تجنب الملذات
من قاموس الامام الشيرازي
حيدر الجراح
2015-07-02 05:21
بابي انت وامي يارسول الله، هكذا كان المسلمون الاوائل يخاطبون رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) رغم انهم كانوا يرزحون تحت عذاب كافر من مستبدي قريش للرجوع عن اعتناقهم الاسلام والتفرق عن نبي الرحمة محمد بن عبد الله (صلى الله عليه واله وسلم).
كانوا يستهينون بأنواع العذاب لأنهم كانوا يستهينون بالحياة الفانية وملذاتها، ولأنهم وجدوا ان هذا الدين الذي أصبحوا عليه قد جاء لإخراج الناس من الظلمات الى النور، وانهم بهدي هذا النور يسيرون على طرق معبدة، توصلهم لإنقاذ الناس وانفسهم أولا مما كانوا يرزحون تحته من ظلم وظلمات.
كيف اصبح المسلمون الان؟
لا توجد مقارنة بين امسهم الذي كانوا فيه سادة العالم، ويومهم الذي اصبحوا فيه على ما هم عليه من تخلف وتأخر وانحطاط في كافة المجالات، وتراجعوا عن سلم الحضارة والتقدم.
ومرد ذلك كما يخبرنا المرجع الديني الراحل الامام الشيرازي في كتابه الفقه/طريق النجاة: (إذا نظر الإنسان الى باب الفقه في (كتاب الجواهر)، لا يرى عمل المسلمين متطابقاً معه، وإذا نظر في مطلق الأعمال إلى كتاب (الوسائل) لا يرى عمل المسلمين منطبقاً عليه، بل نقول: إذا نظر الإنسان إلى القرآن الحكيم فإنه لا يرى انطباق أعمال المسلمين عليه).
وهذا لا يعني بحال من الأحوال خطأ في المبنى الذي هو الإسلام، بل الخطأ في البناء الذي شاده المسلمون بعد تشتتهم وتفرقهم وتسلط أنظمة الجور عليهم.
يقول الامام الراحل: (إن صحة المبادئ شيء وتطبيق الحالة الخارجية على تلك المبادئ شيء آخر، وإذا لم يطبّق الإنسان أعماله على تلك المبادئ الصحيحة عاش حالة الدروشة، وكثير من المسلمين صاروا في القرن الحاضر هكذا انهم دراويش أعمال وإن كانت عقائدهم صحيحة، والدرويش لا يتمكن من التقدم، فكيف وهو لا يتقدم إلاَّ في المحيط الذي تصوره هو وبناه لنفسه، إنهم يعتقدون بأصول الدين ويقومون بأداء العبادات، لكن الإسلام لا يطبق كلاً من ألفه إلى يائه، لا في النظافة، ولا في النظام، ولا في الأمة الواحدة، ولا في الأخوة الصادقة، ولا في الأُلفة، ولا في الاكتفاء الذاتي، ولا في النشاط، ولا في العلو حسب (الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه) ولا في عدم اتخاذ الوليجة، ولا في زواج بنيهم وبناتهم حسب السن الإسلامي والمهر الإسلامي ولا في الحج الجماهيري، ولا في الأخلاقيات، ولا في الآداب، ولا في الاستفادة من خيرات الأرض، ولا في العلم، ولا في ألف شيء وشيء، والحاصل لا يطبق الإسلام في القانون وإنما يطبق في الذهن والعبادة غالباً فقط، أليست هذه حالة الدروشة؟ فماذا يصنع الدرويش غير أنه يعتقد عقيدة معينة (على فرض صحة اعتقاده وعدم انحرافها) ويعمل بالعبادات من صوم وصلاة وحج إذا كان مطابقاً للإسلام، أما سائر الأُمور فلا وربما يعمل ببعضها، لكن ذلك العمل بالبعض لا يخرجه عن كونه درويشاً).
لأجل الخروج من تلك الحالة بعد تشخيص الداء، يقترح الامام الشيرازي عشرة من العوامل او الأمور (التي سببت تقدم المسلمين ذاك التقدم الهائل وإنقاذهم للعالم من براثن الكفر والجهل والمرض والغفلة والفوضى والحروب وما أشبه التي شملت العالم قبل بزوغ الإسلام. ولا بد ـ في سبيل إعادة العالم إلى استقراره ورفاهه وحريته وسلامته من جديد ـ من تحلّي المسلمين بهذه الصفات والتي ذكرت في القرآن الحكيم في مئات الآيات، وفي السيرة الطاهرة في ألوف الروايات، كما طبقها الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وبعض خلفائه على المسلمين إبان حكمهم).
والأمور التي يذكرها الامام الراحل لهذا الخروج المظفر هي:
أولاً: تجنب الملذات المعوقة عن الانطلاق:
ثانياً: الاستهانة بالأخطار في سبيل الهدف:
ثالثاً: الطاعة المطلقة للقيادة:
رابعاً: الرغبة الصادقة في الإنقاذ:
خامساً: الأخلاقيات المثالية للقاعدة:
سادساً: عدم التمايز في الحقوق:
سابعاً: العدل والإحسان:
ثامناً: الوحدة والوفاق:
تاسعاً: التعبئة العامة:
عاشراً: الاستهانة بالظالمين:
ونتطرق للأمر الاول في هذه السطور.
وهو الاهم وجعله الامام الراحل على رأس اولوياته في ترتيب العوامل المساعدة على النهوض، كما ترد في كتابه (الصياغة لجديدة لعالم الايمان والحرية والرفاه والسلام) حيث يقول:
(إن المسلم كان يتجنب الملاذ فلا يهتم بالحياة بقدر اهتمامه بإنقاذ الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور).
ويقيم الامام الراحل هذا الترتيب على اساس من آيات الذكر الحكيم مثل قوله تعالى: (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون) (التوبة: 20).
وقوله تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) (التوبة: 24).
فنرى في هذه الآية المباركة أن الواجب على الإنسان المسلم أن يتجنب كل المشتهيات من آباء وأبناء وأخوان وأزواج وعشيرة وأموال وتجارة ومساكن ويستعيض عن كل ذلك بالحب لله ولرسوله والجهاد في سبيله، وإلا فإنه ليس من الإسلام في شيء، ويسميه الله سبحانه وتعالى فاسقاً فيقول: (فتربصوا حتى يأتي الله بأمره) (التوبة: 24).
حيث إن الله يأتي بأمره بسبب مؤمنين من هذا الطراز.
(والله لا يهدي القوم الفاسقين) (التوبة: 24).
فالمسلم الذي لا يكون الله ورسوله والجهاد في سبيله أحب إليه من هذه الأمور فهو فاسق في منطق القرآن خارج عن أوامر الله تعالى.
وقال تعالى: (ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين) (النساء: 75).
فالقتال إما لأجل تطهير الأفكار عن الخرافة وتطبيق شريعة الله، وإما لأجل إنقاذ المستضعفين من براثن المستكبرين.
وقال سبحانه ليذكر المسلمين بما يجب عليهم: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) (التوبة: 34 ـ 35).
وهذه الآية الكريمة تعريض بالذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، فاللازم على المسلم أن لا يكنز الذهب والفضة، بل ينفق الذهب والفضة في سبيل الله، حسب الموازين المقررة في الشريعة الإسلامية وجوباً واستحباباً.
ويقول سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير) (التوبة: 38 ـ 39).
فاللازم على المسلم أن ينفر في سبيل الله سواء كان سبيل الجهاد، أو سبيل التبليغ، أو سبيل الإصلاح والهداية أو سائر السبل، ولا يجوز أن يثّاقل إلى الأرض من جهة مال أو زوجة أو تجارة أو مسكن أو ما أشبه، وإلا كان راضياً بالحياة الدنيا بدلاً من الآخرة، واللازم على المسلم أن يعلم أن الحياة الدنيا بالنسبة إلى الآخرة متاع قليل، وانه إذا لم ينفر في سبيل الله فإن الله سيعذبه عذاباً أليماً، وأنه يذهب ويأتي بعده غيره ممن لا يكون مثله.
ويقول الله سبحانه: (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون) (التوبة: 41 ـ 42).
وفي هذه الآية يأمر الله سبحانه وتعالى بالنفر، سواء كان الإنسان خفيفاً أو ثقيلاً، خفيفاً من جهة الجسد أو ثقيلاً، شاباً أو شيخاً، مديناً أو غير مدين، بديناً أو غير بدين، واللازم عليه أن يجاهد بماله وبنفسه في سبيل الله، وأن لا يفرق بين السفر القريب والسفر البعيد والهدف البعيد والهدف القريب، وإن هؤلاء الذين يفرقون بين السفرين ويفرقون بين الخفيف والثقيل إنما يهلكون أنفسهم وعند الله هم الكاذبون.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى: لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون) (التوبة: 44 ـ 45).
فاللازم أن لا يستأذن المؤمن بالنسبة إلى الجهاد بماله وبنفسه سفراً وحضراً، والذي يستأذن فهو عند الله غير مؤمن وهو عند الله مرتاب القلب وإن كان يصلي ويصوم ويحج ويلتزم بكثير من لوازم الإيمان.
ويقول سبحانه وتعالى: (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثَّبطهم وقيل اقعدوا مــع القاعدين) (التوبة: 46).
فالمسلم إذا أراد الخروج أعدّ العدة وذلك دليل إرادته الحركة، ومن لا يعد العدة فهو مبغوض عند الله سبحانه وتعالى ويكره الله انبعاثه فيثبطه ويجعله قاعداً مع القاعدين.
ويقول سبحانه: (قل هل تربَّصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذابٍ من عندهِ أو بأيدينا، فتربّصوا إنا معكم متربِّصون قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوماً فاسقين وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجاً أو مغاراتٍ أو مُدَّخلاً لولّوا إليه وهم يجمحون) (التوبة: 52 ـ 57).
ففي هذه الآيات يذكر الله سبحانه وتعالى المؤمنين ـ الذين يستعدون للحركة مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حسب أوامره ـ إن لهم إحدى الحسنيين، إما حياة سعيدة، وإما جنة عرضها السماوات والأرض، وأما غير هؤلاء من الذين لا يتحركون يلازمون ملاذهم، فالله سبحانه وتعالى إما يعذبهم بأيدي المؤمنين أو يعذبهم بعذاب من عنده، ثم إن هؤلاء لا تقبل نفقاتهم سواء أنفقوا طوعاً أو كرهاً لأنهم كانوا قوماً فاسقين، والله سبحانه وتعالى إنما يتقبل من المتقين، ثم إن الله سبحانه وتعالى لا يتركهم وشأنهم ولا يقبل إيمانهم، وإنما يقول إن الله لا يقبل نفقاتهم لأنهم كفروا بالله وبرسوله، حتى أن صلاتهم ليست صلاة مقبولة عند الله، لأن إتيانهم بالصلاة في حالة الكسل، وإنفاقهم في حالة الكره منهم، فهؤلاء حتى إذا كانت أجسامهم جميلة وأولادهم كثيرين فإن ذلك من أسباب عذابهم.
(ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) (التوبة: 55).
ثم يقول الله سبحانه: (إنهم يحلفون بأنهم منكم، لكنهم ليسوا منكم، بل إنهم قوم جبناء، ولو أنهم وجدوا ملجأ يلجئون إليه أو مغارات في الكهوف أو مدخلاً أي أماكن يتمكنون من الدخول فيها لولوا إليه وهم يجمحون بصورة مسرعة حتى يتجنبوا الأخطار.
فانظروا إلى هذه الآيات الكريمات أي عمل تعمل بقلوب المسلمين؟ وكيف تجنبهم الملذات المانعة من تبليغ رسالة الله سبحانه وتعالى ومن إنقاذ المستضعفين من أيدي المستكبرين.
ثم يصف الله الذين لا يتصفون بهذه الصفات الموجبة للانطلاق والحركة حتى يتجنب المؤمنون أن يكونوا مثلهم بقوله: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئـــك هم المفلحون أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم) (التوبة: 87 ـ 88).
نعم لا بأس على الذين لا يتمكنون، ولذا قال سبحانه: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ولرسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم) (التوبة: 91).
وهكذا كان شأن المسلمين السابقين تجنب الملاذ لأجل الله، ولأجل رسوله، فحققوا الانتصار والتقدم.