الكليم وبنو إسرائيل

(5)

المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي

2021-02-13 04:40

أقام موسى (عليه السلام) في (طور سيناء) وهو جبل كان يناجي الكليم عليه ربه أربعين يوماً صائماً، قائماً، مناجياً ربه.

وبعد تمام الأربعين، أنزل الله عليه الكتاب المقدس (توراة) وقد قال سبحانه: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور). وكان هذا الكتاب على ألواحٍ من (زبرجد أخضر) من ألواح الجنة. وفيها أحكام الله سبحانه، التي تنظمّ أمور البشر أمور دينهم، وأمور دنياهم.

وقد كان اللازم على كل البشر، أن يتّبعوا هذا الكتاب المقدس في جميع شؤونهم ـ لأن موسى (عليه السلام) كان مبعوثاً لكل البشر ـ.

وهكذا كان هذا الكتاب هو كتاب الله الذي يجب على الأجيال اللاحقة لموسى (عليه السلام) اتباعه والعمل به، حتى إذا جاء دور المسيح عيسى (عليه السلام)، صار البشر مأمورين باتباعه وكان كتاب المسيح (الإنجيل)، وكان الإنجيل نافذ المفعول، حتى جاء دور نبي الإسلام (محمد صلى الله عليه وآله وسلم) فأتى بـ(القرآن الكريم) ناسخاً لما تقدّم من الأحكام، باقياً إلى الأبد، فقال سبحانه: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين).

لكن اليهود، حرّفوا هذا الكتاب (التوراة) كما قال سبحانه: (يحرّفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظّاً مما ذُكّروا به) ولذا ليس (التوراة) الآن هو الصحيح عندهم. والنسخة الأصليّة من (التوراة) التي نزلت من الجنّة، أودعها موسى (عليه السلام) في (بطن الجبل) لمّا حضرته الوفاة ـ وكانت نسخٌ منها بأيدي اليهود. ثمّ حرّفوها ـ فلمّا بعث نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلّم، أظهر الله تلك النسخة الأصلية له، فكانت عنده، ثم أودعها علياً (عليه السلام)، وكذلك انتقلت من كل إمام إلى إمام آخر، وهي موجودة الآن بيد الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام).

* * *

لمّا أخذ موسى (عليه السلام) ألواح التوراة، في جبل سيناء، جاء بها إلى بني إسرائيل في (التيه) فلمّا رآهم عبدوا العجل، غضب أشد الغضب، حتى إنه (ألقى الألواح) من يده تضجراً مما فعله اليهود، وإن كان علم بذلك من قبل ـ بوحي الله تعالى ـ لكن الرؤية أثارت موسى (عليه السلام) أكثر من الخبر. (ولمّا سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون).

ثم انظر إلى عجيب الأمر:

كان بنو إسرائيل هم الذين ألحّوا على موسى (عليه السلام)، بسؤال الله تعالى إنزال كتاب إليهم فيه نظام دينهم ودنياهم، فإنهم ملّوا من عدم النظام الذي كان يسود حياتهم ومن جرّاء الفوضى وعدم وجود منهج لديهم، لكن لمّا جاءهم موسى بالكتاب، بعد تلك المشاكل، لم يقبلوا ذلك الكتاب.

وقد أمرهم موسى (عليه السلام) أن يسجدوا لله شاكرين، دلالة على قبولهم التوراة، لكنهم كرهوا ذلك فلم يسجدوا، فرفع الله قسماً من الجبل، حتى أظلّهم، وقيل لهم: إن لم تسجدوا دلالةً على قبول (التوراة) سقط الجبل عليكم بما فيه هلاككم، فاضطروا إلى السجود، لكن هل خفّف الخوف عنادهم؟ كلا!

إنهم سجدوا بشقّ وجوههم، لا بالجبهة، ينظرون إلى الجبل، هل يذهب إلى مكانه، حتى يرفعوا رؤوسهم، أو يبقى، حتى يبقوا في حالة سجود؟ (وإذ نتقنا الجبل) رفعناه فوق رؤوسهم (كأنه ظلّة) كالسقوف التي تظلّل الإنسان (وظنّوا أنه واقعٌ بهم) فإن قطعة الجبل المعلقة فوق الرؤوس، تلقي في النفس خوف الوقوع فقلنا لهم (خذوا ما آتيناكم) من التوراة (بقوة) في العمل به والالتزام بأوامره (واذكروا ما فيه لعلّكم تتقون). إنهم وعدوا أخذ الكتاب بقوّة، وسجدوا، حتى رجع الجبل إلى مكانه.. لكنهم هل وفوا بما وعدوا؟ كلا!

بل: (ثم تولّيتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين) وهكذا (حملوا التوراة ثم لم يحملوها) أخذوها ظاهراً، ولم يعملوا بأحكامها، فكان مثلهم: (كمثل الحمار يحمل أسفاراً) كتباً من العلم، إنها على ظهر الحمار، لكن الحمار لا يستفيد منها أبداً.

* * *

لقد كان ابتلاء موسى (عليه السلام) باليهود، ابتلاءً عظيماً، فإنهم في نفس الوقت الذي كانوا يعترفون له بالنبوة، ويرون منه الآيات، لا يصدّقون كلامه، لا خفاءً فحسب، بل كانوا يجهرون بذلك جهراً.

ومن ذلك أنّ موسى (عليه السلام) حين أخبرهم بأن الله سبحانه، يناجيه ويتكلّم معه، أنكر جماعة منهم، وقالوا: إنا لا نصدّق قولك وكيف يمكن أن يتكلّم الله معك؟ ولن نؤمن إلا إذا سمعنا نحن كلام الله، فاذهب بنا إلى الطور، حتى نسمع نحن كما تسمع أنت.

وأجازه الله سبحانه في ذلك.. وقد كان الطالبون لهذا الأمر سبعين ألفاً، فاختار موسى منهم سبعة آلاف، ثم اختار منهم سبعمائة، ثم اختار منهم سبعين (واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا) أي الوقت المحدود لسماعهم كلام الله تعالى.

فخرج بهم إلى طور سيناء، فأقامهم في سفح الجبل، وصعد موسى إلى الطور، وسأل الله سبحانه أن يكلّمه ويسمع القوم كلامه، فاستجاب الله تعالى دعاءه، وكلّم موسى، بحيث سمع السبعون كلام الله تعالى.

ولم يكن لكلامه اتجاه خاص ـ كما يكلّم أحدنا صاحبه ـ بل جاء كلامه من فوق ومن تحت، ومن اليمين واليسار، ومن الخلف والأمام، فإنه تعالى لا يتكلّم باللسان، ولا له جهةٌ خاصّةٌ وإنما يلقي الكلام في الفضاء، ولذا يحيط الكلام بالسامع.

ولمّا سمعوا كلامه سبحانه، قالوا: لا نصدّق أن هذا كلام الله، فيجب أن نرى الله عياناً حتى نؤمن بك، وأنّك كليم الله ونبيّه.. وحيث تمّت عليهم الحجة ولم يبق إلا العناد، أرسل الله صاعقة أرجفتهم وأهلكتهم جميعاً.

لكن موسى (عليه السلام)، خاف أن يقول بنو إسرائيل: إنك لم تكن تقدر على إسماعهم كلام الله، ولذا قتلتهم ومن هذه الجهة طلب من الله سبحانه أن يحييهم. فاستجاب الله سبحانه دعاءه وأحيا السبعين، فرجعوا مع موسى (عليه السلام)، وأخبروا بني إسرائيل بالقصة كلّها (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرةً فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون) حين نزول الصاعقة (فلمّا أخذتهم الرجفة) الّتي أحدثتها الصاعقة (قال) موسى: يا (رب) كيف تهلكهم الآن؟ فإن بني إسرائيل يتهمونني بقتلهم، و(لو شئت) إهلاكهم بسبب عنادهم، لكنت (أهلكتهم من قبل وإياي) فإني لا مانع لي من أن تهلكني إذا اقتضت مشيئتك ذلك.

فاستجاب الله دعاء موسى في إحيائكم يا معاشر اليهود (ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلّكم تشكرون) نعمي وآلائي.

ولم يكن كلام موسى (عليه السلام) حول إهلاك الله اليهود اعتراضاً، وإنما ضراعةً ودعاءً. كما أنه سبحانه لم يبد له في إحيائهم ـ بعد أن لم يعلم، تعالى عن ذلك ـ وإنما عاقبهم حسب عصيانهم، ثم أحياهم حسب المصلحة، واستجابة لدعاء نبيه العظيم موسى (عليه السلام)، وليزيد حجّةً على حجة.

ومما يلفت النظر في هذه القصة:

أن موسى (عليه السلام) مع أنه نبي عظيم من أولي العزم وأصوب نظراً من سائر الناس، وأحسن معرفة بالناس.. لم يكن اختياره للسبعين، اختياراً للمؤمن الصامد في إيمانه، ولذا كفروا بالله، وطلبوا المستحيل، بالإضافة إلى كفرهم بموسى (عليه السلام).. فهل بعد هذا يمكن أن يناط اختيار الواسطة بين الله وخلقه إلى الناس؟؟

* * *

قد يستغرب الإنسان إذا رأى العناد من جماعة من الجهلة، لكن المظنون أن يتبخّر كل استغراب في جنب الاستغراب الذي يحصل للإنسان حين يلاحظ أحوال اليهود!

أسمعت كيف طلبوا سماع كلام الله، وإلا رجعوا عن إيمانهم؟ فقبل موسى (عليه السلام) كلامهم، وسمعوا كلام الله.

ثم.. أسمعت: كيف عاندوا، وقالوا: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرةً)؟ فأخذتهم الصاعقة، لتمرّدهم وعصيانهم، واحترقوا.

ثم.. أسمعت: كيف طلب موسى (عليه السلام) أن يحييهم الله تعالى، فاستجاب الله له؟

فاسمع الغريب العجيب الآن!:

إن (السبعين نفراً) الذين بعثوا بعد الموت، بدعاء الكليم (عليه السلام)، لم ينفكّوا عن عنادهم وتماديهم في الغيّ، فإنهم لمّا أحياهم الله تعالى، قالوا لموسى (عليه السلام): إنك لو سألت الله أن تنظر إليه لأجابك، وكنت تخبرنا كيف هو؟ فنعرفه حق معرفته.

