الدراسات المستقبلية الموضوعية والبناء الحضاري في فكر الامام الشيرازي
موقع الامام الشيرازي
2015-09-26 02:19
يجمل المجدد آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي «أعلى الله درجاته» رؤياه المستقبلية التنبؤية الموضوعية، بأن فلسفة التأريخ، تحتاج الى حشر مفردات الموضوعات المختلفة، حتى يحصل الاستقراء التام، أو الاستقراء الناقص المفيد والمعلل، مما يمكن تنسيق القياس المنطقي فيها، من قضيتين، صغرى وكبرى، فهو منهج تجريبي استقرائي، وحدسي "أو إمبريقي"، ثم يستكمل بمنهج تحليلي عقلي، ويدعمه المنهج النقلي، لإعتماده الى المصادر المكتوبة، والوثائق والمستندات، والآثار والحفريات، والنتيجة ظناً، لكنه يفيد علماً.
ومن جهة أخرى، فإن دراسة فلسفة التاريخ، تتصل بالحاضر والمستقبل، فهي تستلزم أن يصل الباحث المفكر أو الفيلسوف المؤرخ، الى مستوى الوعي والإدراك، التي تتحقق عن حالة التداعي والتدهور الحضاري، لتثير فيه القلق نحو المستقبل، فيسعى الى التفكير والتدبّر في الماضي، لإستقراء الحاضر والمستقبل من مفرداته، غير أنه ليس منهجا عقليا صرفا، الذي هو عادة ظنيا لا قطعيا، كونه يقوم على الإستقراء الناقص، كما هي الفلسفة، التي تعتمد على أراء عقلية مجردة، في استشراف المستقبل، أما فلسفة التأريخ، فتعتمد الإستقراء التام أو المعلل.
وهنا يظهر الاختلاف، بين علة التاريخ، والعلة في فلسفة التاريخ، فقد يثبت المؤرخ للواقعة الواحدة، مجموعة من الأسباب والعلل، أما في فلسفة التاريخ، فهنالك إدعاء يعد علة، ولأن العلة الواحدة لا تصلح لجميع وقائع التاريخ، فتحاول فلسفة التاريخ، سد الثغرات بالتعاقب، فثغرة تتعلق بالماضي، وأخرى بالمستقبل، ومع أن التاريخ لا يتعلق بالمستقبل، بل عندما يجد المؤرخ، الروح العامة للتأريخ الماضي، فإن بمقدوره حينئذ التعميم للمستقبل.
ويعبر السيد المجدد عن ذلك، بأن التاريخ يعيد نفسه، بروحه العامة، وإن التاريخ القريب غير التاأريخ السابق، وذلك بمفرداته، ويعني بذلك مقولة أن "التأريخ هو ارتداد مستقبلي"، وهو يرجع الى فاعله، قريبا أو بعيدا أو مستقبلا، إن خيرا أو شرا، كمثل الشجرة، التي قد تعطي ثمارها سريعا، أو بعد حين.
ويرى السيد المجدد، في عرضه لمادة الإستقراء، من زاوية الدراسة المستقبلية، أن "دراسة التأريخ، في منهجه وغايته، تعتمد على الاستقراء والتمثيل والقياس المنطقي، كالعلوم الأخرى، وذلك لوحدة الجامع في العلوم، فالاستقراء هو تتبع للجزئيات، والأمور المتشابهة، ليستفاد منها الكلي العام".
وعليه فالاستقراء هو عكس القياس المنطقي أو "الأرسطوي"، الذي يخلص الى الجزئيات، من دراسة الكلّيات، بينما "التمثيل" في أدبيات المنطق، هو عين القياس الفقهي، في أدبيات المدارس الفقهية الإسلامية، والتي يبدو أن تسميته بالقياس، قد سبقت دخول تفريعات علوم المنطق، الى المناطقة المسلمين ومحققيهم.
فالمنهج البحثي الإستقرائي، في الدراسة التاريخية، يتبع جمع الوقائع "الجزئيات"، والوصول فيها الى "الكليات"، غير أن الاستقراء التام، وهو ما يعبّر عنه بالمنهج الإمبريقي أو الوصفي الشامل، ينتج حجة قطعية، بينما ينتج الاستقراء الناقص، وهو المنهج التجريبي، حجة ظنّية، ترتقي الى القطع في حالة كونه استقراءً معللا، أو مشفوعا بما يعبر عنه بسد الذرائع، أو حتى على نحو القياس أو الإستحسان.
وتتبع هذه الدراسات منهجا علميا، يعتمد تقنين العلوم، وفق الصورة "الإبستيمولوجية"، أو ما يعرف بفلسفة العلم، أو "علم العلم"، والتي اعتمدها الغرب أساسا، من "كليات" إبن رشد، وخاصة الفيلسوف "هيوم"، الذي يعدّ الفاتح للمنهج التجريبي العلمي، وكما يثبت التراث العربي الإسلامي، أن العلامة الحلي، كان متقدما في مناهجه البحثية، في رؤيته للعلم التجريبي، الذي استمده من النصوص النقلية، فضلا عن فطرة الإنسان.
والمعنى أن لكل علم فلسفته، كما للتاريخ فلسفة التاريخ، فكذا ينظر الى فلسفة الرياضيات أو فلسفة الفيزياء، والتي يقصد بها الروح العامة للعلم وكلياته، وهي التي قصدها ابن رشد في مصنفاته "الكلّيات"، بدءً بالكلّيات في الطب، حيث نظر اليه كعلم بتقنينه وقواعده، وهو ما عرف لاحقا بالإبستيمولوجية، أو فلسفة العلم، وفق بعض تعريباتها، وهي بأدق لغة عن اليونانية، "علم العلم"، ثم نتج عنها "نظرية المعرفة"، وكذا يمكن رصد "إبستيمولوجية" الشعوب، وفق ثقافاتها وقيمها وأعرافها، والتي تشمل محرماتها "تابوهاتها" الثقافية، وفق الفهم الأوسع للثقافة، الذي يشمل القيم والأعراف والتراث والتقاليد الموروثة.
يخلص السيد المجدد، عن مقدماته في المباحث ذات الصلة، الى أن فلسفة التأريخ، في تشابهها، للعلوم الطبيعية والإنسانية، من جهة غاية العلم في تسخيره لمصلحة الإنسان، فهي تهدف الى تزويده بأحكام، تمكنه من فهم معنى الأحداث الحاضرة، ثم إستشراف المستقبلية في ضوء خبرته بالماضي.
وقد تفصّل سماحته في هذه الجزئية في كتابه "فقه المستقبل"، من موسوعة الفقه، وهو المفهوم والمعنى للدراسات المستقبلية، إذ أن التاريخ الماضي والحاضر والمستقبل، كلّه بروح عامة، وفي ذلك يفسر الرؤية الأرسطوية لفردية وقائع التأريخ، أنها لا ترتقي الى نقض كليات فلسفة التأريخ وقوانينه، لكنها يجب أن تكون بشرائطها.
وعليه فعند التعبير العام عن الحضارة، بالمعنى الواسع لها، يمكن أن تكون لمفردات كل من الحقول والمرتكزات الاستراتيجية أو القيمية فيها، روح عامة، تسري في تلك الجهة أو الجهات كلها مجتمعة، لتكوّن البناء الحضاري، وفقاً لمعناه الواسع، إما حقيقة أو توسعا أو مجازاً، فالتحليل التأريخي ليس له حدود معينة في أذهان الجميع، عكس التحليل الحسابي والهندسي، وفي النتيجة أن الحضارات حالها حال الكائنات الأخرى، فيها ميلاد وشباب وشيخوخة وفناء، لكنه فناء الكيفية وليس الفناء المطلق.
إن صياغة المادة التأريخية، بشكل علمي، يتجاوز حدود الوصف والسرد، الى التعليل والسببية، من خلال العلة والسبب، والمسبب والمعلول، سيصل بالتحليل التأريخي، الى الأحكام الكلية الجارية في السابق والحاضر والمستقبل، وبذلك يتمكن أن يتنبأ بالمستقبل تنبؤا علميا.
ويستدرك المجدد في هذه الجزئية، أن منطق التفسير في الأمور الطبيعية، أو في غير الطبيعية، هو واحد في جوهره، في كل من التأريخ والعلوم الطبيعية، فلا يكون التنبؤ حينئذ علميا، بل هو قائم على قوانين عامة، لا غنى عنها لمن يريد تحليل التأريخ، لكنها لا ترتقي الى الحتمية والقطعية، كتأثير التدخلات غير المعلومة، فقد يكون الإمكان قويا، وقد يكون الاحتمال قوياً، وقد يكون الإمكان أو الاحتمال ضعيفا، بدرجات الضعف المتفاوتة، بين القطع ونقيصته.
وقد تعزى مقاربة سماحته، الى أن التفسير في العلوم الطبيعية، لا يقبل التقريب والإفتراض، بينما في الإنسانية يقبل ذلك، وهو جوهر الفرق بين منهج المنطق العقلي، والمنهج التجربيبي الإستقرائي، فالأول يقبل إحتمالية كبيرة في الخطأ، في حين لا يقبلها الثاني.
والمعنى أن اعتماد المنهج التجريبي في البحث التاريخي، يخلص الى احتمالات ضعيفة في عملية التنبؤ المستقبلي، في حين أنها تخلص الى احتمالات كبيرة في البحوث الطبيعية، وفي ذلك يرى الفقيه المجدد، الى أن "إرادة الله تعالى، لا تدع شيئا إلا وتتدخل فيه، زيادة ونقيصة وإفناءا وإيجادا"، لذا يبقى المجال للإمكان والاحتمال، قويان كانا، أو بدرجات من الضعف.
فالتفسير في فلسفة التاريخ، يكون منسجما واستخدام العصر للمصطلحات والمفاهيم، فيجري بذلك عزل الموضوع، كما هو عزل الظاهرة عن الزمان والمكان، في الدراسة الإجتماعية، لغرض الوصول الى الأحكام الكلية، التي تمكّن من الوصول الى التنبؤ العلمي الصائب.
فالبحث العلمي، لابد يكون مجرداً وموضوعياً ورصيناً، ليفضي الى مخرجات صحيحة، بمعنى أن المعطيات الموضوعية، لها نتائج واقعية وصحيحة، في تفسير التاريخ، وهو ما يعبر عنه السيد المجدد، بمعرفة الأسباب والمسببات، وإستكشاف العلل والمعلولات، التي تفضي اليها معرفة فلسفة التأريخ.