ماذا يحتاج المسلمون للنهضة المعاصرة
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2023-09-12 06:15
(كلّ شيء فارغ من الروح يتحول إلى سيف يُشهَر بوجه الإنسانيّة)
الإمام الشيرازي
يشكل المسلمون حاليا نسبة عالية من سكان الأرض، بالإضافة إلى تاريخهم المشرق، ودورهم المعروف في سجل التطور البشري، على مستوى الحريات والحقوق واليقظة في صنع وإدامة حياة متطورة متوازنة ومستقرة، ولكي يواكب المسلمون مستجدات العصر، ويصبحون جزءا لا يتجزّأ من العالم المعاصر، هناك عناصر وعوامل يحتاجون إليها لكي يتحقق هذا الهدف، فما هي الأمور المهمة التي يحتاجها المسلمون لكي يتطوروا باستمرار.
هناك قضايا مهمة يحتاجها كل فرد وكل أمة حتى يكون لها دورها في المشاركة البشرية العامة، ومن ثم دورها في العالم المعاصر، وقد سبق للمسلمين أن أسهموا بفاعلية كبيرة في تقدم البشرية على الصعيد العلمي والفكري والديني والاقتصادي، حتى أخذت منهم الأمم الأخرى الكثير من التجارب الناجحة، وطورتها، وتقدمت بشكل مستمر بالاستفادة من تجارب المسلمين لتصبح اليوم من الأمم المتقدمة.
هنالك أمور يحتاجها المسلمون لكي يتطوروا وينهضوا من جديد، وهذه الأمور يمكن تلخيصها في أركان محددة، منها الحاجة للحرية المسؤولة وليست المطلقة أو المنفلتة، كذلك لابد من استنهاض روح الإخاء فيما بين المسلمين لصناعة لُحمة أخوية إسلامية متماسكة، لكي تلوح في الأفق وتتشكل في الواقع وحدة إسلامية متينة، كما نجد ذلك في البلدان الغربية (دول الاتحاد الأوربي ورفع سمات التنقّل وحرية السفر وما شابه)، في حين لا تزال مثل هذه المعوقات موجودة بين الدول الإسلامية في عالمنا المعاصر.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول عن هذا الموضوع في كتابه القيّم الموسوم بـ (فقه المستقبل):
(المسلمون بحاجة إلى أمرين لبناء مستقبل أفضل: الأوّل: هو اليقظة الإسلامية في داخل البلاد الإسلامية، والأخذ بالحرّية المسؤولة، والأخوّة الإسلامية، والأمّة الواحدة، كما أنجزته البلاد الغربية في نطاق ضيّق في الآونة الأخيرة، حيث رفعت الحواجز الجغرافية، وتوطدت بينهم الأخُوّة نوعاً ما، كما سادت بعض الحرّيات أيضاً).
هذا الركن الهام، أو هذه النقطة المهمة يمكن أن تعيد للمسلمين مكانتهم الأولى، حين ظهرت البعثة النبوية وأعطت ثمارها العظيمة للعرب وللبشرية كلها مع بوادر نشر الرسالة، وإذا تصدى المفكرون والأناس الواعون فكرا وسلوكا، لهذه المهمة، فبالإمكان أن يعود المسلمون إلى صدارة قيادة البشرية كما هو عهدهم سابقا، وبالإمكان أن يعود الإسلام كقوة لإنقاذ العالم من جديد كما أنقذ البشرية من عالم الظلمات إبان ظهور الرسالة النبوية.
الإسلام يمكن أن ينقذ العالم
كذلك يمكن للمسلمين أن يكونوا النموذج الجيد الذي يتعلم منه الآخرون ويسيرون في خطواته الصحيحة، لأن الإسلام دين الإنسانية كلها، وهو المرشد لها حين يشتد الظلام حول البشرية، وقد سبق للغرب أن تعلموا على أيدي المسلمين التمدّن والثقافة والفكر والحريات المسؤولة، واستفادوا منها لتطوير حياتهم، كما أثبتت لنا سجلات التاريخ الموثوق بها.
يقول الإمام الشيرازي:
(إذا عمل الوُعاة من المسلمين بهذه الأمور في البلدان الإسلامية، وبالمجال الواسع الذي شرّعه الإسلام، سيظهر الإسلام كقوّة خيّرة جديدة للإنقاذ، لا لنفسه فحسب بل لغيره أيضاً، حيث يكون أُسوة كما كان المسلمون الأولون أسوة للغربيين فاقتدوا بهم، فصار عندهم نوع من المدنيّة والإنسانية والتقدّم، ممّا هو مشهور في صفحات التاريخ).
أما الأمر الثاني المهم الذي يحتاجه المسلمون، فهو يتمثل بأهمية اليقظة الإسلامية في خارج الدول الإسلامية، أي على المسلمين أن يسعوا لنقل قيم الإسلام ومبادئه إلى خارج البلدان الإسلامية، ولكن يحتاج هذا الهدف إلى أساليب خاصة من قبل المسلمين، تتسم بالسلم وعدم الإكراه والإقناع واللطف في توصيل الأفكار والقيم الإسلامية التي يمكن أن تنقل العالم كله من الحالة والواقع الصعب الذي يعيشه اليوم إلى واقع عالمي أفضل بكثير.
أما الفائدة الكبيرة التي يمكن أن يجنيها المسلمون والبشرية كلها من النهضة الإسلامية الخارجية، أو التي تتم خارج البلدان الإسلامية، فهي تكمن في إمكانية رفع الحواجز بين المسلمين أولا، وبين البشرية كلها ثانيا، حتى يعيش العالم في ربوع الحرية المسؤولة، بعيدا عن الانفصال والغلق والحدود وسمات الدخول والخروج التي تعزل البشرية وتفرق فيما بينها، وتصنع الحواجز المفتعلة فيما بين الناس والأمم والمجتمعات، وإذا استطاع المسلمون تحقيق هذا الهدف فإن السعادة سوف تشمل البشرية بلا استثناء.
الإمام الشيرازي يؤكد هذا الكلام قائلا: (الشيء الثاني الذي يحتاجه المسلمون هو اليقظة الإسلامية في خارج البلدان الإسلامية، أي الدول الأوروبية والولايات الأمريكية، وكذا اليابان والصين وروسيا والهند وبقية الدول. وذلك بكلّ لين ولطف ولا عنف، وبروح إنسانية وتعقّل، كما هي مبادئ الإسلام، حتّى تسقط الحواجز بين المسلمين وغير المسلمين، وبذلك يسعد غير المسلمين أيضاً في دنياهم).
اليقظة الإسلامية في الخارج
وكما يعيش العالم اليوم في ظل التمدد المادي الهائل والمادية المهيمنة، فإننا في الواقع نعاني من العيش في عالم مادي بحت، الأمر الذي جعل من البشرية كلها تحت وطأة القيم المادية بسبب تراجع المبادئ الصحيحة، وانفلات الحريات تحت مسميات ما أنزل بها الله من سلطان، وآخرها ما يسمى بحرية (النوع الاجتماعي)، وهذا كله بسبب انحسار القيم، لأن فراغ الشيء من الروح يجعل منه بوابة مفتوحة للشر.
لذلك فإن نهوض الدين، والإسلام والعودة إلى القيم الصالحة، سوف تحد من الهيمنة المادية، وبالتالي فإن تطور الروحانيات والتصوف يسهم بطريقة وأخرى في تعزيز هذا الجانب (الروحي) الذي يجب أن يكون حاضرا في مواجهة المدّ المادي القوي المتسارع، وهذا يمكن أن يتحقق حين يأخذ المسلمون بزمام الأمور ويتخلصوا من الخمول والكسل الذي يهيمن على حياتهم منذ فترات طويلة.
لذا يقول الإمام الشيرازي:
(إنّ المادية الغربيّة وما شابهها من أكبر معوّقات التقدّم والإنسانية؛ ذلك لأنّ المادة لا تعرف الروح، وكلّ شيء فارغ من الروح يتحول إلى سيف يشهر بوجه الإنسانيّة، كما أن الروحيّة البحتة والتصوّف المبتدع ضربة على الماديّة اللازمة).
ولابد من التذكير بأن النهوض بالمسلمين وبالعالم يجب أن يقوم على تعظيم القيم والمبادئ والأفكار الإيجابية، وهذه أهداف تحتاج إلى قيم كبيرة وصفات مهمة يجب أن تتوافر عند القائمين بهذه الأهداف، ولهذا يجب أن تتوافر صفة التواضع بقوة كونها تساعد الإنسان على أن يبقى تقدميا، وكل هذه الثغرات التي يعاني منها عالم اليوم تحدث بسبب تراجع المسلمين عن دورهم، وتخليهم عن النهضة الإسلامية التي يجب استعادتها من جديد.
يقول الإمام الشيرازي:
(الإنسان إذا أراد أن يعيش بصورة عادية احتاج إلى التواضع، فكيف إذا أراد أن يعيش تقّدميّا؟!، وأولى بذلك إذا أراد أن يعيش مُتقدَّماً عليهم).
هكذا تتضح لنا بجلاء تلك الحاجات المهمة التي تنقص المسلمين اليوم، بل وتنقص العالم كله، فالعالم الإسلامي يعيش في ظل كبوات متواصلة، وتراجع فكري، وتشتت في عالم الإبهار والمادية الغربية الساحقة، وهو ما يؤثر على الغرب نفسه وعلى العالم بأجمعه، مما يتطلب استنهاض الروح الإسلامية من جديد، وتصحيح النواقص والانحرافات التي تعصف بالمسلمين وبالعالم كله من خلال نهضة حقيقية في القيم والأخلاق والأفكار الراجحة.