فأجابهم موسى (عليه السلام): بأن الله سبحانه لا يمكن أن يراه أحد ـ فإنه ليس بجسم وما أشبه الجسم، حتى يقبل الرؤية ـ.

لكن بني إسرائيل أصرّوا على كلامهم، ووقفوا إيمانهم على سؤال موسى (عليه السلام) ربّه. فاضطرّ النبي العظيم لتلبية طلبهم حرصاً على إيمانهم، ولمصلحة أن يسمع الجواب: بالنفي.. فيعرف بنو إسرائيل عدم الإمكان، من كلام الله تعالى. ولذا قال موسى (عليه السلام): (ربِّ أرني أنظر إليك).

ويا لهول المطلب، حين سأل موسى (عليه السلام) هذا السؤال؟ فقد أحاط بموسى (عليه السلام) نارٌ من جوانبه، وظهرت له أفواج الملائكة، تهبط من أبواب السماء، عــلى أيديهم العمد في رأسها النور، يمرّون به، قائلين: يا بن عمران سألت عظيما!!

ولعل ذلك كلّه كان، حتى يحكي موسى (عليه السلام) لبني إسرائيل، فيعرفوا الغلطة الكبيرة التي ارتكبوها.. أو كانوا يرون هذه الأحداث حين صارت.

* * *

وكيف كان الأمر. فقد أجاب الله تعالى عن سؤال موسى (عليه السلام)، بقوله: (لن تراني) لا في الدنيا ولا في الآخرة (ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) لكن استقرار الجبل حين إرادة الله سبحانه زواله عن مقرّه، مستحيل، فرؤيته تعالى مستحيل.. ثم إن الله تعالى (تجلّى للجبل) بأن أظهر عليه أثر قدرته وإرادته بتحطيم الجبل (فلمّا تجلّى ربه للجبل جعله) أي جعل الجبل (دكاً) محطّماً (وخرّ) أي سقط (موسى صعقاً) قد أخذتــه الغشوة، من هول ما رأى عند اندكاك الجبل (فلمّا أفاق) موسى من غشوته (قال سبحانك) اللهم (تبت إليك) أي أني راجع إليك في وصفك وأمرك، لا اطلب منك ما لا يكون، وإنما كان سؤال لأجل هؤلاء السبعين ـ كما تعلم ـ (وأنا أوّل المؤمنين) بك وبصفاتك، بأنّك لا ترى أبداً.

فـ(قال) الله سبحانه: (يا موسى إني اصطفيتك) واخترتك (على الناس برسالاتي) حيث جعلتك رسولاً (وبكلامي) حيث تكلّمت معك (فخذ ما آتيتك) من الأحكام والألواح (وكن من الشاكرين) لنعمائي.

(وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظةً وتفصيلاً لكل شيء) فإن الصفة العامّة لكتب السماء أن تشتمل على الخطوط العريضة، والقواعد العامّة، وللحياة السعيدة، لا بصورة الإجمال والاحتمال، بل بصورة التفصيل.. ولذا ورد في وصف القرآن (رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) ـ على تفسير (الكتاب المبين) بالقرآن ـ.

(فخذها بقوّة) بالعمل بكل صمود واستمرار (وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) بالإتيان بالأحسن من مصاديق كلّ أمرٍ ـ مثلاً: الصلاة مع حضور القلب أحسن أنواع الصلاة، فإذا أمرنا بالصلاة.. أتينا بالقسم الأحسن منها: أي مع حضور القلب.. أمّا الذين يخالفون الأوامر ولا يأخذون بأحكام التوراة، فجزاؤهم غداً العقاب والنكال، و(سأريكم دار الفاسقين) الخارجين عن إطاعتي.

* * *

لقد كان ابتلاء موسى (عليه السلام) ببني إسرائيل عظيماً، حتى إن أقرباءه ما كانوا يطيعون أمره ولا ينفّذون أوامر الله سبحانه التي يأتي بها موسى بن عمران. فقد كان (قارون) من أقرباء موسى (عليه السلام)، وكان له صوتٌ حسن، فيقرأ التوراة، قراءة حسنة، وكان يعرف (الكيمياء) وبذلك زادت أمواله زيادةً مدهشة، وكان موسى (عليه السلام) يحبّه لقرابته ودينه وجودة قراءته لكتاب الله.

لكن الشيطان لم يزل يغويه ويزيّن له، حتى أوقعه في الكبر والطغيان، كما قال سبحان: (إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى).

وفي حين كان بنو إسرائيل في التيه، أمرهم موسى (عليه السلام) بالضراعة إلى الله تعالى، لعلّه سبحانه يستجيب دعاءهم، فينقذهم من البلاء الذي وقعوا فيه بعصيانهم، فقبلت بنو إسرائيل كلام موسى، وأخذوا في الضراعة والابتهال، لكنّ قارون لم يحضر.. وأمره موسى بذلك فأبى.

وفي بعض الآثار: إن موسى أمره بإعطاء الزكاة عن أمواله، فأبى ولم يقبل.

وزاد الأمر إعضالاً، أنّه أخذ يتكبّر على بني إسرائيل بماله وجماله وصورته فكان يخرج عليهم في زينة بين خدمٍ وغلمان، استطالةً وتكبراً. ولم تنفع فيه موعظة موسى (عليه السلام).

بل سبّب ذلك حقداً على الكليم، وراح يبغي له الغوائل، حتى ورد في بعض الآثار: أنه حرّض امرأة مومس بالمال على أن تقف على رأس موسى (عليه السلام)، حين يكون مشتغلاً بوعظ بني إسرائيل فتنسب إلى موسى أنه أراد الزنا بها، وجعل لها من المال مائة ألف درهم إن فعلت ذلك.. لكنّ المرأة كانت أنظف قلباً من قارون، فحين كان موسى (عليه السلام) بين بني إسرائيل جاءت حتى وقفت على رؤوسهم، ثمّ قالت:

يا موسى! إنّ قارون أعطاني مائة ألف درهم، على أن أقول بين بني إسرائيل ـ على رؤوس الأشهاد ـ إنك دعوتني إلى نفسك.. ثم أردفت كلامها قائلة: إنك يا موسى أجل من ذلك، معاذ الله أن تكون دعوتني، فلقد أكرمك الله عن ذلك.

وكيف كان الأمر، فقد اشتد غضب موسى (عليه السلام)، على قارون، ودعا الله أن يستجيب دعاءه في تعذيب قارون. فدخل على قارون في داره، حيث مقرّه، ومحلّ خزائنه وكنوزه، فلمّا رآه قارون عرف آثار الغضب على وجهه، وكيف لا يغضب على من تجبّر واستكبر، وبدل نعمة الله كفراً، وقطع رحمه، فقد أمر قارون ـ استهزاءً بموسى (عليه السلام) ـ بعض خدمه بأن يصب على رأس موسى طبقاً من رماد!!

قال (قارون) لمّا رأى غضب موسى وكان يعرف أنّه (عليه السلام) قادر على الانتقام منه:

أسألك يا موسى بالرحم التي بيني وبينك إلا كففت عنّي؟ لكن الأمر كان قد انتهى، وكان الطلب في غير أوانه (فلمّا رأوا بأسنا قالوا آمنّا).

قال موسى للأرض: خذيه وكنوزه، فأخذته الأرض إلى ركبتَيه. وأخذ قارون يضرع، وموسى (عليه السلام) يكرّر للأرض الأمر بأخذه. حتى انخسفت الأرض به وبداره وبما عنده من كنوز وأموال.

فلم يبق منه باقية، وانتهى كل شيء، فقد التحق هذا الطاغي الجديد، بالطاغي القديم (فرعون) وزادت في التاريخ عبرة وعظة جديدة لمن يطغى ويتكبّر، كيف يكون مصيره؟

وهنا تبين للذين كانوا يتمنون أن يكون لهم أموال مثل أموال قارون، أن الأفضل عدم مثل هذا المال الموجب للطغيان والخسران.

* * *

(إن قارون كان من قوم موسى) والمؤمنين به (فبغى) قارون (عليهم) أي على موسى (و) قد (آتيناه) أعطيناه (من الكنوز) والخزائن (ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة) فجماعةٌ كبيرةٌ ـ حتى قيل أنّهم كانوا بين عشرة وخمسة عشر ـ ما كانوا يتمكنون من حمل مفاتيح خزائنه بيسر، فقد كانت المفاتيح ثقيلة، فكم كانت الأموال الموجودة في الكنوز؟؟

(إذ قال له) أي لقارون (قومه) المؤمنون (لا تفرح) بهذه الأموال، فإن المال مظنّة الإهلاك إذ قلّما صار الإنسان ذا مال، ووفى حق الله فيه (إن الله لا يجب الفرحين) بالأمور الدنيوية التي لا ترتبط بالله سبحانه، فإنه سبحانه يحب الإنسان الذي يحب الله تعالى.

ثم قال بنو إسرائيل لقارون: (وابتغ) أي اطلب (فيما آتاك الله) من الأموال (الدار الآخرة) بالإنفاق من مالك في سبيل الله (ولا تنس نصيبك من الدنيا) فلست مأموراً بإعطاء كل ما لك لله، بل أعط قسماً لآخرتك، وأبق قسماً لدنياك، فإنه ليس من الله من ترك آخرته لدنياه، ولا من ترك دنياه لآخرته (ولا تبغ الفساد في الأرض) لا تطلب العناد، بمنع الحقوق والتكبّر وما أشبه (إن الله لا يحب المفسدين).

لم يرق كلام الناصحين لقارون، وهل يقبل المتكبّر المتعالي النصح؟

فأجاب القوم قائلاً: إنه ليس لأحد حق في هذه الأموال التي تحت يديّ (قال إنما أوتيته على علم عندي) فأنا بعلمي حصّلت هذه الأموال، لا بمشورة الآخرين، حتى يكون لهم حقٌ في مالي (أو لم يعلم أنّ الله قد أهلك من قبله من القرون) والأجيال (من هو أشد منه) أي من قارون (قوّة وأكثر جمعاً ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون)؟ فإن المجرم في كل جيل يهلك بدون أن يحاكم في هذه الدنيا، وإنما محاكمته يوم القيامة.. ألم يعلم قارون هلاك المتكبرين من قبله، فكيف يأمن من الله تعالى؟

إنه لم يكف عن كبريائه، بل (خرج على قومه في زينته) وأبهته وفخفخته، استطالة عليهم، وتكبّراً وعناداً، فلمّا نظر إلى كوكبته القوم (قال الذين يريدون الحياة الدنيا) بدون التفات إلى الآخرة: (يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظّ عظيم)؟ لكن عقلاء القوم، ردّوا الذين تمنّوا هذا التمنّي، قائلين: (ويلكم ثواب الله خيرٌ) من هذه الأموال (لمن آمن) بالله ورسله وما جاءوا به (وعمل صالحاً) بإطاعة أوامر الله والانتهاء عن نواهيه (ولا يلقّاها) أي لا يدرك ذلك الثواب (إلا الصابرون) الذين صبروا على طاعته سبحانه، ورضوا بقضائه.

فلننظر عاقبة (قارون) وما جرّته إليه أمواله، وكبرياؤه (فخسفنا به وبداره الأرض) إذ ساخت الأرض بقارون وداره، التي فيها خزائنه (فما كان له من فئة) جماعة (ينصرونه من دون الله) فهل يتمكن أحد أن ينصر من أراد الله عقابه؟ (وما كان من المنتصرين) هذه حالة قارون المتكبر، وخزائنه التي منع حقها.. فما كان موقف أولئك الذين تمنّوا مكانه، من هذه الحادثة؟

(وأصبح الذين تمنّوا مكانه) أي مكان قارون، بأن يكون لهم مثل ما لقارون (بالأمس يقولون وي) عجباً (كأنّ الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر) أي يوسّع ويضيّق سب حكمته البالغة، وإنما لم يوسّع علينا علماً منه بأن التوسعة مصيرها مصير قارون وأمواله (لولا أن مَنّ الله علينا) بعدم إعطائنا مثل مال قارون (لخسف بنا وي) عجباً (كأنه لا يفلح الكافرون) بأمر الله سبحانه. وإلى هنا تنتهي قصّة (قارون) وتبقى عبرة للأثرياء والمتكبّرين إلى يوم القيامة.

* * *

وقعت في زمان موسى (عليه السلام) قصّة طريفةٌ، في بني إسرائيل، وذلك أن رجلاً قتل ابن عمّ له. لتنازع وقع بينهما على امرأة، ثم جاء القاتل بالمقتول إلى موسى (عليه السلام) قائلاً: إنه ابن عمّي مقتولاً، فاطلب قاتله؟

فأوحى الله تعالى إلى موسى يأمرهم أن يذبحوا بقرةً، ويضربوا المقتول ببعض تلك البقرة، فعلوا ذلك فأحيا الله المقتول، فأخبر بأن قاتله هو ابن عمّه، الذي جاء به مكراً وخداعاً، فقتله موسى (عليه السلام)، قصاصاً، فقد كان رجل من خيار بني إسرائيل وعلمائهم، خطب امرأة، فرغبوا فيه، وخطبها في نفس الوقت ابن عمّ لذلك الرجل، وكان فاسقاً، فرغبوا عنه، وأخيراً زوّجت المرأة للخير، فحسده ابن عمّه وحقد عليه، فاختفى في طريقه، ولمّا أن مرّ الخير، قتله الفاسق غيلةً.. ثم حمله إلى موسى (عليه السلام)، قائلاً: هذا ابن عمّي قد قتل ـ وأراد بذلك أخذ ديته أيضاً ـ.

فاجتمع بنو إسرائيل عند موسى لفصل القصّة.. وصادف هذا الحادث، أمر ولد بارٌ بأبيه، كانت له سلعةٌ، وأراد بيعها، وكان في غرفة مقفلة، والمفتاح تحت راس أبيه النائم، لكن الولد كره أو يوقظ الأب لأجل ربح السلعة وردّ المشتري.. فلمّا استيقظ الأب، وعرف ما عمله الولد، أعطاه بقرة كانت له جزاء لبرّه وحسن أدبه.

لقد شكر الله للولد برّه بأبيه، فأوحى إلى موسى (عليه السلام)، بشراء بقرةٍ لها علامات مخصوصة، وكانت تلك العلامات منحصرة في بقرة الولد، فلمّا أرادوا شرائها لم يبعها إلا بملء جلدها ذهباً ـ ولعلّ ذلك كان بإيعاز من موسى (عليه السلام) ـ (إذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) ليتبين القاتل (قالوا أتتخذنا هزواً) فأي ربط بين ذبح البقرة، وظهور القاتل؟ (قال) موسى (عليه السلام): (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) بأن آمركم بشيء عبثاً؟ (قالوا): إذن فـ(ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي)؟ أي كيف يجب أن تكون البقرة؟فقد أخذوا يشدّدون على أنفسهم، فشدّد الله عليهم ولو أنهم حين أمروا بذبح البقرة، أخذوا أية بقرة وذبحوها، كان كافياً في الامتثال، ولم يحتاجوا إلى دفع مبلغ باهظ.

(قال) موسى (عليه السلام): (إنه) سبحانه (يقول إنها بقرةً لا فارضٌ) كبيــرة السن (ولا بكرٌ) صغيرة السن (عوانٌ) وسط (بين ذلك) الكبر والصغر (فافعلوا ما تؤمرون) من ذبح البقرة (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها)؟ فقد عرفنا سنّها (قال) موسى (عليه السلام): (إنه) تعالى (يقول إنها بقرة صفراءٌ فاقع) حسن الصفرة (لونها تسرّ الناظرين) إلى البقر.

(قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي)؟ فقد عرفنا عمرها، ولونها، وبقي أن نعرف عملها، هل تكون عاملة أم لا؟ (إن البقر تشابه علينا) فلا ندري الوصف المطلوب منّا في البقرة (وإنا إن شاء الله لمهتدون) في إطاعة أوامر الله تعالى.

(قال) موسى (عليه السلام): (إنه) عز اسمه (يقول إنها بقرة لا ذلول) أي لم تذلّ بالعمل (تثير الأرض) بأن لا تكون تكرب الأرض لغرض الزرع (ولا تسقي الحرث) بأن لا تكون عاملة (مسلّمة) قد سلمت من العيوب (لا شية فيها) أي لا يكون فيها لون مخالفٌ للونها.

(قالوا الآن) وبعد ذكر هذه الأوصاف (جئت) يا موسى (بالحق) الواضح. (فذبحوها وما كادوا يفعلون) أي كانوا بعيدين عن ذبح مثل هذه البقرة، لغلاء ثمنها، فقد أرادوا عدم شرائها، وراجعوا موسى في ذلك، فقال لهم: لابد أن تفعلوا، فاشتروها وذبحوها.. ولعلّ غلاء الثمن كان تعليماً لهم بأن الواجب إطاعة أوامر الله تعالى، مهما كلّف الأمر.

(وإذ قتلتم) يا بني إسرائيل (نفساً فادّارأتم فيها) أي تدافــعتم، فقال كل واحد منكم: أنا لم أقتله (والله مخرج ما كنتم تكتمون) من عرفانكم بالقاتل (فقلنا اضربوه) أي المقتول (ببعضها) أي ببعض أجزاء البقرة.. فضربوا ـ كما أمروا ـ فأحياه الله، وأخبر أن ابن عمه قتله، فاقتص منه (كذلك يحيي الله الموتى) فكما قدر سبحانه على إحياء هذا المقتول، يقدر على إحياء البشر يوم القيامة (ويريكم آياته لعلّكم تعقلون).

وفي هذه القصة عبر وعظات لمن أراد الاعتبار.

* * *

وفي أحوال موسى (عليه السلام) قصة طريفة، وقعت بينه وبين نبي الله الخضر (عليه السلام):

فقد أمر الله موسى أن يتبع الخضر، وكانت الغاية من هذا الاتباع، موعظة موسى بسبب الخضر، ولا عجب في ذلك، فقد كان رسول الإسلام (عليه وعلى آله الصلاة والسلام) يقول لجبرئيل (عليه السلام): عظني.. فلا يمكن أن يقال: كيف يمكن أن يكون المتعلّم ـ وهو موسى (عليه السلام) أفضل من المعلم ـ وهو الخضر (عليه السلام)؟

لقد تبع موسى الخضر، واشترط عليه الخضر أن لا يسأله عمّا يفعله، إن أراد دوام الصحبة، وقبل موسى الشرط، فخرجا يمشيان، حتى وصلا إلى سفينة، فركباها، وأخذ الخضر يثقب السفينة، فاعترض عليه موسى لماذا يخرق السفينة؟.. ثم لمّا نزلا من السفينة لقيا ولداً يمشي، فقتله الخضر فأثار هذا العمل موسى (عليه السلام) فاعترض عليه، لم قتل ولداً بريئاً؟ ثم دخلا قريةً وهما محتاجان إلى الطعام، فلم يطعمهما أهل القرية، ثم رأيا جداراً مائلاً.. فأخذ الخضر يرمّمه ويصلحه، فاعترض عليه موسى (عليه السلام): لماذا رمّم الجدار بدون أخذ الأجرة، ليستفيدا منها في شراء الطعام؟

وهنا فارق الخضر موسى، لأن شرط الصحبة انتهى، باعتراضات موسى (عليه السلام)، وأخبره عن مبرّرات عمله:

فخرق السفينة كان لمصلحة أصحابها، إذ لو وصلت السفينة سالمةً إلى الجرف كان الملك الموجود في ساحل البحر، يأخذ السفينة الصالحة، أمّا المخروقة فلم يكن يرغب فيها.

وقتل الولد إنّما كان درءاً لفساد كبير، لأنه علم أنّه إن بقي الولد فسد وأفسد والديه، فكان قتله قبل الإفساد خيراً للولد ولوالديه، فالله يعوّض عن الولد، بولد آخر صالح.

وترميم الجدار إنما كان لحفظ كنزٍ تحته لأيتام فلو ترك الجدار حتى سقط، لم يعرف الأيتام ـ إذا كبروا ـ محل الكنز، ويضيع مالهم المدّخر لهم.

وهذه القصة الطريفة، إنما كانت بعد أن قال موسى (عليه السلام) لوصيه (يوشع): إن الله أمرني أن أتبع رجلاً عنــد مجمع البحرين، فتزوّد يوشع بسمك مملّح، فلمّا بلغا المكان، أراد يوشع غسل السمك بالماء، فأحيا الله السمكة. وانسابت في الماء ـ وكان هذا علامة وصولهما إلى موضع الخضر (عليه السلام) ففحصا في ذلك الموضع، حتى لقيا الخضر.. ثم اتبعه موسى (عليه السلام) وحدث ما حدث.

* * *

(وإذ قال موسى لفتاه) أي الشاب الذي كان يلازمه، وهو وصيه يوشع (لا أبرح) لا أزال أسير حتى أصل إلى المقصد (حتى أبلغ مجمع البحرين) محل التقاء البحر الأبيض والبحر الأحمر أو غيره (أو أمضي حقباً) أي أحقاباً وأزمنةً طويلة، إن لم أظفر بمقصدي عند مجمع البحرين..

وهكذا سارا (فلمّا بلغا مجمع بينهما) أي مجمع البحرين (نسيا حوتهما) أي السمكة، فإنها عاشت بعد موتها وطفرت في الماء، ونسي يوشع القصة، فلم ينقلها لموسى (عليه السلام) (فاتخذ) الحوت (سبيله في البحر سرباً) أي مسلكاً يذهب فيه.

(فلما جاوزا) موسى ويوشع، مجمع البحرين (قال) موسى (لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً) وتعباً، فلنأكل السمكة، لنتقوى في مواصلة السير.. وهنا تذكّر يوشع قصة الحوت فـ(قال) لموسى: (أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة)؟ هل تذكر وقت نزولنا عند الصخرة في مجمع البحرين (فإني نسيت الحوت) حتى غاب في الماء (وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره) أي كان الشيطان السبب في نسياني له (واتخذ) الحوت (سبيله في البحر عجباً) أي اتخاذاً عجباً فإنه استعاد حياته وانساب في الماء.

(قال) موسى لمّا سمع هذا الخبر: (ذلك) المكان الذي ظهرت فيه هذه الآية، (ما كنّا نبغ) أي نطلب ونقصد الوصول إليه (فارتدّا) رجعا أي موسى ويوشع (على آثارهما) أي الآثار التي كانــت لهما في الأرض يريد الرجوع في نفس الطريق (قصصاً) من قصّ بمعنى اتبع الأثر.

(فوجدا) هناك عند انسياب السمكة (عبداً من عبادنا آتيناه رحمةً من عندنا) أي فضلاً ـ فإن الفضل رحمة من عنده سبحانه ـ (وعلّمناه من لدنّا علماً) علماً لدنياً بدون حاجة إلى التعليم وكان ذلك العبد خضرٌ (عليه السلام) ـ (قال له موسى هل أتبعك) يا خضر! (على أن تعلمني مما علّمت رشداً) أي من العلوم الرشيدة، التي لها رشد ونموّ.

(قال) الخضر: (إنك) يا موسى (لن تستطيع معي صبراً وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً)؟ فإنك لا تقدر أن ترى أعمالاً لا تعرف وجه الجواز فيها (قال) موسى (عليه السلام): (ستجدني) يا خضر! (إن شاء الله صابراً) لما تعمل (ولا أعصي لك أمراً) فلا أخالفك فيما تأمرني به من الصبر.. وقد علّق موسى (عليه السلام) صبره بمشيئة الله تعالى، لكن الله لم يشأ، إذ لم يلق في نفسه العزيمة القوية على الصبر.

(قال) الخضر (عليه السلام): (فإن اتبعتني) يا موسى! (فلا تسألني عن شيء) تراه (حتى أحدث لك منه ذكراً) في المستقبل بأن أبين سبب أعمالي لك.

وعلى هذا القرار، أخذا يسيران (فانطلقا) موسى والخضر (عليهما السلام) (حتى إذا ركبا في السفينة خرقها) أي ثقب الخضر السفينة.

(قال) موسى (عليه السلام): (أخرقتها لتغرق أهلها)؟ لكن الخضر كان إذا خرق موضعاً، جعل في مكانه ثوباً أو ما أشبه، ليقف أمام الماء (لقد جئت) يا خضر! (شيئاً إمراً) أي منكراً غير مألوفٍ.

(قال) الخضر: (ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً)؟ عرف موسى أنه تعجّل في الأمر، ممّا لا ينبغي له ذلك، فاعتذر، وقال: (لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني) أي لا تكلّفني (من أمري عسراً) بأن تكلّفني ما فيه المشقّة علي. قبل الخضر كلام موسى (عليه السلام) واعتذاره (فانطلقا حتى إذا لقيا) موسى والخضر (غلاماً فقتله) الخضر.

(قال) موسى (عليه السلام) معترضاً عــلى هذه القتلة بدون سبب ظاهر: (أقتلت) يا خضر! (نفساً زكيّة) طاهرة عن الآثام (بغير نفس) أي بدون أن يكون قتل الغلام نفساً حتى يستحق القصاص؟ (لقد جئت) يا خضر (شيئاً نكراً) أي منكراً غير معتاد.

(قال) الخضر: (ألم أقل لك) يا موسى (إنّك لن تستطيع معي صبراً)؟

لكن موسى اعتذر ثانياً (قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني) واترك صحبتي (قد بلغت) يا خضر (من لدنّي عذراً) أي قد أعذرت فيما بيني وبينك.

(فانطلقا) موسى والخضر يمشيان (حتى إذا أتيا أهل قريةٍ) قيل: هي قريةُ ناصرة (استطعما أهلها) طلبا منهم الطعام (فأبوا) أي أهل القرية (أن يضيّفوهما) يقبلوهما ضيفين، (فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقضّ) أي يسقط، وكان مائلاً للانهدام، (فأقامه) الخضر ورمّمه.

(قال) موسى (عليه السلام): (لو شئت) يا خضر أن تعمل هذا العمل (لاتّخذت عليه أجراً) حتى ننتفع بأجره.

(قال) الخضر (عليه السلام): يا موسى! (هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً) ولماذا فعلت الأشياء التي فعلتها..

(أما السفينة) التي خرقتها (فكانت لمساكين يعملون في البحر) يتعيّشون بهذه السفينة، (فأردت أن أعيبها) بقلع بعض ألواحها ليتخلّى عنها الملك الغاصب فيها، وتبقى لأصحابها (وكان وراءهم ملكٌ يأخذ كل سفينة) صالحة (غصباً).

(وأما الغلام) الذي قتلته، بلا ذنب ظاهرٍ (فكان أبواه مؤمنين فخشينا) إن بقي في الحياة (أن يرهقهما) أي يسبب لأبويه (طغياناً كبيراً) وقد كان الخضر (عليه السلام) علم بذلك، (فأردنا) بقتل الغلام (أن يبدلهما) أي يعوض للأبوين (ربّهما خيراً منه) أي من هذا الغلام (زكاةً) أي طهارةً (وأقرب رحماً) أي أرحــم بالأبوين، وكان هذا إخبار من الخضر (عليه السلام) بإرادة الله تعالى.

(وأمّا الجدار) الذي أقمته (فكان لغلامين يتيمين في المدينة) أي في المدينة التي استطعما أهلها فأبوا أن يضيّفوهما (وكان تحته كنزٌ لهما وكان أبوهما صالحاً) فدفن هذا الكنز للغلامين (فأراد ربك أن يبلغا) أي الغلامان (أشدهما) أي قوتهما بأن يكبرا ويبلغا، (ويستخرجا كنزهما) فلو سقط الجدار حرما من الكنز، لذهاب الأثر بسقوط الجدار (رحمةً من ربك) بهما (وما فعلته) أي الأمور الثلاثة (عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً).

ثم فارق الخضر موسى (عليهما السلام)، وذهب كلّ واحدٍ منهما في طريقه الخاص به.

* * *

لقد لقي موسى (عليه السلام) من بني إسرائيل كل عنت وإرهاق، طول حياته، وقد كانت حياة موسى (عليه السلام) حياة حافلةً بالمتاعب والغرائب، من قبل الولادة إلى حين الممات، وقد خلّف عليه الصلاة والسلام بعده أمّةً عجيبةً غريبةً، هم اليــهود، وهؤلاء وإن كذبوا في نسبتهــم إلى هذا النبي العظيم، فإن موسى منهم براء، إلا أنّهم ـ على كل حال محسوبون عليه ـ.

وأخيراً مات موسى (عليه السلام) في (التيه) ودفن هناك.. كما أن أخاه هارون (عليه السلام) مات في التيه أيضاً، ودفن فيه.

وفي قصّة هذا النبي العظيم أعظم عبرةٍ لمن أراد الاعتبار. وهذه القصّة، منذ زمان موسى إلى هذا اليوم، من أضخم القصص العالميّة، وفيها ألوان من الحركة والحياة، والمناقضات والأضداد.

وقد اختصرنا القصة ـ في هذا الكتاب ـ ليقرأها من لا يتمكّن من الرجوع إلى الكتب المفصّلة، ومع ذلك اضطررنا إلى تخصيص قصص أخرى عن موسى (عليه السلام)، وهي:

(موسى عليه السلام)، (الكليم عليه السلام وفرعون)، (موسى عليه السلام في البحر،) (بنو إسرائيل في التيه) و(الكليم عليه السلام وبنو إسرائيل).

ونسأل الله سبحانه أن يتقبّلها بقبول حسن، وينفعنا وسائر المؤمنين بها ويوفقنا لإتمام (القصص الحق) في كتب أخرى، وهو الموفق المستعان.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي