الصراع البشري بين السلْب والإيجاب
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2022-03-07 06:39
(التنافس هو الوجه الإيجابي للصراع في مسيرة البشرية) الإمام الشيرازي
يعيش عالمنا اليوم أزمات متلاحقة في شتى المجالات، ففي الاقتصاد العالمي هنالك أزمات متتالية، ما أن تتم معالجة أزمة حتى تنهض أخرى لتنعكس على حياة معظم الناس، ولعل ما نعيشه اليوم من حروب هنا وهناك تعد من الأزمات السياسية التي يقف وراؤها أفراد (قادة) متصارعون فيما بينهم لأسباب متعددة، فالإنسان جُبل على الصراع منذ نشأته.
هنالك وجهان للصراع، أحدهما سلبي والآخر إيجابي، والحقائق تؤكد أن ما يسود العالم اليوم هو الوجه السلبي من الصراعات، لذلك نلاحظ الأزمات المتلاحقة تعصف بالعالم، والمتضرر هم الأغلبية من سكان الأرض، فيما تتنعم الأقلية بخيرات الأكثرية، ولهذا السبب يخوض أصحاب المصالح (وهم الأقلية) صراعات سلبية لتأمين مصالحهم غير المشروعة، كون هذه المصالح تقوم أساسا على التجاوزات والانتهاكات التي تنال من حقوق الغالبية.
يوجد نزوع نحو الطموحات المشروعة وغير المشروعة تتلبس أفكار الناس وسلوكياتهم، فالطموح بشقّيه المشروع وغير المشروح موجود لدى الإنسان، ولكن ما هو ملاحَظ أن هناك من لا يكتفي بالطموح المشروع، فيذهب إلى غير المشروع بسبب ضغط النفوس الشريرة التي لا تكتفي بما عندها، وما هو حق لها، فتذهب إلى ما هو أبعد من ذلك فتحدث الصراعات والحروب والويلات التي غالبا ما تكون من نصيب من ليس لهم لا حول ولا قوة.
ولعل المثال الحالي على هذا الاستنتاج، هو ما يدور اليوم من حرب طاحنة في أوربا، حطبها الناس الضعفاء وضحاياها الأطفال والمرضى وكبار السن، من دون أن يرفّ جفن للقادة المتحاربين لإثبات الوجود (الفردي) ليس إلا، وهذا هو الوجه السلبي للصراع، وغالبا ما يؤدي إلى نتائج مؤلمة تجعل العالم متأزما محتقنا وخاليا من العدل.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (الفقه: السلم والسلام):
(إن طبيعة الإنسان تنزع إلى الطموح المشروع وغير المشروع، وهذا يؤدي إلى الخلاف مع الغير، والخلاف يقود إلى النزاع والصراع، وكثيرا ما يؤدي ذلك إلى العنف والإرهاب).
التمسك بالصراع الإيجابي
سيطرة الإنسان على نفسه ونوازعه السلبية يجب أن يكون في مقدمة أهدافه ومساعيه، وكلما كان دوره وقراره الوظيفي مؤثرا على حياة الناس، عليه أن يحد من نزعته السلبية أكثر، لأن أي قرار منه سوف ينعكس سلبا على الآخرين، ولذلك يجب أن يتجنب السلبي ويتمسك بالإيجابي من الأفكار والسلوكيات والقرارات التي تتداخل مع حياة الناس.
الابتعاد عن الأنانية الفردية وعدم اتخاذ قرارات مؤذية بحق الآخرين أمر يجب أن يكون في مقدمة أهداف ومساعي القادة والمسؤولين في المجالات كافة، فرئيس الدولة نزولا إلى الوزراء ومرورا بالمدراء، وصولا إلى مدير المدرسة ورب الأسرة، كل هؤلاء عليهم تحييد المصالح الشخصية والنزوع السلبي للصراع، والاتجاه بقوة نحو النزوع الإيجابي للصراع وهو التنافس الذي يحوّل جميع الصراعات إلى مجالات للتنافس الحر المنتِج.
يقول الإمام الشيرازي:
(يوجد وجهان للصراع البشري، أحدهما سلبي والآخر إيجابي، فأما الأول: فله مظاهر كثيرة منها صراع من أجل السيطرة الفردية على الحياة ومميزاتها وسحق الآخرين وحقوقهم، فالبعض يريد أن يحصل على أكثر قدر من النفع ودفع أكثر قدر من الضرر به).
هل الإنسان مجبول على الشر، وهل نزعة الصراع متأصلة في نفسه ومفروضة على سلوكيه؟، الجواب كلا، لأن الله تعالى لم يخلق الإنسان شريرا، إنما هنالك خير وشر، وكلاهما في صراع مستمر، وإرادة الإنسان واختياره هو الذي يحدد كونه صالحا أم شريرا، لذلك يجب أن يبذل ما يكفي من الجهود والمساعي لكي يدرّب نفسه على عمل الخير.
هناك أدوات يستخدمها الجميع كي يصلوا إلى ما يصبون إليه، فمنهم من ينحو إلى الصراع السلبي مستخدما أدواته بشكل سيّئ وشرير، ومنهم على العكس من ذلك، والأصل في الإنسان أنه خُلق بفطرة لا تذهب نحو الشر إلا إذا أراد لها صاحبها ذلك، بمعنى الإنسان هو الذي يختار أن يكون شريرا من خلال نزوعه نحو الصراع السلبي وليس الإيجابي.
يقول الإمام الشيرازي:
(الصراع السلبي في المسيرة البشرية ليس مما جُبل عليه الإنسان، لأن الله سبحانه وتعالى لم يخلق فطرة الإنسان مجبولة على الشر، وإنما الشر في استعماله المنحرف، كالإنسان المجرم يستعمل السكين في قتل الأبرياء. في حين أن السكاكين لم تُصنَع للقتل وإنما صُنِعَت للفائدة).
الوجه الآخر للصراع، وهو الأنبل والأفضل والأجمل، هو الصراع الإيجابي، الذي يحوّل الصراع من لغة الشر إلى لغة التنافس الشريف، فساحة الفكر والعمل والإنجاز مفتوحة أمام الجميع، وما على الإنسان سوى تحقيق جميع أهدافة من خلال الصراع الإيجابي مع الآخرين، عبر الدخول معهم في منافسة تحكما ضوابط وقوانين وتقاليد تحفظ لكل ذي حق حقه، وتمنع من نشوب العداوات والصراعات بين المتنافسين.
حاجتنا للتنافس المعنوي والمادي
هناك نوع مهم من التنافس، ونعني به التنافس المعنوي، وهو يمكن أن يحدث بين الأفراد (فرد مع فرد)، وبين الجماعات (جماعة ضد جماعة) وبين الدول (دولة تتنافس مع أخرى)، وهذا النوع من التنافس يدور في إطار المعنويات وليس الماديات، مما يدفع بالجميع إلى التنافس من أجل الإنجاز الأفضل، وهو ما حدث بالفعل بين البشر والدول مما جعل العالم يقطع أشواطا كبيرة من التقدم في المجالات كافة لاسيما التكنولوجية منها.
الإمام الشيرازي يؤكد قائلا:
(أما الوجه الإيجابي للصراع في المسيرة البشرية، فهو التنافس الذي يؤدي إلى تقدم الحياة، فعلى سبيل المثال الصراع في الجانب المعنوي، لو أن هذا الجانب غير موجود لما تمكن الإنسان من التقدم إلى درجات رفيعة).
كذلك لدينا التنافس المادي، فهو مهم من ناحية المنجزات البشرية الكبيرة التي تحقق في مجالات عدة، ولكن لابد أن نحذر من خطر الصراع المادي ذي النزعة الشريرة، ويجب أن يكون الصراع الإيجابي هو مصدر ومعيار التنافس بين الدول والأمم لتحقيق الإنجازات المادية الكبيرة التي تجعل حياة الناس أسهل وأيسر وأفضل.
وهذا ما أكده الإمام الشيرازي في قوله:
(لولا الصراع والتنافس بين دول العالم في الجانب المادي لما حصل هذا التطور الذي تنعم فيه البشرية في المجالات المختلفة. إذ به تمكن الإنسان من مختلف الاكتشافات الكبيرة، ولم يقتصر في طموحه على اكتشاف أسرار الأرض بحارها وجبالها وأنهارها وأعماقها، بل شجعه البحث إلى اكتشافات جديدة في الكواكب الأخرى).
أما ما هو الدافع الأقوى الذي يجعل من الناس في حالة صراع أو تنافس، فإنه يكمن في قضية الطموح، إذ لكل فرد وجماعة ودولة وأمة طموح بأن تتقدم إلى أمام، وتتبارى مع الآخرين من أقرانها لكي تحقق الأفضلية والأسبقية، فالطموح هو المحرك الأساس الذي يدفع بالجميع إلى المنافسة، ويمكن أن نسميه (الطمع) أيضا.
الطموح صفة بشرية مخلوقة مع خلق الإنسان، ولا سبيل للخلاص منها، بل وجودها أمر جيد إذا تم استثمارها في إطار (الصراع الإيجابي) الذي يعني التنافس وفق آليات وخطوات وضوابط تضمن حقوق الأطراف المتنافسة، وهذا يحتاج إلى إرادة قوية تكبح طموحات الإنسان غير السليمة، وفي الغالب تضعف إرادة الإنسان أمام طموحه.
الإمام الشيرازي يقول:
(منشأ الصراع والتنافس بين البشرية في الوجه الأخير هو الطموح، وهو حَسِن في نفسه إذا استعمل في موضعه، وربما يعبر عنه بالطمع، وطموح الإنسان عادة يغلب إرادته).
في كل الأحوال، نحن اليوم نعيش في عالم بشري متداخل، وغير منظّم، والقوة فيه تسود العلاقات السياسية والاقتصادية على المستوى العالمي، ولذلك لا تزال الأزمات تتعاقب على عالمنا الذي يجب أن يبحث اليوم قبل الغد، عن نظام عالمي أكثر إنصافا وعدلا ومساواة.