مع منهجية اللّاعنف يربح الجميع.. في الذكرى الرابعة عشرة لرحيل الامام الشيرازي

رؤى من افكار الامام الشيرازي

شبكة النبأ

2015-07-22 08:36

قد يستغرب البعض من تركيز الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، على منهجية اللاعنف، وحتمية نشرها في عالم عنيف بل يغرق بالعنف، وقد يرى هؤلاء، أن طرح نظرية متكاملة عن اللاعنف في عالم اليوم العنيف، تشكل نوعا من الترف الفكري الذي لا يستند الى الركائز الواقعية.

لاسيما أن الامام الشيرازي عندما صاغ وطوّر نظريته عن اللاعنف، كان المسلمون والعالم اجمع، يعانون من موجات العنف التي تضرب الجميع بلا هوادة، حيث الصراع على أشدّه بين القطبين الوحيدين في العالم آنذاك (أمريكا /الاتحاد السوفيتي قبل التفكك والانهيار)، وكانت الحروب بالنيابة تنتشر في أصقاع كثيرة من المعمورة.

ومع ذلك كان الفكر المتوقد للامام الراحل، يرى أن ثمة مساحة واسعة للسلام، يمكن ان تسود العالم، في ظل الوسطية والاعتدال الذي يحيّد العنف والبطش تماما، وينشر بدلا منه، قيم الحلم واللين وكظم الغيظ، فهي وحدها ترسّخ منهجية اللاعنف، وتجعل من الجميع رابحين، على العكس من العنف الذي يخسر بوجوده الجميع.

وقد جاء في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام إنّه قال للإمام الحسين عليه السلام: (يا بني ما الحلم؟ قال: كظم الغيظ وملك النفس). فعندما يقود الانسان نفسه، ويسيطر عليها، ويكف عن التعصّب، ويعتمد منهجية اللاعنف، وكظم الغيظ كاسلوب حياة دائم، فهو في هذه الحالة يكف الاذى عن نفسه، ويحد من عنفه ضد الآخرين في الوقت نفسه.

ولا شك أن مبادئ الاسلام، لاسيما إبان العهد النبوي، قد أظهرت بما لا يقبل الشك، دور اللاعنف في صناعة حياة السلم المزدهرة، كما نلاحظ ذلك في قول الامام الشيرازي، بكتابه الموسوم بـ (نظرية اللاعنف في الاسلام)، إذ تقرأ لسماحته في هذا المجال: (إنّ الإسلام الذي جاء به رسول الإنسانية صلى الله عليه وآله، وجعله يتقدم ذلك التقدّم الملحوظ حمل بين طيّاته عدّة قوانين مهمّة، عملت على نشره في شتّى أرجاء العالم الأكبر).

علما أن محاصرة العنف والغلظة، ونشر منهج اللين كانت من أهم المؤشرات السائدة في حياة المسلمين، في العهد النبوي، وفي حكومة أمير المؤمنين عليه السلام، الذي استقى هذا المنهج من سياسة الحكومة في صدر الرسالة الاسلامية، حيث أثبتت الوقائع آنذاك بأن اللين واللاعنف، من أهم الاساليب التي اكدت عليها النصوص القرآنية المباركة.

كما نقرأ ذلك في قول الامام الشيرازي حول هذا الجانب بالكتاب المذكور آنفا: (من أشهر القوانين المهمّة التي كان لها دور طائل في تقدّم المسلمين ونجاحهم في مختلف الميادين هو قانون: اللين واللاّعنف الذي أكّدت عليه الآيات المباركة فضلا عن الأحاديث الشريفة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام).

اللين والصفح الجميل

لقد اطلع الامام الشيرازي بصورة دائمة وعميقة، وفقا للمدوّنات والوثائق المتَّفق على صحة أسانيدها، على السيرة النبوية المباركة، وراح سماحته يستقي منهج الاعتدال الذي فضّله النبي صلى الله عليه وآله، على سواه، ونبذ العنف بصورة صارمة، فصاغ الامام الشيرازي نظريته في اللاعنف، وقدم بالأدلة محاسن هذا المنهج على نقيضه.

فالحقائق كلها تؤكد على أن الجميع خاسرين مع العنف، حيث الاستنزاف المتواصل للموارد الطبيعية والبشرية، والانشغال التام بحماية النفوس والممتلكات، وحفظها من الموت والدمار بوسائل العنف، بدلا من الانشغال بصناعة الحياة، في حين يهدف اللاعنف دائما الى تجنب استنزاف الموارد بكل انواعها، وجعل الاعتدال عنوانا للجميع، والابتعاد عن البطش السياسي أو سواه، كما فعل ذلك، قائد المسلمين محمد صلى الله عليه وآله، وأخذ عنه هذا المنهج الامام علي عليه السلام.

كما نلاحظ ذلك في قول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع: إن (أحد أهم الأدلة على أنّ الإسلام يتّبع أسلوب اللاّعنف، هو منهجية الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، وسيرته في تعامله حتى مع مناوئيه، حيث قدّم للبشرية جمعاء خير شاهد على أنّ الإسلام يدعو إلى اللاّعنف وينبذ البطش والعنف).

ومما يُشار له بالبنان، تلك السياسة الانسانية التي انتهجها الامام علي عليه السلام في سنوات حكمه، إذ على الرغم من قصر تلك السنوات، وسرعتها، وكثرة الأحابيل التي صنعها الخوارج خلالها، إلا أن منهجية اللاعنف التي اعتمدها الامام علي عليه السلام، وسياسة العفو والتسامح والصفح الجميل وحرية المعارضة، كانت هي السائدة في تلك الحكومة، اعتمادا على تجربة الحكم النبوية، وهذا دليل واضح على ترسيخ سياسة اللاعنف في الاسلام.

إذ يؤكد الامام الشيرازي في هذا الخصوص قائلا: (انّ من يتمعّن في سيرة أمير المؤمنين عليه السلام العطرة، ويتأمّل مواقفه الخالدة، يتجلّى له كالصبح لذي عينين، أنّه عليه السلام، كان يدعو بشكل حثيث إلى اللاّعنف والعفو والسلام، وكان يعتمد على اللين والصفح الجميل).

اللاعنف مع المسيء

ويمكننا أن نتصور طبيعة العلاقات السائدة آنذاك بين الحاكم والمحكوم، عندما سادت منهجية اللاعنف في ادارة شؤون البلاد والعباد، فقد كان حق الاعتراض مكفولا، وحق النقد والجهر به محفوظا لعموم الناس، وكان الرأي المعارض حاضرا، حتى عندما حاول الخوارج الاساءة الى قائد الحكومة الاسلامية في عصر الامام علي عليه السلام، لم يكن رد الفعل عنيفا.

لذا نقرأ في كتاب الامام الشيرازي نفسه، حول هذا الموضوع قائلا: (في أكثر من مرّة يعاود متعصّبو الخوارج إساءتهم وتجاسرهم على أمير المؤمنين عليه السلام، إلاّ أنّه كان يلتزم باللاّعنف في قبالهم، فضلا عن ذلك كان يحثّ المسلمين إلى عدم التعرّض لهم).

ترى لماذا كان الامام علي عليه السلام يتجنب استخدام العنف ضد معارضيه، خاصة أنهم غير ملتزمين بضوابط العلاقة الصحيحة بين الحاكم والمحكوم، ألم يكن قائد الدولة آنذاك قادرا على مبادرتهم بالعنف والقتال ما شابه؟، لكن الامام عليه السلام لم يفعل، ولم يلجأ الى العنف، كونه يشكل سببا في خسارة الجميع.

لذلك التزم الامام علي عليه السلام بمنهجية اللاعنف، ورفض استخدام القوة مع أنه قادر عليها، وكان اسلوب النصح هو السائد، فضلا عن اللين والعفو، وفي هذا الاسلوب المعتدل والوسطية الناجحة، يكمن عنصر توازن يمنح الربح للجميع.

وفي ضوء هذا التصور، صاغ الامام الشيرازي نظريته عن اللاعنف، واستند في ذلك، الى تجارب الحكومات الاسلامية الناجحة، واعتمادها على هذه المنهجية المعتدلة، والابتعاد عن هدر الموارد البشرية والطبيعية للمسلمين، والتفرغ للبناء والتطوير وصناعة الحياة الناجحة، وهو أمر نجح فيه قادة المسلمين العظام، حتى عندما كان يواجههم الآخر بالعنف، لكن يبقى اللاعنف والاعتدال هو الأصل!.

فهناك لجوء أخير للقوة، يُطلَق عليه بالدفاع عن النفس والتذكير بالحق وعدم الانسياق نحو الباطل، وهو في هذه الحالة لا يمثل عنفا بحق الطرف المعتدي، انما يعد عنصر حماية وصيانة لنفوس وممتلكات المسلمين من الهدر والعدوان، وفي هذا الامر ايضا صناعة للحياة السليمة، عندما يتم ردع من لا يرعوي، ولاعود الى جادة الحق والصواب.

كما نلاحظ ذلك في قول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع: لقد (بلغ من التزام أمير المؤمنين عليه السلام باللاّعنف إنّه حتّى مع الخوارج لم يلجأ إلى القوّة معهم وإنّما عكف على نصيحتهم وتذكيرهم بالحقّ، ولكنّهم أبوا إلاّ محاربة المسلمين فحينذاك دافع الإمام عليه السلام عن الأمة).

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا