فلسفة الحج
المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي
2021-07-20 05:00
قال تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)(1).
الإنسان بفطرته مدنيّ الطبع، تميل نفسه إلى الاجتماعات والتآلف مع الآخرين، والركون إلى الجماعة والاختلاط بها، وهذا هو سبب تكون المدنية وإنشاء المدن والمجتمعات الكبيرة. وهذا الميل عبارة عن غريزة فطرية موجودة في الإنسان الساعي سعياً دائباً مستمراً لإشباع غرائزه. فميله نحو التوطّن ضمن مجموعة من الناس، والعيش معهم عبارة عن إشباع لغريزته هذه. وتكوين الأسرة أيضاً صورة أخرى من صور إشباع الغريزة الاجتماعية، وغريزة الاجتماع تؤمن للإنسان حسن الألفة والاختلاط البشري ومنافع أخرى سوف نتعرض لها.
ولهذا الأمر، نرى أن الشريعة أكّدت على الاجتماع، وخير نموذج لذلك هو شعائر الحج، وصلاة الجماعة، وروايات تبين استحباب السفر مع الآخرين، وغيرها من الموارد التي تحث على الاجتماع أو الاشتراك مع الجماعة المؤمنة. وليس هذا مقتصراً على الإنسان فحسب، بل يبدو واضحاً في السلوك الجمعي لدى الحيوانات أيضاً، إذ أن الهجرة الجماعيّة للطيور مثلاً، مسألة تمثل نموذجاً عالي الانسجام من نماذج الفعالية الجمعية. ونجد الأمر نفسه في تجمعات النمل والنحل وغيرها.
وكل ذلك برهان عقلي على أهمية الحياة الاجتماعية وضرورتها.
إذن، مسألة الاجتماع من أساسيات بقاء ودوام المخلوقات وعلى رأسها الإنسان.
والحج يمثل أرقى وأشرف تجمع للإنسانية لما يتضمنه من فوائد ومنافع روحية، وهذا ما صرحت به الآية الكريمة (ويذكروا اسم الله)(2) هذا الذكر ينمّي في الإنسان روح التعاون والمحبة.
فائدة الحج
قال تعالى: (ليشْهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله) اللام هنا للتعليل، والمعنى: يأتون لشهادة منافع لهم، أو: يأتون فيشهدوا منافع لهم، وقد أطلقت كلمة المنافع، ولم تتقيد بالدنيوية أو الأخروية.
والمنافع نوعان:
الأولى: منافع دنيوية، وهي التي تتقدم بها حياة الإنسان الاجتماعية، ويصفو بها العيش، وترفع بها الحوائج المتنوعة، وتكمل بها النواقص المختلفة، من أنواع التجارة والسياسة والولاية والتدبير والتعاضدات الاجتماعية.
فإذا اجتمعت أقوام وشعوب المسلمين من مختلف بقاع الأرض وأصقاعها، على ما بينهم من اختلاف في الأنساب والألوان والسنن والآداب، ثم تعارفوا بينهم على كلمة واحدة هي كلمة الحق، وإله واحد هو الله سبحانه، ووجهتهم واحدة، وهي الكعبة المشرفة.
حينئذ يكون أداء شعائر الحج يؤدي إلى حالة اتحاد المشاعر والأحاسيس الدينية؛ وبذلك تتحد القلوب، وتتوافق الأقوال والأفعال، ويعيش الكل حالة الأمة الواحدة، ويحملون همّاً واحداً، بعد أن تخمد النعرات، وتذوب الاختلافات في بحر من الانسجام والاجتماع.
فنرى أن الحج مثلاً، ينفع كثيراً من الناحية الاقتصادية والتبادل التجاري، بانتقال أنواع السلع، واكتساب تجارب الآخرين بعد الإطلاع عليها.
كما وينفع في إشباع غريزة حبّ الاستطلاع والسياحة والمشاهدة للبلاد الأخرى. فضلاً عن المنافع الأخلاقية والفوائد الروحية الناشئة من الأجواء المعنوية التي يسببها الحج.
والثانية: منافع أخروية، وهي وجوه التقرب إلى الله تعالى بما يمثل عبودية الإنسان من قول وفعل، وعمل الحج بما له من مناسك تتضمن أنواع العبادات، من التوجه إلى الله عزّ وجل، وترك لذائذ الحياة، وشواغل العيش، والسعي إليه عزوجل، بتحمل المشاق والطواف حول بيته، والصلاة، والتضحية، والإنفاق، والصيام، وغير ذلك. والحج بما فيه من مناسك يمثل دورة كاملة في مسيرة التوحيد ونفي الشريك.
ومن المنافع الأخروية الثواب الإلهي العظيم، وقد وردت الأحاديث والمرويات عن ثواب الحج وعظيم الأجر للإنسان الحاج.
فعن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام): «أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لقيه أعرابي فقال له: يا رسول الله، إني خرجت أريد الحج ففاتني و أنا رجلٌ مميلٌ (3)، فمرني أن أصنع في مالي ما أبلغ به مثل أجر الحاج، قال: فالتفت إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال له: «انظر إلى أبي قبيس، فلو أن أبا قبيس لك ذهبة حمراء أنفقته في سبيل الله ما بلغت به ما يبلغ الحاج، ثم قال: إن الحاج إذا أخذ في جهازه لم يرفع شيئا ولم يضعه إلا كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات، فإذا ركب بعيره لم يرفع خفا ولم يضعه إلا كتب الله له مثل ذلك، فإذا طاف بالبيت خرج من ذنوبه، فإذا سعى بين الصفا والمروة خرج من ذنوبه، فإذا وقف بعرفات خرج من ذنوبه، فإذا وقف بالمشعر الحرام خرج من ذنوبه، فإذا رمى الجمار خرج من ذنوبه، قال: فعدد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كذا وكذا موقفا إذا وقفها الحاج خرج من ذنوبه، ثم قال: أنى لك أن تبلغ ما يبلغ الحاج؟!» قال أبو عبد الله (عليه السلام): «ولا تكتب عليه الذنوب أربعة أشهر، وتكتب له الحسنات إلا أن يأتي بكبيرة»(4).
وعن الإمام الصادق (ع) عن رسول الله (ص) قال: «للحاج والمعتمر إحدى ثلاث خصال: إما أن يقال له: قد غفر لك ما مضى وما بقي، وإما أن يقال له: قد غفر لك ما مضى، فاستأنف العمل، وإما أن يقال له: قد حفظت في أهلك وولدك، وهي أخسهن»(5).
وقيل للإمام أبي الحسن (ع): كيف صار الحاج لا يكتب عليه ذنب أربعة أشهر من يوم يحلق رأسه؟ فقال: «إن الله أباح للمشركين الحرم أربعة أشهر إذ يقول: (فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ)(6) فأباح للمؤمنين إذا زاروه جلاء من الذنوب أربعة أشهر وكانوا أحق بذلك من المشركين»(7).
كما ورد حثّ شديد في كثير من الأدعية لأن يلحّ الإنسان على ربّه في طلب التوفيق للحج(8). كل ذلك لما للحج من أهمية عظمى في حياة الفرد الدنيوية والأخروية، ولما له من انعكاسات روحية على المجتمع.
ملاحظة مهمّة
يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): «ألا ترون أن الله سبحانه، اختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه، إلى الآخرين من هذا العالم، بأحجار لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع فجعلها بيته الحرام الذي جعله للنّاس قياماً (9)، ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقل نتائق(10) الدنيا مدراً(11)، وأضيق بطون الأودية قطراً، بين جبال خشنة، ورمال دمثةٍ(12)(عليه السلام)»(13).
نفهم من خلال هذه الكلمات الشريفة أن الله تعالى جعل الحج إلى بيته بمثابة امتحان واختبار للناس؛ لأن عادة الإنسان أنه يهوى الأماكن الجميلة، والأشياء البرّاقة، فجعل بيته في وسط الصحراء في منطقة وعرة، بعيدة عن ميل الإنسان، ليرى من يؤمن ومن يكفر.
الكعبة وبقاء الدين
عن الإمام الصادق (ع) قال: «لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة»(14).
هذه الرواية تؤكد حالة التلازم والربط الوثيق بين الدين وبين بيت الله الحرام. وكلما بقيت الكعبة كلما كان الدين باقياً، لأنها تجذب المسلمين حولها حتى يفيقوا من سباتهم، وينفضوا غبار الجبت والطاغوت عنهم بالتلبية «لبيك اللهم لبيك» حيث الولاء الحق؛ ولهذا نجد جميع الطواغيت وعلى مرّ العصور يحاولون طمس معالم بيت الله الحرام ـ الكعبة ـ والله يأبى ذلك.
فقد حاول أبرهة الحبشي ذلك، وقد حكى القرآن قصته في سورة الفيل فقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)(15). ثم حاول يزيد بن معاوية بعدما قتل الإمام الحسين(ع) فسيَّر في جيش الحرّة الذي كان يقوده مسلم بن عقبة وعقبه بعد هلاكه الحصين بن نمير إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير، وأتوا مكة، فحاصروا ابن الزبير وقاتلوه ورموه بالمنجنيق، وذلك في صفر سنة أربع وستين، واحترقت بشرار نيرانهم أستار الكعبة وسقفها وقرنا الكبش الذي فدى الله به إسماعيل (ع)، وكانا في السقف(16) فأدى ذلك إلى خراب أجزاء كثيرة من الكعبة المشرفة، فأهلك الله تعالى يزيد في نفس العام، وأراح الناس من شره(17).
ونفس الفعل قام به الحجّاج بن يوسف الثقفي بأمر من مولاه عبد الملك بن مروان(18).
كل هذه الحركات التي استهدفت الكعبة الشريفة كان، القصد من ورائها هو: ضرب الإسلام والقضاء على مهد الإسلام ورمزه الخالد بحجّة القضاء على الحركة التي قامت ضد السلطة الحاكمة.
إذن، المسألة الأساسية لا تتعلق بالقضاء على الحركة المعارضة بقدر ما تتعلق بضرب الكعبة وهدمها ونسفها، وهذه هي المهمة الأولى والهدف الأساس، الذي يتربص له الاستعمار في كل فرصة يراها جيدة. إلاّ أنّ الله عزّ وجل يحبط كل هذه الإرادات الضعيفة التي تريد أن تقضي على الدين الإسلامي، ومن هنا ندرك قول الإمام الصادق (ع): «لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة»(19).
السفر إلى بيت الله الحرام
في ظهيرة أحد الأيام، وفي مدينة كربلاء المقدّسة (عليه السلام) كنّا جالسين في بيتنا حول مائدة الطعام، وفي الأثناء دخل أخي(20) وكان عائداً من الدرس والمباحثة. فجلس ثم بادر قائلاً لوالدي (قده)(21): لقد نويت الذهاب إلى الحج هذا العام فأرجو أن تأذن لي؟ فأذن له والدي. وبالفعل فقد هيأ الحقائب ومستلزمات السفر، وسافر في عصر نفس اليوم..
والشاهد هنا، أن السفر في تلك الأيام لأداء فريضة الحج كان بهذه السهولة والبساطة، أما اليوم فقد أدخلوا تعقيدات وقيود لها أول وليس لها آخر، من قبيل العمر والجوازات والعدد المعين، وليس هذا فحسب بل تدخلوا حتى في عبادات الحج الأخرى، والضغط على الحجاج في أماكن العبادة، وأخذوا يتدخلون في كل صغيرة وكبيرة تتعلق بحياة الحاج اليومية، فهنا لا بد أن تقيم أيها الحاج، وغداً تذهب إلى زيارة أبي ذر (رضوان الله عليه)، وفي الساعة الكذائية عليك أن تطوف. وهكذا فالحرية التي كان يتمتع بها الحاج سابقاً قد صودرت تحت حجج وأعذار وكلام مزيف ليس وراءه إلا ما يريب، فلا يمكن بعد ذلك تطبيق الآية الكريمة: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ)(22) وقد روى الإمام الصادق (ع) عن رسول الله (ص) أنّه قال: «سافروا تصحّوا، وجاهدوا تغنموا، وحجّوا تستغنوا»(23).
فإذا أردنا أن يكون الحج في يومنا هذا كما كان في زمن رسول الله (ص)، أو على الأقل كما كان عليه في زمن آبائنا وأجدادنا، فيجب أن نعمل على نشر الأفكار المتحضرة بين المسلمين، وأن نوقظ بعض المسلمين من سباتهم، وذلك بتوعيتهم وتحريرهم من الأصر والأغلال التي وضعتها أنظمة الحكم الجائرة على أعناقهم، ومن ثم نوضح لهم ونبيّن خطأ التصورات والمفاهيم التي تروج لها السلطات الجائرة، لتطبع الإسلام بصفات بعيدة عن روحه وأصالته، واصمةً إياه بطابع الحزبية الضيّق وطابع القومية البغيض..
فالعمل أولاً على تحرير إرادة المسلمين فرداً فرداً، لكي يكون اختيارهم سليماً، ولأجل أن يميزوا بين الحكومات الباطلة والحقة، فإن الاختيار من لوازم الإرادة، وكلما قويت الإرادة كان الاختيار صحيحاً وبالعكس.
فالحج أقوى مظهر إسلامي، ومن خلاله يوصل المسلمين أفكارهم وآراءهم حول الكون والحياة، وكل ما يتعلق بعقيدتهم إلى كل بقاع العالم. والحج من أعظم الوسائل التي يستطيع خلالها المسلمون إظهار القوة والعزة والمنعة؛ لأنّ إظهار القوة أمام العدو واجب شرعي، ليرى أعداء الإسلام قوة الإسلام وتماسك الأمة الإسلامية فيرتدعوا عن غيّهم وتآمرهم علينا، والعودة إلى الإسلام والإيمان الحقيقي هو الطريق الوحيد الذي يوصل المسلمين إلى منابع القوة والهيبة، ويجعلهم أمة عزيزة كريمة تستطيع مواجهة الأعداء وإفشال مؤامراتهم وكيدهم، فالحج عبادة تعبّئ المسلم وترفده وتزيده قوة فلا يخشى أية قوة مهما تجبرت وطغت، وكيف يخشى المسلم تلك القوى وهو مؤمن بأنها أمام قوة الله تعالى ليست شيئاً مذكوراً.
صلاة الجماعة بإمامة الميرزا مهدي الشيرازي
والأمر الآخر: والذي يقوّي المسلمين هو اتصالهم بعضهم ببعض في الحج ومن كافة الدول والأقطار، فيؤدي ذلك إلى رفع مستوى الوعي السياسي عند المسلمين.
إن الحج قبل (36 عام)، والذي شاهدته أنا بعيني، كان عبارة عن محور لاتحاد عميق بين المسلمين، بمختلف الجنسيات واللغات، وكانوا متآلفين منسجمين متحدين مع بعضهم، وكان هذا عاملاً مهماً في اطّلاع البعض على أحوال البعض الآخر. وهناك مظاهر أخرى تكشف عن روح التلاحم، ومن المصاديق الواقعية التي تثبت وجود مثل هذه الروح التواقة للتوادّ والانسجام أنه حينما أقام والدي (رحمه الله) صلاة الجماعة في (باغ مرجان) في المدينة المنوّرة انضمّ إليه جمع غفير من السنّة والشيعة والأبيض والأسود من كل طوائف المسلمين على اختلاف ألوانهم وبلدانهم، وهم يقفون خلفه لأداء صلاة الجماعة، إلا أنّ الأيادي المعادية للإسلام والتي تهددها وحدة المسلمين، وقفت أمام هذا الاتحاد العظيم، وعملت على تقليصه ثم تفتيته، وفرض برامج خاصة على الحجاج يجب أن يلتزموا بها.
وهناك روايات تؤكد أن الهدف من الحج هو ذكر الله أولاً، ثم التأسي برسول الله (ص)، فحينما يشاهد الناس آثاره (صلى الله عليه وآله) ومشاهده الكريمة، فإنهم يستذكرون ويعيشون أيام الله، وبزوغ أنوار الرسالة الخاتمة، ويتذكرون أتعاب وتضحيات وجهود الرسول العظيم (ص) من أجل تثبيت أسسها وأركانها. أما التبادل الثقافي والتعرف على مشاكل المسلمين وإيجاد الحلول المناسبة لها، فهي من ضروريات الاهتمام بأمور المسلمين. فعن الإمام الصادق (ع) أنه قال:
«..فجعل فيه الاجتماع من المشرق والمغرب، ليتعارفوا وليتربح كل قوم من التجارات من بلد إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمال، ولتعرف آثار رسول الله (ص) وتعرف أخباره، ويذكر ولا ينسى، ولو كان كل قوم إنما يتّكلون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد، وسقط الجلب والأرباح وعميت الأخبار، ولم يقفوا على ذلك، فذلك علّة الحج»(24).
ولعل أهم شيء هو قوله (عليه السلام): «وعميت الأخبار» فإنّ الحج نافذة واسعة تعطي فرصة عظيمة للمسلمين في تبادل الأخبار، لأن عادة السلطات الجائرة تمنع الأخبار المهمة التي تخصّ المسلمين عن شعبها المسلم فتحاول التكتم عليها فالحج يفتح هذه الفرصة، ولذلك يقول الإمام (سلام الله عليه) لولا الحج لـ(عميت الأخبار)، أي لأصبح هناك مانع من انتشار الأخبار إلى المسلمين الباقين.
فهذه الأمور المستفادة من الحج إضافة إلى العبادة والغفران.
التأسي بالحسين (عليه السلام)
جاء عن الإمام الرضا (ع) أنه قال: «لما أمر الله تبارك وتعالى إبراهيم (ع) أن يذبح مكان ابنه إسماعيل الكبش، الذي أنزله عليه، تمنّى إبراهيم (ع) أن يكون قد ذبح ابنه إسماعيل (ع) بيده، وأنه لم يؤمر بذبح الكبش مكانه، ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد، الذي يذبح أعزّ ولده بيده، فيستحق بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب، فأوحى الله عزّ وجل إليه: يا إبراهيم، من أحب خلقي إليك؟ فقال: يا رب ما خلقت خلقاً هو أحب إلي من حبيبك محمد (ص). فأوحى الله عزّ وجل إليه: يا إبراهيم، أفهو أحب إليك أو نفسك؟ قال: بل هو أحب إلي من نفسي، قال: فولده أحب إليك أو ولدك؟ قال: بل ولده. قال: فذبح ولده ظلماً على أعدائه أوجع لقلبك، أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي؟
قال: يا رب بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي.
قال: يا إبراهيم فإن طائفة تزعم أنها من أمة محمد (ص) ستقتل الحسين (ع) ابنه من بعده ظلماً وعدواناً، كما يذبح الكبش، فيستوجبون بذلك سخطي. فجزع إبراهيم (ع) لذلك وتوجع قلبه، وأقبل يبكي. فأوحى الله عزّ وجل إليه: يا إبراهيم، قد قبلت جزعك على ابنك إسماعيل لو ذبحته بيدك، بجزعك على الحسين (عليه السلام) وقتله، وأوجبت لك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب، فذلك قول الله عزّ وجل: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (25) ولا حول ولا قوة إلا بالله»(26).
ولا شك من أن الامتحانات الصعبة التي جرت على إبراهيم (ع) كانت بأمر الله تعالى له بذبح ابنه إسماعيل الذي أعانه فيما بعد في بناء الكعبة المشرفة. والله تعالى كان دائماً يذكّر الأنبياء بمأساة الحسين (ع) ليكون شخصه وعمله دافعاً قوياً لحركتهم، وسبباً لبلوغهم أعلى مراتب الثواب، كما مرّ مع شيخ الأنبياء إبراهيم، وابنه، فلقد حصل إبراهيم على أعلى درجات الثواب من خلال بكائه وحزنه على أبي عبد الله (ع).
إذن تبقى مأساة الحسين فريدةً من نوعها ولا يصل أحد إلى درجة الصبر والاحتساب التي وصل إليها الحسين (ع)، لذلك أعلم الله ذلك المعنى إلى إبراهيم (عليه السلام)، لكي لا يتصور إبراهيم الخليل أن عمله هذا هو أعظم مصاباً وأثقل امتحاناً، بل أن مصاب أبي عبد الله (عليه السلام) أعظم منه، لذلك فدى الله إسماعيل بكبش عظيم من جنّته. وأن الإمام الحسين (ع) أشرف بكثير من الكعبة، ولولا حركته وثورته العظيمة على الباطل لما بقيت الكعبة، ولما بقي الحج بصورته الصحيحة إلى يومنا هذا.
زيارة الحسين (عليه السلام)
ونجد في الروايات أن زيارة الحسين (ع) تعدل كذا حجّة وكذا عمرة.
قال الإمام الرضا (عليه السلام): «من زار الحسين فقد حجّ و اعتمر» فقيل: تطرح عنه حجّة الإسلام؟ قال: «لا هي حجّة الضّعيف حتّى يقوى ويحجّ إلى بيت اللّه الحرام ـ إلى أن قال ـ وإنّ الحسين لأكرم على اللّه من البيت؛ فإنّه في وقت كلّ صلاةٍ لينزل عليه سبعون ألف ملكٍ شعثٍ غبر لا تقع عليهم النّوبة إلى يوم القيامة، وإنّ البيت يطوف به سبعون ألف ملك كلّ يوم»(27).
وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «من زار الحسين (عليه السلام) يوم عرفة عارفاً بحقّه كتب اللّه له ألف حجّة مقبولة وألف عمرة مبرورة»(28).
وعن أبي سعيد المدائني قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقلت: جعلت فداك آتي قبر الحسين (عليه السلام)؟ قال: «نعم يا أبا سعيد، فائت قبر الحسين بن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أطيب الأطيبين وأطهر الطاهرين وأبر الأبرار، فإذا زرته كتب الله لك به خمسا وعشرين حجة»(29).
وعن شهاب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألني فقال: «يا شهاب، كم حججت من حجة؟» فقلت: تسع عشرة حجة فقال لي: « تممها عشرين حجة تحسب لك بزيارة الحسين (عليه السلام)» (30).
وعن صالح النيلي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «من أتى قبر الحسين (عليه السلام) عارفا بحقه كان كمن حج مائة حجة مع رسول الله(صلى الله عليه وآله)» (31).
وقال (عليه السلام): «من زار الحسين (عليه السلام) كتب الله له ثمانين حجة مبرورة» (32).
وعن موسى بن القاسم الحضرمي قال: قدم أبو عبد الله (عليه السلام) في أول ولاية أبي جعفر فنزل النجف فقال: «يا موسى اذهب إلى الطريق الأعظم فقف على الطريق فانظر، فإنه سيأتيك رجل من ناحية القادسية فإذا دنا منك فقل له: هاهنا رجل من ولد رسول الله(صلى الله عليه وآله) يدعوك فسيجيء معك» قال: فذهبت حتى قمت على الطريق والحر شديد فلم أزل قائما حتى كدت أعصي وأنصرف وأدعه، إذ نظرت إلى شيء يقبل شبه رجل على بعير، فلم أزل أنظر إليه حتى دنا مني فقلت: يا هذا، هاهنا رجل من ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله) يدعوك وقد وصفك لي، قال: اذهب بنا إليه قال: فجئت به حتى أناخ بعيره ناحية قريبا من الخيمة فدعا به، فدخل الأعرابي إليه ودنوت أنا فصرت إلى باب الخيمة أسمع الكلام ولا أراهم.
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «من أين قدمت؟» قال: من أقصى اليمن قال: «أنت من موضع كذاو كذا؟» قال: نعم، أنا من موضع كذا وكذا قال: «فبما جئت هاهنا؟» قال: جئت زائرا للحسين (عليه السلام) فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «فجئت من غير حاجة ليس إلا للزيارة؟» قال: جئت من غير حاجة إلا أن أصلي عنده وأزوره فأسلم عليه وأرجع إلى أهلي، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): « وما ترون في زيارته؟» قال: نرى في زيارته البركة في أنفسنا وأهالينا وأولادنا وأموالنا ومعايشنا وقضاء حوائجنا قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «أ فلا أزيدك من فضله فضلا يا أخا اليمن؟» قال: زدني يا ابن رسول الله قال: «إن زيارة الحسين (عليه السلام) تعدل حجة مقبولة زاكية مع رسول الله» فتعجب من ذلك قال: إي والله وحجتين مبرورتين متقبلتين زاكيتين مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)» فتعجب، فلم يزل أبو عبد الله (ع) يزيد حتى قال: «ثلاثين حجة مبرورة متقبلة زاكية مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)»(33).
وعن يزيد بن عبد الملك قال: كنت مع أبي عبد الله (عليه السلام) فمر قوم على حمير فقال لي: «أين يريدون هؤلاء؟» قلت: قبور الشهداء قال: «فما يمنعهم من زيارة الغريب الشهيد؟» فقال له: رجل من أهل العراق زيارته واجبة؟ فقال: «زيارته خير من حجة وعمرة وعمرة وحجة ـ حتى عد عشرين حجة وعشرين عمرة ـ مبرورات متقبلات» قال: فو الله ما قمت حتى أتاه رجل فقال: إني قد حججت تسع عشرة حجة فادع الله أن يرزقني تمام العشرين قال: «فهل زرت الحسين (عليه السلام)» قال: لا قال: «لزيارته خير من عشرين حجة»(34).
الاستعمار وشعائرنا الدينية
تبين ممّا تقدم أنّ من الأهداف الأساسية للحج اتحاد وتعارف واختلاط المسلمين، وهذا الأمر يؤدي إلى قوة المسلمين، وانتشار أخبارهم في كل بقعة معمورة يسكنونها مما يجعل التلاحم سريعاً والتوادد كبيراً فيما بينهم.
ومن هنا تحرك الاستعمار أمام هذه التظاهرة العبادية، فوقف رئيس الوزراء البريطاني أمام مجلس العموم وقال لهم: إذا أردتم أن يكون لكم في البلاد الإسلامية موطئ قدم، فيجب أن تعملوا على رفع القرآن منهم، وإيقافهم عن الحج(35).
فبدأوا بوضع العراقيل أمام هذه المسيرة الإلهية العظيمة وأمام هذه الشعائر الجليلة، لأنهم أدركوا المغزى البعيد من الحج، فبدأت القلوب ترتجف من هذا الزحف الإسلامي العظيم، متوقعين بين لحظة وأخرى أن هذه الجموع تزحف نحوهم، لتقضي على كل هياكل الظالمين. وعادة الاستعمار جارية على أن لا يتحرك هو بنفسه، بل يحرّك أذنابه، ومن يدور في فلكه، ومن نصّبه لأجل هذه الأهداف. فبدأوا بوضع مختلف العراقيل أمام فريضة الحج منها:
تقليص عدد الحجاج وفرض رقم خاص، بحجة أن الأماكن العبادية مثل عرفات لا تستوعب أكثر من هذا العدد. بينما تواترت الروايات الشريفة على أن عرفات لها نقطة مركزية خاصة ولكن إذا ضاق المكان بالناس فلا يكلفون فوق طاقتهم ووسعهم، فإن الله تعالى أعطى رخصة عامة ووسّع منطقة الوقوف فيها. إضافة إلى باقي التسهيلات الإلهية العظيمة، مثل: من لم يجد الهدي فبدله صيام عشرة أيام ومن لم يستطع رمي الجمرات نهاراً فليرمها ليلاً، وغيرها الكثير من التسهيلات فضلاً عن تسهيل مسألة الحج بصورة كلية من ناحية الرزق والتوفيق. وكل هذه التسهيلات والرخص الإلهية من قبل المولى جل وعلا؛ نظراً لأهمية الحج وفائدته الحضارية، في انتشار القيم وبناء هيكل إسلامي موحد وحصين، إضافة إلى فوائده الروحية الكثيرة(36).
والاستعمار يدرك هذا المعنى فعمل على خلق وصياغة معوّقات أمام مسيرة الإسلام الظافرة، فخلقوا مذاهب وتيارات جديدة باسم الإسلام، ولكنها تعارض كل المسلمين في كل شيء فكراً وعقيدة وسلوكاً مثل الوهابية ليكونوا حجر عثرة أمام الإسلام والمسلمين، إذ قاموا بهدم قبور أئمة البقيع (صلوات الله عليهم)، وقبور الصحابة والأعلام أمثال قبر عبد المطلب وأبي طالب وخديجة وآمنة بنت وهب وغيرهم (رضوان الله عليهم أجمعين)(37) بغية خلق جوّ من التوتر والتشنّج بين المسلمين، وزيادة مظاهر التشاحن والطعن فيما بينهم. إضافة إلى الأفكار المغلّفة بأغلفة إسلامية وباطنها ليس من الإسلام في شيء. والهدف في صناعة هذه التيارات والاتجاهات المنحرفة هو القضاء على كل مظهر من مظاهر الوحدة الإسلامية، حتى وإن كان شكلياً فضلاً عن محاربة الحج الذي يعدّونه من أقوى مظاهر الاتحاد والتلاحم بين المسلمين.
ما هو المطلوب؟
إن الطريق الذي نستطيع به إزالة العراقيل التي وضعها الاستعمار الكافر لطمس وتشويه شعائرنا، هو القلم والبيان والخطاب حتى يصل صوتنا إلى كل بقاع المسلمين، جادين مخلصين في القضاء على حالات الجهل، وحالة عدم الوعي عند المسلمين، والتي يستغلها الاستعمار وأعداء الإسلام لتمرير مخططاته الخبيثة. وأن نهتم اهتماماً كبيراً بالمستوى الثقافي وزيادة الوعي. وأن يكون شعورنا بالمسؤولية شعوراً يتوازن مع خطورة الأحداث التي تجري في الحج وعلى ساحتنا الإسلامية، إذ أن الاهتمام بأمور المسلمين وقضاياهم يعدّ ضرورة شرعية وواجباً إسلامياً تقع على عاتق جميع المسلمين، فقد قال الإمام الصادق (عليه السلام): «من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»(38).
وقال (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله): «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»(39).
والمهم أن لا يستصغر المسلم نفسه، بل عليه أن يخرج من الحالة الانهزامية الداخلية، ويصبح ثورة على الواقع الخاوي. وأن يقف بوجه تحركات الاستعمار وأذنابه، لا سيّما في المناطق الإسلامية؛ لأن الاستعمار مهما عمل من عمل فهو على المستوى القريب والبعيد لا يخدم المسلمين ولا الإسلام، وإن كان في ظاهره يحمل طابعاً إسلامياً، ذلك لعدم وجود أي نقطة اشتراك والتقاء بين الإسلام والاستعمار، فالأول يدعو إلى الله عزّ وجل وتعبيد الناس له لأنه خالقهم وله حق الطاعة وتحريرهم من أي سيطرة استعبادية لغيره، بينما الاستعمار يدعو إلى القضاء على فكرة الدين والخالق والعبادة، ويسعى نحو استعباد الناس له، وامتصاص خيرات بلادهم.
«إلهي أغنني بتدبيرك لي عن تدبيري، وباختيارك عن اختياري وأوقفني على مراكز اضطراري، إلهي أخرجني من ذلّ نفسي، وطهّرني من شكي وشركي قبل حلول رمسي، بك أنتصر فانصرني وعليك أتوكل فلا تكلني وإيّاك أسأل لا تخيّبني وفي فضلك أرغب فلا تحرمني»(40) بحق محمّد وآله الطيبين الطاهرين.