في ذكرى رحيل الامام الشيرازي.. اصالة الفكر وتجديد المنهج

شبكة النبأ

2022-05-05 05:51

سجلت أسرة آل الشيرازي، عبر العديد من مراجعها التجديديين وعلمائها القادة، مواقف رائدة أسست من خلالها منهج (إيماني – إنساني – أخلاقي)، يهدف الى الإصلاح والتجديد والتنمية والرفاه والفضيلة، عبر الحوار السليم والتواصل المبني على الوضوح والأمانة، والتعاون على البر والتقوى، في أجواء يتلازم فيها السلام والحرية المتلازمة أصلاً مع العدالة.

أصالة الفكر والمنهج

لقد استدل أهل العلم والخبرة، من خلال الموسوعة الفقهية، على إن الإمام الشيرازي الراحل قد تميز بعمقه الفقهي وغناه الموسوعي، وفكره الأصيل المستلهم من الكتاب الكريم والسنة المطهرة والذي يعالج شتى القضايا الحيوية ومشاكل العصر، كما يمتاز (قدس سره) بمنهجه الموضوعي في قراءة الأمور والأحداث والحاضر والمستقبل، يقول المرجع الديني، سماحة السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله): "مما يجدر ذكره، ونحن في الذكرى السنوية، لرحيل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي، الأليم ما كان يضمره ويلهج بذكره، ويواصل من أجله، قضايا المسلمين ومآسيهم في كل مكان، سواء في البلاد الإسلامية أم في غيرها".

ومن خلال قراءة مؤلفات الإمام الشيرازي الراحل يمكن تلمس عمق تجربته الثقافية، ومكانتها الحقيقية في مشروعه الحضاري حيث يرى (قدس سره) أن الثقافة "عبارة عن الدين والعلم والأخلاق والرسوم والعادات ونحوها"، ويؤكد أن ثقافة المجتمع، على كثرة وحداتها وفروعها، تنتظم في ثقافة موحّدة هي بمنزلة الهيكل العظمي لثقافة المجتمع العامة، فثقافة العقائد، وثقافة الآداب، وثقافة العلوم والفنون، وحتى ثقافة الأحوال الشخصية، هي عبارة عن أجزاء ووحدات ثقافية تعطي المجتمع هويّته المتميزة"، ومن الوسائل التي يفضّلها (قدس سره)، في عملية الوعي الثقافي بين المسلمين عموماً، قراءة سيرة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله والأئمة الأطهار (صلوات الله عليهم)، فحياتهم الحافلة بالمآثر الإنسانية وبالصور المشرقة، تجعلنا في أمسّ الحاجة لاستلهام الدروس والعبر من سيرتهم وسنتهم.

الحرية ضرورة

ومن خلال نظرة تحليلية لمؤلفات الامام الشيرازي يتضح جلياً أن سماحته يربط دائماً بين المرتكزات الثقافية والقيمة الحضارية للحرية، وإن أحد الشروط الأساسية لنضوج المجتمع وارتقائه الحضاري هو التلاقح بين الثقافة بكل مفرداتها والحرية بكل مقوّماتها، ولذلك فعندما يتحدث (قدس سره) عن الحرية، فإنه يتحدث عنها بوصفها (ضرورة)، وليس بوصفها منحة أو عطاءً، لأنه (قدس سره) يرى أن: "الأصل في الإنسان الحرية".

يمثل الفقه عند الإمام الشيرازي الراحل الدائرة الأوسع التي يبحث جميع المسائل والقضايا في إطارها، ولذلك فإنه ينتقد تقسيم العلوم إلى دينية ودنيوية، حيث ينظر إلى الإسلام باعتباره شريعة منجزة قد اجتازت عصر التأسيس، ويركز بصورة خاصة على إدراك التطورات وبناء ما يلائمها من أحكام، وهو بذلك لا يتفق مع حركات النهوض التي حاولت إنجاز قطيعة مع الإسلام، إما بشكل علني عن طريق الإعلان عن مشروع مستورد، أو بصورة غير معلنة عن طريق الوصول الى نموذج آخر بعد جر الأحكام إليه، ولو بتحميل النصوص ما لا تحتمله، ومن هنا جاءت نظرية (شورى الفقهاء) لتدفع بالمرجعية بحالتها العامة إلى أقصى درجات التكامل الممكن، وذلك لأنها تتيح الفضاء الواسع أمام العالِم لطرح آرائه، كما أنها تخلق حالة من الفضاء العلمي المتحرك الذي يتطلب المزيد من القوة والإحكام، بسبب وجود النقد الذي يمارسه فريق من العلماء، كلٌّ على حدة، ومن وراء هؤلاء ثلّة من أهل الفضيلة، وأخيراً الجمهور. وبهذا فإن شكل النظام السياسي عنده(قده) عبارة عن عملية تطوير للحوزة العلمية، ونقلها إلى نظام أكثر مواءمة مع الدولة.

التعددية احترام للتنوع

يجد القارئ لحياة الإمام الشيرازي الراحل اهتماماً بـ(مفهوم التعددية)، وقد أعطى رؤية واضحة ومؤصلة لهذا المفهوم، وباعتباره فقيهاً بارزاً، فإن ما كتبه في هذا المجال يحظى بأهمية بالغة عند رجالات الفقه والثقافة، ويرى أنه حينما يقبل الإسلام، بوجود سائر الأديان والاتجاهات ضمن مجتمعه وفي ظل دولته، فإنه يمنحها (الحرية الكاملة) في ممارسة شعائر أديانهم والقيام بطقوس عباداتهم، وتنفيذ تعاليمها وأحكامها دون أن يفرض عليهم شعائره وأحكامه أو يتدخل في شؤون أديانهم. وفي نفس الوقت يشير (قدس سره) الى إن التعددية المذهبية تعني الاعتراف بوجود تنوع في الانتماء المذهبي في مجتمع واحد. واحترام هذا التنوع وقبول ما يترتب عليه من اختلاف أو خلاف في الفروع أو غيرها. وإيجاد صيغ ملائمة للتعبير عن ذلك بشكل يحول دون نشوب صراعات تهدد سلامة المجتمع.

ويرى أن مفهوم التعددية المذهبية يتضمن، أيضاً، الإقرار بأن "أحداً لا يحق له نفي أحد"، و"ضمان حرية التفكير والتعبير المذهبي للجميع" و"المساواة في ظل سيادة القانون". أما "التعددية السياسية" التي أكد عليها فتعني مشروعية تعدد القوى والآراء السياسية وحقها في التعايش وفي التعبير عن نفسها وفي المشاركة في التأثير على القرار سياسياً في مجتمعها.

نبذ العنف

وينطلق الإمام المجدد الشيرازي من إن الأديان بحكم انتمائها إلى السماء لا تأمر إلاّ بالخير والحق والصلاح والبر والمحبة والرحمة والإحسان، ولا توصي إلا بالأمن والسلم والسلام، وما كانت يوماً عائقاً أمام التعايش والتعارف والحوار، وإنما العائق يكمن في الذين يتوهمون أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة ويستغلون الأديان للتحكم في أقدار الناس ومصائرهم، عبر العنف والطغيان، لذلك أكد(قده) على ضرورة التفريق بين الأفكار الحقة التي تستند على قيم العقل والحوار والتعايش السلمي والتشارك الإنساني، وبين تلك الأفكار التي تستخدم قوة الاكراه والتسلط للسيطرة على الآخرين لتحقيق غايات فردية، يقول (قدس سره): "الناس بطبيعتهم لا يميلون إلى الأفراد العنيفين وسيّئي الأخلاق، وإذا حدث واستطاع بعض أصحاب القدرة والعنف استغفال وخداع مجموعة من الناس لفترة، فإن أوراقهم سرعان ما تنكشف وينقلب الأمر عليهم وينفض الناس من حولهم إن لم ينقلبوا عليهم".

بناء دولة المؤسسات

في مقدمة تلك الرؤى الفكرية، التي تطرحها مدرسة الامام الشيرازي لضمان بناء الدولة، وفق أسس سليمة وعادلة، التوجه للعلاقات العامة، لإزالة الالتباس وسوء التفاهم وردم النهايات السائبة في تأسيس العملية السياسية، ولأجل خلق التوافق في نطاق المؤسسة أو المجتمع أو الدولة، لجهة بناء علاقات متينة، وداعمة للحكومة الديمقراطية مع الشعب. فالديمقراطية أو "الاستشارية"، وفق الاصطلاح الإسلامي للمفكر المجدد، هي الحكومة المنتخبة وفق التعددية الحزبية، ذات الصحافة الحرة والمؤسسات الدستورية، والتي تواجه عادة، معارضة دستورية مشروعة، من الأطراف غير الممثلة فيها، وفق اللعبة السياسية والنيابية.

عليه فإن نجاح الحكومة، لا يتحقق بالأداء الجيد فقط، وإنما يجب أن يقتنع الشعب بما يجري، وهذا يتطلب الاستعانة بالخبراء وذوي الإختصاص، فالعلاقات العامة تمثل استجابة ضرورية لحاجة المجتمع، الذي يطمح لبلوغ درجة عالية من التطور والتحضر.

إن متبنيات العلاقات العامة، كمنهجية تقويم وبناء وتنمية ظهرت في المجتمعات الإستشارية "الديمقراطية"، تستهدف الإقناع الشعبي بصحة الاختيار، وقربه لمصالحه من بين الاختيارات الأخرى، التي لم يمنحها صوته، وهي عملية تستوجب سلوكاً مهنياً دقيقاً، مستنداً إلى بيانات دقيقة وأدوات علمية تحكم طرفي العلاقة، وإدارات كفوءة، تعمل على تمتين الأواصر الفاعلة في منظومة العلاقات العامة، كما أن إقرار الديمقراطية التعددية في الإعلام والعلاقات العامة، مسألة ضرورية ليكون الفرد شريكاً واقعياً، لا مجرد هدف سلبي وآلة لاستهداف إعلام الدولة وأجهزتها المتسلطة في الشعب، وأن تكون المساهمة الاجتماعية هي رائدة الموقف.

إن بداية الطريق نحو التقدم هو في خيار الأنظمة القائمة على الشورى، ليبدأ المسلمون مرحلة النهوض الحقيقي لا الصوري، كما أن نشر الإسلام لا يجري بالقوة والفرض، والنموذج الجيد كفيل بنشره في الغرب نفسه، شرط أن يتحلى صناع القرار والقائمون على التبليغ والإعلام الإسلامي، بآداب الإسلام وأخلاقه، وأن يبعدوا العنف عن حياتهم إطلاقاً، اقتداءاً بالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وإن تراث مدرسة آل البيت (عليهم السلام) حافل بالصورة الواضحة لقبول الآخر، والاعتراف بالاختلاف، واتباع الحوار منهجاً في الحياة، وعدم اتباع القوة في فرض الرأي على الآخرين، والتبشير بالفكرة والمعتقد من خلال اعتماد الأساليب المتحضرة في الإعلام ونشر المعلومات.

قبل أربعة عقود، قدم الإمام الشيرازي قراءة إسلامية توجب العمل بمبادئ الحرية والمساواة، وتطبيق الشكل الديمقراطي "الاستشاري" من الحكم، وما يليه من عقد إجتماعي، ضمن نص الدستور، وفق أطر حضارية متجددة، وتشكيل المجالس النيابية، لانتخاب ممثلي الشعب، وإن ذلك كله لا زال يخص بالبحث والدراسة، لغرض تسويقه فكراً واجتماعاً وعلماً، فإن نظرية (شورى الفقهاء)، التي تشكل التأصيل الأساس، كما بينها المفكر الإسلامي آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، تشكّل أساساً استراتيجياً، في "حل المعضلات في العالم الإسلامي، على صعيد السلطة والحكم والأحزاب، وعلى صعيد المرجعية بمنع إضعاف المرجعية المنافسة، من خلال تأسيس مجلس الشورى الفقهائي، الذي يضمن حقوق الأطراف المرجعية، واحترام آراء الأمة، وترتفع الكفاءات إلى سدة المرجعية"، فتكون المؤسسية هي الإطار العام للدولة والمجتمع وهيئاتها.

في إطار النظام الديمقراطي "الاستشاري" والتعددية السياسية، تصبح العلاقات العامة، عملية ضرورية في المجتمع، الذي تنشط الرقابة الشعبية فيه على الأداء الحكومي، من خلال جماعات الضغط، ومؤسسات المجتمع المدني، والإعلام الحر، لتكون العلاقات العامة بذلك، حصانة إضافية في عملية بناء دولة القانون والإنسان.

لقد نادى الإمام الشيرازي الراحل بإعلاء كلمة الإسلام عبر الاقتداء بسنن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وآل بيته الطاهرين (عليهم السلام)، من خلال ما طرحه من رؤى وأفكار والعمل بمبدأ اللاعنف، فحياته كانت مصدر إلهام لمبادئ العدل والحرية والخير والمحبة والرفاه وداعية إلى الحقوق المدنية والتغيير الإجتماعي في مختلف أنحاء العالم لا في العالم الإسلامي فحسب.

المصدر: موقع الامام الشيرازي
http://alshirazi.com

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي