الرضا راحة الموقنين والسخط عذاب المحبطين
المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي
2023-02-08 05:30
الكون كله خاضع تحت إرادة الله الواحد القهار، لا يحيد عنها قيد شعرة، فقد: (قالتا أتينا طائعين)(1) وجزء من هذا الكون ـ وهو الانسان ـ خاضع لهذه الإرادة الإلهية لا يتمكن أن يحيد عنها قيد شعرة، إلا بقدر ما أراد الله سبحانه فأعطاه الزمام، وأثر الانسان في الكون أقل من أثر النملة على الصفاة الملساء.
إنّ الانسان يتمكن من (البناء) ومن (الطيران) ومن السير بوسائل مختلفة، لكن كم تقدر نسبة هذه الأمور إلى الأرض التي تسكنها؟ فكيف بالكون كله؟.
ثم إنّه قد:
جرى قلم القضاء بما يكون***فسيان التحرك والسكون
إلاّ في حدود ضيقة جدّاً شاءت الإرادة الكلية أن يكون للإنسان بعض المصيب (... لنبلوهم أيّهم أحسن عملاً)(2).
فإذا رضي الانسان بما قدّره الله سبحانه، من حياة وموت، وصحة وسقم، وغنى وفقر، وارتفاع وانخفاض، أو ما أشبه، كان مطمئن الخاطر في الحياة، مثاباً بعد الممات وإلا لم يحصل إلا الاضطراب في هذه الدنيا، والعقاب في الآخرة، ولذا يلزم على الانسان أن يدّرب نفسه على (الرضا) وينمي في نفسه هذه الملكة الشريفة.
وليس معنى الرضا الاستسلام والكسل وعدم العمل، بل معناه: أن يعمل الانسان حسب المستطاع، وكما أمر الله، في مختلف شؤون الحياة، ثم إذا جاء القدر لم يغضب ولم يسخط وإنّما يتقبّله بقبول حسن، حتى يوفي في أجره غير منقوص.
وقد أرصد الإسلام لهذه الناحية المهمة أكبر رصيد، ففي الخبر القدسي: (أنا الله لا إله إلا أنا، من لم يصبر على بلائي، ولم يشكر على نعمائي، ولم يرض بقضائي، فليتـّخذ ربّا سواي)(3) وفي خبر قدسي آخر: (قدّرت المقادير ودبّرت التدبير، أحكمت الصنع، فمن رضي، فله الرضا مني حين يلقاني، ومن سخط فله السخط مني حين يلقاني)(4) وقال موسى (عليه السلام) في مناجاته لله سبحانه: (إي رب أي خلقك أحبّ إليك؟ قال: من إذا أخذت منه المحبوب سالمني، قال (عليه السلام): فأي خلقك أنت عليه ساخط؟ قال: من يستخيرني في الأمر، فإذا قضيت له سخط قضائي)(5).
ولعلّ معنى (يستخيرني في الأمر) أنّه يطلب مني أن أجعل الخير في عمله فإذا عمل بذلك، ورأى ضرراً سخط ما قدّرت له!
وقال الإمام الباقر (عليه السلام): (ومن سخط القضاء، مضى عليه القضاء، وأحبط الله أجره)(6) وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (كيف يكون المؤمن مؤمناً وهو يسخط قسمته، ويحقر منزلته، والحاكم عليه الله، وأنا الضامن لمن لم يهجس في قلبه إلا الرضا أن يدعو الله فيستجاب له)(7) إنّ هذا الضمان كبير جدّاً، لكن الشرط أيضاً مشكل، فإن الرضا المطلق لا يحصل إلا بعد طول المجاهدة.
وانظر إلى هذا الحديث الذي فيه التحذير والترغيب على حد سواء، روي إنّه أوحى الله تعالى إلى داود (عليه السلام): (تريد وأريد وإنما يكون ما أريد، فإن أسلمت لما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لما أريد، أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد)(8).
وفي الحديث: (إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سأل أصحابه: ما أنتم؟ فقالوا: مؤمنون، فقال: ما علامة إيمانكم؟ فقالوا: نصبر على البلاء، ونشكر عند الرضاء، ونرضى بمواقع القضاء، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): مؤمنون ورب الكعبة)(9) وفي خبر آخر أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء)(10).
وقال (صلى الله عليه واله وسلم): (إذا أحبّ الله عبداً ابتلاه، فإن صبر اجتباه، فإن رضي اصطفاه)(11) ولنقف قليلاً عند هذا الحديث فالله سبحانه لا يحب العبد إلا إذا كان مطيعاً، فإذا أطاع أحبّه وهناك درجة أرقى من درجة الحب ولا ينالها إلا الذي يبتلي فيصبر ولذا يدرج الله محبوبه بالابتلاء والشدائد إلى هذه الدرجة، فإن نجح وذلك بأن صبر في البلاء فلم يجزع ولم يعمل عملاً يكرهه الله تعالى (اجتباه) أي اختاره، والمختار ـ كما نشاهد ـ قسمان: قسم مصفّى من جميع الشوائب، وهذا هو(المصطفى) وقسم ليس بهذه المنزلة فالمبتلى أن رضي بالابتلاء ـ وهو فوق الاصطبار ـ كان جديراً بالاصطفاء، وهذه درجة رفيعة جدّاً لا ينالها إلا الأوحدي من الناس وقليل ما هم!
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا كان يوم القيامة، أنبت الله لطائفة من أمّتي أجنحة، فيطيرون من قبورهم إلى الجنان، يسرحون فيها ويتنعّمون كيف شاؤوا؟ فتقول لهم الملائكة: هل رأيتم الحساب؟ فيقولون: ما رأينا حساباً، فتقول لهم: هل جزتم الصراط؟ فيقولون: ما رأينا صراطاً، فتقول لهم: هل رأيتم جهنم؟ فيقولون: ما رأينا شيئاً، فتقول الملائكة: من أيّة أُمّة أنتم؟ فيقولون: من أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول: ناشدناكم الله، حدّثونا: ما كانت أعمالكم في الدنيا؟ فيقولون: خصلتان كانتا فينا، فبلّغنا الله هذه المنزلة، بفضل رحمته فيقولون: وما هما؟ فيقولون: كنا إذا خلونا نستحي أن نعصيه، ونرضى باليسير مما قسم لنا فتقول الملائكة: يحقّ لكم هذا)(12).
إنّ هاتين الصفتين (الاستحياء في الخلاء) و(الرضى باليسير) في قمّة الفضائل، التي ما وراءها قمّة، فإن الحياء في الخلاء، يدل على ملكة راسخة في القلب تبعث على الخوف والخجل من الله سبحانه ومن المعلوم: إنّ الذي يخجل من الله تعالى لا يعصيه وإنما يفعل ما يأمره الله. والرضا باليسير لا يتسنى لكل أحد، وانما هو صفة راسخة في النفس يرى الإنسان لسبب هذه الصفة إنّ الله محسن إليه، وإن أعطاه اليسير، وإنّ ذلك لمصلحة وحكمة، ولو دققت اليوم في المسلمين لوجدت قلة قليلة منهم بهذه الصفة.
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (ان الله بعدله وحكمته وعلمه جعل الروح والفرح في اليقين والرضى عن الله تعالى، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط)(13).
إنّ المتيقن بثواب الله، والراضي بفعل الله، لا بد وأن يرتاح ويفرح بما يأتيه بخلاف الشاك الساخط، فهذه الفضيلة ـ اعني الرضا ـ توجب خير الدنيا قبل خير الآخرة، وأي خير احسن من الروح والفرح؟.
وقال الإمام السجاد (عليه السلام): (الصبر والرضا رأس طاعة الله، ومن صبر ورضي عن الله فيما قضي عليه، فيما أحب أو كره، لم يقض الله عز وجل له فيما أحب أو كره إلا ما هو خير له)(14).
وقال الإمام الباقر (عليه السلام): (أحقّ خلق الله أن يسلّم لما قضى الله عز وجل، من عرف الله عز وجل، ومن رضي بالقضاء، أتى عليه القضاء، وعظّم الله أجره، ومن سخط القضاء، مضى عليه القضاء، وأحبط الله أجره)(15).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (أعلم الناس بالله، أرضاهم لقضاء الله)(16) وقال (عليه السلام): (قال الله عز وجل عبدي المؤمن لا أصرفه في شيء إلا جعلته خيرا له فليرض بقضائي، وليصبر على بلائي، وليشكرنعمائي، أكتبه يا محمد من الصديقين عندي)(17).
إنّ الله سبحانه لا يريد بالعبد شرّاً فإذا وصل إليه شيء مما يكره، مما لا يدله في ذلك الشيء، كان له من الله أجراً جزيلاً وثواباً جميلاً، أما اذا لم يرض فما الفائدة؟ إنّه خسر الدنيا، كما خسر الآخرة، وأقل خسران الآخرة ان لا ينال نصيبه من الثواب، أليس ذلك خسارة كبيرة، ولذا كان أعلم الناس بالله وبحكمه في اُموره أرضاهم لقضائه.
انظر إلى هذا الحديث المروي عن الإمام (عليه السلام): انه سبحانه أوحى إلى موسى بن عمران (عليه السلام): (يا موسى بن عمران ما خلقت خلقاً أحبّ إليّ من عبدي المؤمن، فإنّي إنّما ابتليته لما هو خير له، وأُعافيه لما هو خير له، وأزوي عنه ما هو شرٌّ له، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي، فليصبر على بلائي، وليشكر نعمائي، وليرض بقضائي، اكتبه في الصدّيقين عندي، إذا عمل برضائي وأطاع أمري)(18).
وقال (عليه السلام): (عجبت للمرء المسلم، لا يقضي الله عز وجل له قضاء إلا كان خيراً له، إن قرض بالمقاريض كان خيراً له، وإن ملك مشارق الأرض ومغاربها كان خيراً له)(19).
وهنا نكتة لا بد من التنبيه عليها، وهي إنّ بعض الناس يظنون أنّ الرضا بالقضاء يلازم الاتكال وترك الأسباب، والانفلات عن قبضة العلل والمعلول، أليس كل شيء بقضاء وقدر؟ أليس من رضي فله من الله الرضا ومن لم يرض جرى عليه القضاء ولا أجر له؟.
ولكن هذا من أعظم الاشتباه، إنّ الله سبحانه جعل الدنيا دار السبب والمسبب وأمر بالتوصل بالأسباب إلى مسبباتها، لكن هناك شيئين خارجين عن مقدور الانسان (الأول) بعض الأسباب (الثاني) الأمور الاتفاقية، مثلاً الانسان الذي ليست له قوة، لا يتمكن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد يزرع الزارع ولكن الرياح الخارجة عن قدرته تسبب فساد الزرع.
فمحل الرضا بالقضاء، هذان الأمران، ومحل العمل والكد والجد، الأمور الإختيارية التي للإنسان شأن فيها وله قدرة عليها.
وكل واحد من الاتكال على القضاء ـ المزعوم ـ بعدم العمل والكد، فيما بيد الانسان طريقه ويتمكن من سببه. ومن عدم الرضا بالقضاء فيما لا إرادة للإنسان فيه، خروج عن سنن الكون وتضييع للواقع، فإذا أصاب الانسان مرض مثلاً، يلزم أن يذهب إلى الطبيب ويستعمل الدواء، فإذا لم ينجح الدواء وأزمن المرض يلزم ان يرضى بالقضاء، أما عدم الذهاب إلى الطبيب ـ بزعم انه قضاء وعليه أن يرضى ـ أو إذا ذهب ولم يبل يغضب ولا يرضى، فكلا الأمرين خبال واشتباه.
ولكن ليعلم أنّ هناك من الناس من يشطّ عن جادة الصواب، ويتّكل على الأسباب فقط ناسياً رب الكون وأنّه المقدر والمسير والموصل إلى النتيجة، هذا جهل وزيغ وانحراف.
ولو مثلنا الواقع ـ ولا مناقشة في الأمثال ـ بإنسان يريد الوصول إلى النجف الأشرف، فاللازم أن يركب السيارة ويسوقها السائق حتى يصل، (ا) فإذا لم يركب السيارة، بزعم أنّ وصوله إلى النجف وعدم وصوله بقضاء وقدر، فلم يتعب نفسه؟ كان إغراقاً من جهة الإتّكال (ب) وإذا ركب السيارة وزعم أنّها هي السائرة بلا وساطة سائق، كان زيغاً وضلالاً (ج) وإذا ركب واعتقد بالسائق، لكنها خربت في الطريق ثم لم توصله، فغضب وأبدى عدم رضاه كان من عدم معرفة بالواقع، ولا يفيد غضبه وسخطه.
والنفس المتوسطة التي لا تكون منحرفة إلى أحد الأطراف الثلاثة الزائفة، لا تحصل إلا بعد طول الفكر والروية، وإعمال القوة الروحية، وإذا حصلت كان الانسان متوسّطاً عدلاً، لم يتحسّر على ما لا حيلة له فيه، ولا يحزن لما يصيبه حزن أهل الدنيا، ولا يعتمد على الأسباب مما يفسد عليه جمال التوكل وسعة الروح المتطلعة إلى عالم الغيب.
ولذا ورد في القرآن الحكيم: (ألا إنّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)(20) فإنه ليس المراد عدم الحزن مطلقاً، وإلا فقد حزن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على ولده إبراهيم (عليه السلام) وحزن الإمام الحسين (عليه السلام) على ولده علي الأكبر (عليه السلام) إلى غيرهما، بل المراد حزن أهل الدنيا الذين يرون الأسباب والمسبّبات ولا يرون الحكم والمصالح والفوائد الآجلة والعاجلة، والثواب والجزاء، وهكذا الكلام بالنسبة الى (لا خوف عليهم) فإنه لا ينافي خوف موسى (عليه السلام) من فرعون وملائه، فإن المراد خوف أهل الدنيا الذين يرون (ما وراء عبادان قرية).
وقد ورد في الحديث القدسي ان الله سبحانه قال لداود (عليه السلام): (يا داود ما لأوليائي والهمّ بالدنيا، إنّ الهمّ يذهب حلاوة مناجاتي من قلوبهم إنّ محبتي من أوليائي أن يكونوا روحانيين لا يغتـّمون)(21).
كما أنّ ما ورد من إنّ الأمور كلها بيد الله تعالى كقوله تعالى: (... وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى...)(22) وقوله سبحانه: (إنّ الله هو الرّزاق...)(23) وما أشبه وكلّها ناظرة إلى جهة السير وواقع المسير والموصل، فالله هو الموصل ولكن بالأسباب.