الزهد.. اعتدال وحكمة

المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي

2022-06-28 07:43

جاء أحد الزهاد إلى سلطان مترف وهو في بذخه وسرفه وجاهه وإمرته فالتفت إليه السلطان قائلاً: أنت زاهد؟ قال الزاهد: وأنت أزهد مني! قال الملك: وكيف؟ قال الزاهد: لأني زهدت في الدنيا الفانية، وأنت زهدت في الآخرة الباقية!

إن القصة على قصرها تعرّفنا بمعنى الزهد: إنّه ترْك لشيء رغبةً عنه... ويراد من الزهد في الدنيا، الانصراف عن ملاذها المحظورة وشهواتها الممقوتة.. أمّا ترك الدنيا فليس من الزهد، إنما هو حمق وانحراف.

ولكن حيث إن الناس يتهافتون على الدنيا ولذاتها تهافت الفراش في النار، جذب الأنبياء والأئمة عليهم الصلاة والسلام الزمام كثيراً حتى يعتدل السير، كراكب الدابة الجاذب زمامها بشدة في مواطن الهلكة.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من أصبح وهمّه الدنيا شتّت الله عليه أمره وفرّق عليه صنيعته، وجعل فقره بين عينيه ولم يؤته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح وهمّه الآخرة جمع الله له همّه، وحفظ عليه ضيعته، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)(1).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا رأيت أخاك قد زهد في الدنيا فاستمع منه فإنه يلقّن الحكمة)(2).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (من أراد أن يؤتيه الله علماً بغير تعلم وهدىً بغير هداية فليزهد في الدنيا)(3).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إزهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس)(4).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (يا علي، من عرضت له دنياه وآخرته، فاختار الآخرة وترك الدنيا، فله الجنة، ومن اختار الدنيا إستخفافاً بآخرته فله النار)(5).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (سيأتي على الناس زمان لا ينال الملك فيه إلا بالقتل والتجبر، ولا الغنى إلا بالغصب والبخل، ولا المحبة إلا باستخراج الدين واتـّباع الهوى، ألا فمن أدرك ذلك الزمان منكم، فصبر على الفقر، وهو يقدر على الغنى، وصبر للبغضاء وهو يقدر على المحبة، وصبر على الذل، وهو يقدر على العز، لا يريد بذلك إلا وجه الله، أعطاه الله ثواب خمسين صدّيقاً ممن صدّق بي)(6).

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (يا ابن مسعود! فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فإن النور إذا وقع في القلب انشرح وانفسح، قيل يا رسول الله: وهل لذلك من علامة؟ قال: نعم.. التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله)(7).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: إنا لنستحي منه تعالى! قال: ليس كذلك، تبنون ما لا تسكنون؟ وتجمعون ما لا تأكلون؟)(8).

وقدم إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعض الوفود.. فقالوا: إنا مؤمنون! قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (وما علامة إيمانكم؟) فذكروا: الصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمواقع القضاء، وترك الشماتة بالمصيبة إذا نزلت بالأعداء!! فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن كنتم كذلك فلا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تنافسوا فيما عنه ترحلون)(9).

فهذه الخصال هي الزهد وقد جعلها (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكملات الإيمان.

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (من جاء بـ (لا إله إلا الله) لا يخلط معها غيرها وجبت له الجنة)(10).

وفسر (غيرها) بحب الدنيا وطلبها.

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (ما زهد عبد في الدنيا إلا أنبت الله الحكمة في قلبه، فأنطق بها لسانه، وبصرّه بعيوب الدنيا ودائها ودوائها، وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام)(11).

وروي: (إنّ بعض زوجاته بكت مما رأت به من الجوع، وقالت له: يا رسول الله ألا تستطعم الله فيطعمك؟ فقال: والذي نفسي بيده لو سألت ربي أن يجري معي جبال الدنيا ذهباً لأجراها حيث شئت من الأرض، ولكني اخترت جوع الدنيا على شبعها وفقر الدنيا على غناها وحزن الدنيا على فرحها، إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد، إن الله لم يرض لأولي العزم من الرسل إلا الصبر على مكروه الدنيا، والصبر عن محبوبها، ثم لم يرض لي إلا أن يكلّفني مثل ما كلفهم فقال: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل...)(12) والله ما لي بد من طاعته وإنّي والله لأصبرن كما صبروا بجهدي ولا قوّة إلا بالله)(13).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا يستكمل العبد الإيمان، حتى يكون ألا يعرف أحب إليه من أن يعرف، وحتى يكون قلة الشيء أحبّ إليه من كثرته)(14).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا أراد الله بعبد خيراً فقـّهه في الدين، وزهّده في الدنيا، وبصّره بعيوب نفسه)(15).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات، ومن خاف من النار ترك الشهوات، ومن ترقّب الموت أعرض عن اللذات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات)(16).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن ربي عز وجل عرض علي: أن يجعل لي بطحاء مكة ذهباً؟ فقلت: لا يا رب، ولكن أجوع يوماً وأشبع يوماً، فأما اليوم الذي أجوع فيه، فأتضرع إليك، وأدعوك، وأما اليوم الذي أشبع فيه، فأحمدك واُثني عليك)(17).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (قال الله تعالى: إن من أغبط أوليائي عندي: رجلاً خفيف الحال، ذا حظّ من صلاة، أحسن عبادة ربه بالغيب وكان غامضاً في الناس، جعل رزقه كفافاً فصبر عليه عجلت منيته فقلّ تراثه وقلّ بواكيه)(18).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (ثلاثة: زاهد، وصابر، وراغب، فأمّا الزاهد فقد خرجت الأحزان والأفراح من قلبه، فلا يفرح بشيء من الدنيا، ولا يأسى بشيء منها فاته فهو مستريح، وأما الصابر فإنه يتمناها بقلبه، فإذا نال منها ألجم نفسه عنها بسوء عاقبتها وشنأتها ولو اطّلعت على قلبه، لعجبت من عفته وتواضعه وحزمه، وأما الراغب فلا يبالي من أين جاءته الدنيا من حلّها أو حرامها، ولا يبالي ما دنّس فيها عرضه وأهلك نفسه وأذهب مروءته فهم في غمرتهم يعمهون ويضطربون)(19).

وقال (عليه السلام): (إن من أعوان الأخلاق على الدين: الزهد في الدنيا)(20).

وقال (عليه السلام): (من جمع ست خصال، لم يدع للجنة مطلباً ولا عن النار مهرباً: عرف الله فأطاعه، وعرف الشيطان فعصاه، وعرف الدنيا فتركها، وعرف الآخرة فطلبها، وعرف الباطل فاتّقاه، وعرف الحق فاتّبعه)(21).

وقال (عليه السلام): (من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات ومن خاف النار لهى عن الشهوات ومن ترقب الموت ترك اللذات ومن زهد في الدنيا، هانت عليه المصيبات)(22).

وقال (عليه السلام): (إنّ علامة الراغب في ثواب الآخرة: زهده في عاجل زهرة الدنيا. أما إن زهد الزاهد في هذه الدنيا لا ينقصه مما قسم الله عز وجل له فيها وإن زهد، وإنّ حرص الحريص على عاجل زهرة الدنيا لا يزيده فيها وإن حرص، فالمغبون من حُرم حظّه من الآخرة)(23).

وقال زين العابدين (عليه السلام): (ما من عمل بعد معرفة الله عز وجل ومعرفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل من بغض الدنيا)(24).

وقال الباقر (عليه السلام): (أكثر ذكر الموت فإنه لم يكثر إنسان ذكر الموت إلا زهد في الدنيا)(25).

وقال (عليه السلام): (قال الله تعالى: وعزتي وجلالي وعظمتي وبهائي وعلو ارتفاعي لا يؤثر عبد مؤمن هواي على هواه في شيء من أمر الدنيا إلا جعلت غناه في نفسه، وهمّته في آخرته، وضمنت السماوات والأرض رزقه، وكنت له من وراء تجارة كل تاجر)(26).

وقال (عليه السلام): (أعظم الناس قدراً من لا يتناول الدنيا في يد من كانت، فمن كرمت عليه نفسه صغرت الدنيا في عينيه، ومن هانت عليه نفسه كبرت الدنيا في عينيه)(27).

وقال الصادق (عليه السلام): (جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا)(28).

وقال (عليه السلام): (ما أعجب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيء من الدنيا إلا أن يكون فيها خائفاً جائعاً)(29).

وقال (عليه السلام): (إذا أراد الله بعبد خيراً: زهّده في الدنيا وفقّهه في الدين، وبصّره عيوبها ومن اُوتيهنّ فقد اُوتي خير الدنيا والآخرة)(30).

وقال (عليه السلام): (لم يطلب أحد الحق بباب أفضل من الزهد في الدنيا، وهو ضدٌّ لما طلب أعداء الحق)(31) أي الرغبة فيها.

وقال (عليه السلام): (ألا من صبّار كريم؟ فأنما هي أيام قلائل إلا أنه حرام عليكم إن تجدوا طعم الإيمان حتى تزهدوا في الدنيا)(32).

وقال (عليه السلام): (الزهد مفتاح باب الآخرة والبراءة من النار، وهو تركك كل شيء يشغلك عن الله من غير تأسّف على فوتها، ولا إعجاب في تركها، ولا انتظار فرج منها، ولا طلب محمدة عليها، ولا عوض منها، بل يرى فوتها راحة، وكونها آفة، ويكون أبداً هارباً من الآفة معتصماً بالراحة. والزاهد الذي يختار الآخرة على الدنيا، والذل على العز، والجهـــد على الـــراحة، والجوع عــلـى الشبع، وعافيـــة الآجل على محبة العاجل، والذكر على الغفلة، وتكون نفسه في الدنيا وقلبه في الآخرة)(33).

وقال الرضا (عليه السلام): (من أصــــبح وأمسى معافـــاً في بدنه، آمـــناً في سربه، عنده قـــوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا)(34).

هذه جملة من روايات الزهد.

وقد أكثر الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) قولاً وعملاً في هذا الباب حتى ليظن الظان أنّهم يسوقون الناس إلى تخريب الدنيا كما زعمت الصوفية، ولكن الأمر بالعكس إنّهم يريدون عمارة الدنيا عمارة معتدلة لا غلو فيها ولا تفريط فكل غلو وتفريط تنكب عن الطريق وإهلاك عاجل مع الغض عما يترتب عليه من خسارة الدار الآخرة.

فالماديون يتكالبون على الحطام وبذلك تصبح الدنيا بؤرة من القذارات الخلقية، واُتوناً من الحروب المدمرة والكنيسيون الراهبون وأهل التصوف يطوون عن الدنيا كشحاً، وبذلك تخرب الأرض وقد أرادها الله عامرة.

أما الإسلام فأنه يحب الوسط وفي سيرة الرسول والأئمة (عليهم السلام) خير شاهد لذلك أنّهم (عليهم السلام) وإن أخذوا أنفسهم بالزهد ولكنهم لم ينسوا نصيبهم من الدنيا.

وفي ظل من عمّرت الدنيا وازدهرت الحضارة الحقيقية التي لم ير العالم لها مثيلاً قبل الإسلام ولا من حين خلعت ربقة الإسلام من عنقه منذ نصف قرن ـ تقريباً ـ؟! إنّه في ظل الإسلام (... ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة...)(35).

وليس معنى هذه الأحاديث ترك الدنيا وإنما معناها عدم التكالب عليها وهذا هو مقتضى الجمع بين هذه الأخبار وبين غيرها أما من ينظر إلى هذه فقط أو تلك ـ مما تدل على الغنى والدنيا ـ فقط فهو كبنّاء يريد أن يبني داراً من الآجر فقط أو الجصّ فقط، عمارته موهومة وبناؤه مزعوم.

(سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين)(36).

* مقتطف من كتاب الفضيلة الإسلامية للمرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي

..................................
1 ـ جامع السعادات: 2/59.
2 ـ مكارم الأخلاق: 463.
3 ـ جامع السعادات: 2/59.
4 ـ جامع السعادات: 2/59.
5 ـ جامع السعادات: 2/59.
6 ـ أصول الكافي: 2/91 ـ جامع السعادات: 2/59.
7 ـ مكارم الأخلاق: 447 ـ جامع السعادات: 2/59.
8 ـ جامع السعادات: 2/60.
9 ـ جامع السعادات: 2/60.
10 ـ جامع السعادات: 2/60.
11 ـ مكارم الأخلاق: 463 ـ جامع السعادات: 2/60.
12 ـ سورة الأحقاف: آية 35.
13 ـ جامع السعادات: 2/60.
14 ـ جامع السعادات: 2/60.
15 ـ مكارم الأخلاق 463 ـ جامع السعادات: 2/61.
16 ـ مكارم الأخلاق 447 ـ جامع السعادات: 2/61.
17 ـ جامع السعادات: 2/61.
18 ـ أصول الكافي: 2/140 ـ جامع السعادات: 2/61.
19 ـ جامع السعادات: 2/62.
20 ـ جامع السعادات: 2/62.
21 ـ جامع السعادات: 2/62.
22 ـ جامع السعادات: 2/62.
23 ـ أصول الكافي: 2/129 ـ جامع السعادات: 2/63.
24 ـ أصول الكافي: 2/130 ـ جامع السعادات: 2/63.
25 ـ أصول الكافي: 2/131 ـ جامع السعادات: 2/63.
26 ـ أصول الكافي: 2/137 ـ جامع السعادات: 2/63.
27 ـ جامع السعادات: 2/63.
28 ـ أصول الكافي: 2/128 ـ جامع السعادات: 2/63.
29 ـ أصول الكافي: 2/129 ـ جامع السعادات: 2/63. (نحوه).
30 ـ أصول الكافي: 2/130 ـ جامع السعادات: 2/63.
31 ـ جامع السعادات: 2/63.
32 ـ أصول الكافي: 2/130 ـ جامع السعادات: 2/64.
33 ـ جامع السعادات: 2/64.
34 ـ جامع السعادات: 2/64.
35 ـ سورة البقرة: آية 201.
36 ـ سورة الصافات: الآيات 180 إلى 182.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي