التقدم المختلفة بسبب الانشغال التافه بالملذات وكما اشار الإمام الشيرازي إن (من ضعف العقل الاهتمام بالملذات)، أما الاهتمام بأسباب جودة العقل كالعلم والمعرفة وإتقان التفكير والتأمل، فهو كفيل بحماية العقل من التفكير الساذج.