كيف نصنع مجتمعاً محصَّناً ضد الانحراف؟

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

شبكة النبأ

2020-07-20 02:52

يوجد مساران متناحران في الحياة، المعنى الأوسع لهما الخير والشر، الحق والباطل، الصالح والشرير، ويتفرع من هذين المسارين المتصارعين أذرع كبيرة وصغيرة هي بمثابة الجنود التي تحارب من أجل غلبة الخير أو الشر، وهذا يفرض علينا أن نهيّئ الظروف اللازمة لخلق بيئة تنتصر على الشر والانحراف، فما هي خطوات ذلك، وما هي البيئة وأنواعها؟؟

البيئة لغة كما يفسرها المختصون، هي المنزل والحال، وهي لفظة شائعة الاستخدام يرتبط مدلولها بنمط العلاقة بينها وبين مستخدمها فنقول:- البيئة الزراعية، والبيئة الصناعية، والبيئة الصحية، والبيئة الاجتماعية والبيئة الثقافية، والسياسية. ويعني ذلك طبيعة علاقة النشاطات البشرية المتعلقة بهذه المجالات.

البيئة في اللغة مشتقة من الفعل (بوأ) و (تبوأ) أي نزل وأقام. والتبوء: التمكن والاستقرار والبيئة: المنزل. والبيئة بمعناها اللغوي الواسع تعني الموضع الذي يرجع إليه الإنسان، فيتخذ فيه منزله ومعيشته، ولعل ارتباط البيئة بالمنزل أو الدار له دلالته الواضحة حيث تعني في أحد جوانبها تعلق قلب المخلوق بالدار وسكنه إليها، ومن ثم يجب أن تنال البيئة بمفهومها الشامل اهتمام الفرد كما ينال بيته ومنزله اهتمامه وحرصه.

يغلب عند سماع كلمة البيئة أن المقصود هي البيئة الطبيعية.

يرجع الفضل الأول للتعريف العلمي للبيئة وتحديد مفهوم البيئة العلمي، إلى العلماء العاملين في مجال العلوم الحيوية والطبيعية، فيرى البعض أن للبيئة مفهومان يكمل بعضهما البعض، أولهما «البيئة الحيوية» وهو كل ما يختص بحياة الإنسان نفسه من تكاثر ووراثة فحسب، بل تشمل علاقة الإنسان بالكائنات الحية، الحيوانية والنباتية، التي تعيش في صعيد واحد. أما ثانيهما وهي «البيئة الطبيعية أو الفيزيقية» وهذه تشمل موارد المياه وتربة الأرض والجو ونقاوته أو تلوثه وغير ذلك من الخصائص الطبيعية للوسط.

ويرى البعض الآخر أن البيئة تعني الوسط الذي يعيش فيه الكائن الحي أو غيره من مخلوقات الله وهي تشكل في لفظها مجموع الظروف والعوامل التي تساعد الكائن الحي على بقائه ودوام حياته. ويحاول اتجاه آخر التركيز على الإنسان باعتباره أحد مكونات البيئة الفاعلة، فيعرف البيئة بأنها كل مكونات الوسط الذي يتفاعل معه الإنسان مؤثراً ومتأثراً.

وهي الإطار الذي يعيش فيه الإنسان ويحصل منه على مقومات حياته، من غذاء وكساء ودواء ومأوى، ويمارس فيه علاقاته مع أقرانه من بني البشر. ويبدو أقرب للحقيقة العلمية القول إن البيئة هي مجموع العوامل الطبيعية والبيولوجية والعوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تتجاور في توازن، وتؤثر على الإنسان والكائنات الأخرى بطريق مباشر أو غير مباشر.

دور البيئة بتشكيل شخصية الإنسان

هذا التعريف يبصر بأن البيئة اصطلاح ذو مضمون مركب، فهناك البيئة الطبيعية بمكوناتها التي أودعها الله فيها، وتشمل الماء والهواء والتربة وأشعة الشمس، وما يعيش على تلك العناصر والمكونات من إنسان ونبات وحيوان. وهناك البيئة الاصطناعية وهي تشمل كل ما أوجده تدخل الإنسان وتعامله مع المكونات الطبيعية للبيئة، كالمدن والمصانع والعلاقات الإنسانية والاجتماعية التي تدير هذه المنشآت.

إذاً نحن أمام أنواع كثيرة للبيئة من حيث المعنى ومن حيث الظروف المادية، فهناك بيئة سياسية تعنى بكل يتعلق بالقرارات السياسية الداخلية والخارجية، وهنالك بيئة ثقافية لها تماس مباشر بطبيعة تثقيف الإنسان، وثمة أنواع أخرى من البيئة كالدينية والاجتماعية التي تعد من أهم الأنواع كونها تتعلق بحياة الناس مباشرة.

يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (الفقه: البيئة):

(البيئة الاجتماعية هي ممـا تشكل شخصية الإنسان، فإذا كانت هذه البيئة إيمانية ينشأ الطفل علـى الإيمان، وإذا كانت بيئة منحرفة ينشأ الطفل نشأة منحرفة).

ونظرا للأهمية الكبيرة التي تكتسبها البيئة الاجتماعية، وتتفرع منها البيئة الثقافية والدينية وغيرها، فهذا يلزم أرباب الأسر وقادة النخب والمجتمع بالتركيز على آليات وإجراءات صنع منظومة بيئية متكاملة قادرة على فرز الصالح من الطالح، لاسيما في إطار تعضيد البيئة السليمة المساهمة في تنشئة الإنسان بالطرق التي تضمن تربية صالحة ينتج عن تفكير إيجابي وسلوك إنساني يقوم على ركائز الجودة الأخلاقية التي تحصّن الناس من الزلال لاسيما في المراحل المبكرة من العمر.

المجتمع الذي يعاني من مشكلات أخلاقية، وتتصدع فيه القيم الأصيلة، هو يعاني أصلا من مشكلة بيئية في المجالات الثقافية والتربوية التي تحمي القيم، وتسهم في غرسها وتثبيتها في السلوك البشري، فتصبح هي المعيار الذي يضعه الإنسان محكما في جميع الخطوات الفعلية أو التمهيدية التي تحكم حركته ونشاطه في المجتمع.

لهذا هناك تركيز مباشر وقوي على أهمية حماية الأطفال والشباب من الانحراف الذي ينتج من بيئة منحرفة، فالإهمال الأخلاقي واللامبالاة الثقافية والدينية يسهمان بقوة في تدمير المجتمع، من خلال التقصير المتعمّد أو غير المقصود في عدم إيلاء البيئة الثقافية والدينية والتربوية ما تستحق من اهتمام، وهو ما ينعكس سلبا على الفحوى الأخلاقي للإنسان ويظهر في سلوكه القائم على تفضيل الذات.

المنظمات المختصة وتطوير البيئة وحمايتها

هذه المشكلة السلوكية الأخلاقية يمكن معالجتها في إطار حماية البيئة التربوية والثقافية والاجتماعية على وجه الخصوص، فمن خلال رصد السلوك الاجتماعي وتقويمه وإرشاده وتوجيهه الوجهات الصحيحة، يستطيع قادة المجتمع خلق منظومة بيئية مانعة للتردّي الأخلاقي والقيَمي، وضامنة للتفكير العادل والضامن لعدم المساس المتعمّد بحدود الآخرين، البيئة الاجتماعية السليمة هي صمام الأمان لصنع بنية اجتماعية راسخة متوازنة.

يقول الإمام الشيرازي: إن (البيئة تؤثر على الولد بالإضافة إلى تأثيرها فـي نفس الأم والعائلة وأخلاقها وآدابها وأعمالها والتزاماتها وغير ذلك).

ولا يعني ذلك تحجيم الإنسان بالبيئة الاجتماعية حصرا، لأننا سبق وأن ذكرنا بأن البيئة مفهوم واسع وشامل يتعدى التأطير أو الحصر في مجال محدد، فالبيئة تشمل حياة الإنسان برمتها، لهذا تكتسب هذه الأهمية الكبيرة، وتستدعي من النخب والمنظمات والحكومات والمؤسسات المتخصصة، اهتماما لا حدود له، فإن أردنا مجتمعا قويا متماسكا، ليس أمامنا سوى فهم الطبيعة الشاملة للبيئة، وقدرتها على صنع إنسان مكتمل مؤمن منتج وقوي وفاعل.

الإمام الشيرازي يؤكد المعنى الشامل للبيئة فيقول: إن (البيئـة المحيطة بأي كائن مـن إنسان أو حيوان أو نبات تشمل الظروف السلبية وتشمـل الآثار الطبيعية الصحراوية والبحرية والجوية والنباتية وكذلك الأوضاع الاجتماعية). البيئة الاقتصادية فيقول:

وهناك نوع آخر من البيئة له أهميته الكبيرة في صياغة بنية المجتمع، فإذا كانت البيئة الثقافية والدينية والأخلاقية لها دورها المشهود في صيانة الشخصية المجتمعية، فإن هناك نوع آخر لا يقل أهمية إن لم يكن الأهم من بين الجميع، ونقصد به، البيئة الاقتصادية والمشاكل التي تنعكس منها على الأطفال أولا وعموم أفراد المجتمع، لذا يستوجب التنبّه إلى معالجة البيئة الاقتصادية بما يمنع تأثيراتها على الأطفال وعموم المجتمع.

يؤكد الإمام الشيرازي على أن (البيئة الاقتصادية لها تأثيرها الكبير فـي البعد التربوي للأطفال، وقـد تؤدي إلى تخلّف عقلي وانحراف نفسي يصيب الأطفال، وهم لا ذنب لهم إلاّ أنهم ولدوا في أسرةٍ متهاوية ومنحرفة أخلاقياً وعقائديّاً).

ولا تقل البيئة الثقافية تأثيرا على الأطفال، بل حتى الجنين وهو في رحم أمه يمكن أن يكون عرضة لتأثيرات البيئة الثقافية، وهو ما تم تأكيده علميا، مما يتوجب أن تمنح الجهات المختصة هذا النوع البيئي الكثير من التركيز والاهتمام، لأننا مجتمع يعاني من نواقص بيئية عديدة ينبغي الالتفات إليها ومعالجتها بالطرق والأساليب المناسبة.

وقد أكد الإمام الشيرازي على أن (البيئة الثقافية تؤثر في تنشئة الطفل، وقد ذكر علماء النفس تأثير الثقافة على الجنين، فكيف بالوليد، ونقصـد بالبيئة الثقافية المعرفـة والعقائد والعلـم والقانون والأخلاق والعُرف والعادة).

الاهتمام بالبنية الاجتماعية لا ينحصر بنوع معين من البيئة دون غيره، فالبيئة تشمل أنواع مختلفة وقد تكون متباينة، لكن لا يصح التركيز على بعضها وإهمال الآخر، فلا فائدة من تحسين البيئة الثقافية بالتوازي مع إهمال الاقتصادية أو الاجتماعية، هذا الشرط الأساس لابد أن يؤخَذ بعين الاعتبار للجهات والمؤسسات التي تتصدى لتحسين البنية المجتمعية كاملةً.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي