الامام الشيرازي: رسالة الإسلام سلام الحضارات وليس صدامها
القسم الثاني
مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث
2020-06-07 07:54
بقلم: راجي أنور هيفا
حان الوقت لإلقاء بعض الأضواء على تاريخ هذه (الصدامات) بعد أن بينا بعض المفاهيم الهامة في محور بحثنا، كالمفهوم العام للحضارة والثقافة والاسلام، هذا المثلث الذي يمثل جوهر موضوعنا من خلال علاقة أضلاع هذا المثلث بعضها ببعض مع الأخذ بعين الاعتبار أن (الغرب) يشكل مع الحضارة والثقافة مثلثا آخر يتشابه مع المثلث الأول في بعض وجوهه ويختلف معه في وجوه وزوايا أخرى.
من الصعب جداً على أي باحث متخصص أن يحدد وبدقة متى بدأت مسألة الصراع بين الإسلام، بحضارته وثقافته، وبين الغرب بأيديولوجيته الكاملة ومثله الروحية التي يعتقد بها، وذلك بسبب تضارب الآراء بين الباحثين في هذا الشأن.
ولكن لو عدنا إلى الوراء، إلى عمق التاريخ الإسلامي حيث انبثقت خيوطه الأولى، فسوف نلاحظ أن الخطوات الأولى للصراع الفكري (الإسلامي-اللاإسلامي) قد انطلقت مع انطلاقة تلك الخيوط والإشعاعات الأولى التي بشر بها محمد (صلى الله عليه وآله).
فالصدامات المبكرة التي استعر لهيبها بفعل مواجهة الأيديولوجيا الإسلامية الجديدة، كانت صدامات عقائدية بالدرجة الأولى في وقت لم يكن فيه هناك (شرق) أو (غرب)، وإنما كان هناك دين جديد مقابل أديان سابقة أخرى سماوية وغير سماوية.
وبالتالي، نستطيع أن نلخص هذه المواجهات بقولنا: إن طبيعة ذلك الصراع المبكر بين الإسلام واللاإسلام كان صراعاً مؤسساً على مبدأ الوحدانية الإلهية مقابل التعددية الإلهية، فالإسلام يدعو إلى عبادة إله واحد أحدٍ لا شريك له في ملكه وحكمه، وهو منزه عن الأبوة والبنوة وعن مجانسة مخلوقاته، وهذا ما نقراه بوضوح في قوله تعالى في سورة الإخلاص: (قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد). إن هذا السورة القصيرة تلخص مفهوم التوحيد في الإسلام، وهو مفهوم يتعارض في جوهره مع الصورة المكونة عن الله سبحانه وتعالى عن بقية الأديان. ولذلك، كان من الطبيعي أن تتحول المنطقة التي ظهر فيها الإسلام إلى جوار بقية الأديان إلى منطقة توتر ساخنة على المستوى العقائدي. وقد قيل إن سبب نزول سورة الإخلاص هو أن اليهود سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقالوا: انسب لنا ربك فلبث ثلاثاً لا يجيبهم ثم نزلت قل هو الله إلى آخرها (41).
ويعزو المستشرق الإنكليزي (مونتغمري واط) أحد أسباب اندلاع المواجهة بين المنظومة الفكرية الإسلامية وما يقابلها في اليهودية إلى تعنت اليهود في موقفهم من الدين الجديد، حيث دعاهم الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى الحوار والتفاهم البناء، لكنهم قابلوا طلبه إلى لغة الحوار باللجوء إلى لغة العداوة والنار. وقد علق (واط) على طبيعة هذا النزاع المبدئي والمباشر من اليهود أنفسهم بقوله: (ليس من اللائق لليهود أن يقابلوا صداقة محمد (صلى الله عليه وآله) ووفاءه لهم بهذا الشكل من الجفاء، بعد أن أقام معهم روابط حسنة، ومن المناسب جداً أن نشير في هذا الصدد إلى أنه: لو أن اليهود بدلا عداوتهم وخصومتهم لمحمد (صلى الله عليه وآله) كانوا قد أقاموا معه روابط حسنة، واتصلوا به، لكان فيه صلاحهم وحصل لهم التوفيق، وكان هذا ممكناً لهم في هذا الموقع المناسب، ويستطيعون بالتالي جني ثماره من خلال:
1- المحافظة على استقلالهم الديني.
2- أن يكونوا جزءاً من الإمبراطورية الإسلامية.
فلو فعلوا ذلك لكان العالم غير ما عليه اليوم، ولكن الذي يؤسف له أن اليهود منذ الأيام الأولى لإقامة محمد (صلى الله عليه وآله) في المدينة، زرعوا بذور الفاجعة المؤلمة، وضيعوا الفرص الجميلة في استقرارهم واستقلاليتهم) (42).
وهذا يعني، أن المواجهة التي بدأت مع بزوغ فجر الإسلام بدأت تحتدم يوماً بعد يوم، إلى أن أخذت طابع التحالفات العسكرية ضد الرسالة السماوية الجديدة من قبل معسكر المشركين من عبدة الأوثان وحلفائهم من اليهود الذين ما برحوا يتربصون الدوائر بالنبي (صلى الله عليه وآله) وأتباعه المخلصين.
ومن الخطأ الفادح أن نعتقد، كما يعتقد البعض، أن المواجهات الأولى بين المسلمين من جهة والمشركين واليهود من جهة أخرى كانت مواجهات من أجل الوجاهة والاجتماعية والمناصب القيادية، بل إن هذه المواجهات لم تكن في حقيقتها إلا حروباً من أجل نفي أو إثبات أيدولوجيات جديدة متكاملة، إنها حروب العقائد الشاملة التي تتناول كل جوانب الحياة ومفرداتها.
وكان من نتيجة هذه المواجهة العقائدية -كما يراها الإمام الشيرازي- أن:
(شهد المجتمع المكي مكافحة المستثمرين من مخالفي الاستثمار لا كما يتصور من مكافحة الفقراء والمحرومين مع الأغنياء وأصحاب الثروات، بل المكافحة في المبادئ.
فأتباع رسول الله (صلى الله عليه وآله) الأوائل كافحوا أنواع الانحرافات من: فكرية، واعتقادية، واقتصادية، واجتماعية، بقيادة طالب العدالة النبي محمد (صلى الله عليه وآله)) (43).
وهكذا فالحرب، كما يقول الإمام الشيرازي، هي حرب (المكافحة في المبادئ)، وليست حرب الظفر العسكري أو الكسب المادي، كما كان الوضع بين القبائل قبل ميلاد الدين الجديد. ولعل خطبته المطولة في حجة الوداع كانت ترمي إلى إعادة تذكير المسلمين بالمبادئ التي حاربوا من أجلها في بداية الدعوة وحتى اجتماعهم المذكور في حجة الوداع حيث أشار وأكد (صلى الله عليه وآله) على بعض الأهداف الهامة التي قارعوا الآخرين في سبيلها، وها نحن نذكر شيئاً من هذه الأهداف والمبادئ التي تتم الصراع من أجلها على امتداد فترة تبليغ الرسالة الإسلامية من قبل الرسول المصطفى (صلى الله عليه وآله): أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإن ربا الجاهلية موضوع..، وإن دماء الجاهلية موضوعة.. وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية و..
أيها الناس، إن لنسائكم عليكم حقاُ، ولكم عليهن حقاً.. أيها الناس، إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لمؤمن مال أخيه إلا عن طيب نفس منه. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. فلا ترجعن كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
أيها الناس، إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب (إن أكرمكم عند الله اتقاكم) وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: فليبلغ الشاهد الغائب) (44).
هذه هي الخطوط العامة للأهداف التي نادى بها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) لتحل محل الكثير من الأعراف والتقاليد البالية التي كانت تحكم الحياة الجاهلية.
ولا نريد هنا بالطبع أن تحلل كل عبارة قالها (صلى الله عليه وآله) في هذه الخطبة الكريمة، ولكن لا بأس بالوقوف عند البعض منها لإثبات أن المواجهة الحضارية الإسلامية التي أرادها الدين الجديد إنما هي إرادة المواجهة القائمة على نشر السلام وطرح السلاح، إنما هي إرادة المواجهة الحضارية المؤسسة على حوار الكلمة ونقاش (الآخر) حول الطروحات الجديدة وأهدافها وغاياتها بعيداً عن أي تعصب أو أي انفعال جماعي يكون من نتيجته أن يدفع المجتمع الثمن الباهظ أولاً وأخيراً.
إن تأكيد سيد الرسالة (صلى الله عليه وآله) على صون الدماء والأموال والأعراض هي غاية كل إنسان يطمح إلى الأمن والاستقرار لأن المجتمع الذي يفتقد إلى الأمن سيتحول دون شك إلى مجتمع وحشي أشبه ما يكون بغابة يأكل القوي فيها الضعيف دون أدنى وازع من ضمير أو شفقة، إن تأكيد الرسول (صلى الله عليه وآله) على هذا الأمر يعني ببساطة أن المجتمع الجاهلي الذي كان يقتل أبناءه أطفالاً وكباراً، هو مجتمع كان مفتقراً إلى هذه الأسس الأمنية، والى ذلك الاستقرار الذي يمكن، في حال وجوده، أن كون نقطة الانطلاق الأولى لبناء حضارةٍ إنسانية تدعو إلى احترام كرامة الإنسان وصونها.
إذاً، فالحركة الإسلامية هي في ذاتها حركة (إنسانية-توحيدية) تقوم على صقل إنسانية الإنسان، ومن ثم توجيهها إلى عبارة إله واحد يأمر بالمعروف والخير وينهى عن الفحشاء والشرور وقد رأى الإمام السيد الشيرازي في هذه الانطلاقة الحضارية الجديدة في شبه الجزيرة العربية انطلاقة نوعية في طبيعتها، فقد (جاءت الحركة الإسلامية بشكل جديد، وجعلت من المجتمعات المتفككة مجتمعاً واحداً مشجعاً متعاوناً، وأوجدت خطاً سياسياً منيراً، وكانت هذه الحركة تحت قيادة الرسول الأعظم النبي محمد (صلى الله عليه وآله). ومَنْ أمعَن النظر في تاريخ النبي (صلى الله عليه وآله) وجد أن هذه الحركة الاجتماعية كانت ضرورة أرادها الله تعالى، وذلك بان يبعث نبياً صادقاً أميناً يوجد أمة واحدة ومجتمعاً كبيراً منسجماً بعد أن كان متفككاً.. ويحدث تحولاً نحو الخير والسعادة) (45).
إن هذه الانطلاقة النوعية، عند الإمام الشيرازي، ذات بعدين، بعد أفقي وآخر عمودي، أي أن الإسلام من خلال قِيَمِه ومبادئه استطاع أن يوحد القبائل المتناثرة والمتناحرة تحت جناح رحمته، واستطاع بنفس الوقت أن يوحد القلوب باتجاه هدف واحد وهو رفض العبودية لأي شيء كان إلا الله الواحد الذي تمثل العبودية له كمال الحرية ومنتهاها، وهكذا، فالتوحد كان على المستويين الهامين: المستوى الأول هو المستوى (الجيوبوليتيكي) أي الجغرافي والسياسي تحت قيادة رجل حكيم هو الرسول المصطفى (صلى الله عليه وآله)، أما المستوى الآخر فهو المستوى (الاجتماعي - الروحي) الذي قام بتوحيد الصفوف وتنظيم قِيَمها وربْطها بالمٌثُلِ العليا السامية المتمثلة بالقرآن الكريم وسنة النبي الكريم وآل بيته الأطهار (عليهم السلام).
كما أن هذه الصدمة الحضارية التي واجهها إنسان الجاهلية جعلته يعيد كامل حساباته مع ذاته ومع محيطه ومع القِيَمِ التي كان يتمثلها ويتغنى بها في جاهليته. فالمبادئ التي واجَهَ محمدٌ (صلى الله عليه وآله) بها أهل الجاهلية والمنحرفين عن تعاليم الديانات السماوية السابقة هي مبادئ سماوية إلهية شاملة لا يمكن نكرانها، ولذلك، فإن (كارل ماركس) نفسه، وهو المعروف بنظريته المادية التي تلغي الجانب الروحي في الإنسان، يتحدث في كتابه (الحياة) عن هذا المد الحضاري الإسلامي وانطلاقته الأولى في مهد ولادته وسط الصحراء العربية قائلاً: (إن محمداً زرع بين المشركين أبدية الروح، وليس من حقه أن يعد بين صفوف الرجال التاريخ العظام فقط بل جدير أن نعترف بنبوته، وأنه رسول السماء إلى الأرض) (46).
وبالتالي، فإن ولادة الإسلام وانتشاره يطرحان قضية نوعية خاصة، إذ لا يجوز، وفقاً لوجهة نظر المفكر الفرنسي (روجيه غارودي)، الاكتفاء بالإشارة إلى أن الجزيرة العربية بحاضرتيها مكة والمدينة، كانت نقطة التقاء الطرق التجارية الكبرى والقوافل المتوجهة من الشرق إلى الغرب، ومن أوروبا والشرق الأدنى إلى الهند والصين، ومن البحر المتوسط إلى المحيط الهندي، لأن الاكتفاء بهذه الإشارة قد يُفهَم منه انَّه بفضل الموقع الجغرافي للجزيرة العربية على مفترق طرق الحضارات فقد تم تمازج الأديان والثقافات ونتاج الحضارات الأخرى التي لم يكن الإسلام إلا محصلة لها، بل إنه خلافاً لذلك، فقد انطلق هذا الدين روحاً وعملاً ليخلق، كما يقول غارودي: (ثقافة نوعية أغنت وجددت الثقافات الأخرى وذلك عبر قارات ثلاث من الهند إلى إسبانيا، ومن آسيا الوسطى إلى قلب أفريقيا) (47).
وهذا يؤكد أن الإسلام رسالة حضارة وسلام، وليس دين تخلف ورجعية واستعباد. فالإرادة الفكرية التي ينتهجها الإسلام هي إرادة تغيير القيم لأن القيم هي التي توجه الإنسان في إقامة الحضارة، ومن دونها تظل الطبيعة مسيطرة عليه، ويبقى مسيراً بحتمياتها (48). وهذا يعني أن تحقق الحضارة هو تجسيد للقيم عموماً، وإخضاع الدنيا منها للعليا على وجه الخصوص. وبالتالي نستطيع أن نقول أن الإسلام بإرادته الحضارية هو دعوة لاستمرار الحياة فينا، تلك الحياة التي يجب أن تعاش على أعلى مستوى ممكن من مستويات القيم الراقية التي ينشدها الجانب الإنساني فينا.
وهذا ما حاول الإسلام، من خلال المخلصين من رجاله، عمله وتطبيقه على بقية الحضارات والثقافات التي احتك بها في مشارق الأرض ومغاربها من اجل تجديدها وإغنائها وإعطائها طابعاً نوعياً جديداً على حد تعبير روجيه غارودي.
والنقطة الهامة التي لا نستطيع أن نتجاوزها هنا هي أن الاحتكاك الفكري أو الثقافي مع بقية الحضارات أو الثقافات أو حتى بقية الأديان السابقة عليه لا يعني أن الإسلام يهدف من هذا الاحتكاك أن يمحو ويزيل كل ماله علاقة بتلك الحضارة أو الثقافة، أو إلغاء الهوية الفكرية للشرائع أو الأنبياء السابقين (عليهم السلام).
بالطبع، الأمر ليس كذلك. فعندما يقول الرسول (صلى الله عليه وآله) مخاطباً قومه ومعلماً إياهم أنه جاء وبعث ليتمم مكارم الأخلاق، فإن هذا يعني أنه (صلى الله عليه وآله) لم يأت ليزيل أو ينقص كل قيمة فكرية أو خصلة أخلاقية كانت قبله. بل نراه (صلى الله عليه وآله) وقد اشترك في حلف الفضول بعد أن تجاوز العشرين من عمره الشريف قبل أن يرسله الله سبحانه وتعالى رحمة للعالمين، لقد انضم محمد (صلى الله عليه وآله) إلى ذلك الحلف الذي أسس من اجل مناصرة المظلوم والوقوف في وجه العدوان من أي مصدر كان.
وهنا نسأل: ما هو موقف الرسول (صلى الله عليه وآله) بعد أن أرسله الله رحمة للعالمين؟ هل ندم على ما كان منه بشأن الانضمام إليه، أم كان له (صلى الله عليه وآله) موقف آخر؟.
إن القيمة الحضارية للشريعة الإسلامية التي تسعى لتوظيف القيم العليا ووضعها في خدمة الجانب الإنساني للإنسان هي التي دفعت الرسول (صلى الله عليه وآله) للقول: (لقد حضرت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما يسرني به حمر النعم، ولو دعيت إلى مثله لأجبت) (49). ومن هنا نستطيع أن نلاحظ وبوضوح أن سيد الرسالة الإسلامية (صلى الله عليه وآله) كان يسعى من خلال رسالته السماوية إلى تبني واعتماد القيم العليا أياً كان مصدرها، فهو (صلى الله عليه وآله) مع حلف الفضول، ولو كان حلف الفضول من أعمال مرحلة ما قبل الرسالة الإسلامية، وهو (صلى الله عليه وآله) أيضاً مع إغاثة الملهوف ورفع الظلم عن المظلوم وأداء الأمانات والوفاء بالعهود طالما أن هذه المبادئ تحقق الهوية الإنسانية لكل فرد في المجتمع الإسلامي المنشود.
وإذا كان بالإمكان أن نتجاوز العديد من النقاط المتعلقة باحتكاك الإسلام مع بقية الأديان والحضارات السالفة، إلا أننا لا نستطيع أبداً أن نتجاوز ما قام به الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) من محاولة فتح قنوات (فكرية - روحية) جديدة مع جيرانه من ملوك وأكاسرة وقياصرة على مختلف مذاهبهم ومشاربهم الفكرية والاعتقادية: حيث أرسل (صلى الله عليه وآله) رسائل عديدة إلى كل من:
هرقل عظيم الروم، وقد ابتدأها الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) بقوله: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، عبده ورسوله إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين) (50). ثم أورد الرسول (صلى الله عليه وآله) آية كريمة ضمن رسالته إلى هرقل، وهي قوله تعالى: (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بانا مسلمون) (آل عمران/63) ولو أردنا أن نحلل هذه السطور القليلة من الرسالة المحمدية الموجهة إلى أحد القادة الكبار الممثلين لطائفة كبيرة من أهل الكتاب، فسوف نلاحظ أن هذه الرسالة الشريفة تدعو إلى الحوار والسلام، لا إلى الحروب والصراع، حيث ابتدأ رسالته الشريفة بقوله الكريم (سلام على من اتبع الهدى)، ثم استشهد بآية قرآنية شريفة تدعو إلى الوفاق والحوار من خلال قوله تعالى: (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) إذاً، فالذي يريده الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) من (الآخر) هو الحوار والوفاق وليس التنافر والشقاق، فهو (صلى الله عليه وآله) يريد الحوار البناء والكلمة الطيبة القادرة على إقامة جسر التآخي الإنساني بين الحضارتين الروحيتين الكبيرتين.
ومن خلال قراءة بقية رسائل الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) إلى بقية القادة والملوك الذين شهدوا انبلاج فجر الرسالة الإسلامية، نرى أن روح الدعوة إلى الحوار هي الصفة الغالبة في كل رسائله، وكانت عبارته (صلى الله عليه وآله): (سلام على من اتبع الهدى).
هي فاتحة رسائله إلى كسرى ملك الفرس، والنجاشي الثاني عظيم الحبشة، والمقوقس عظيم القبط في مصر، والحارث بن أبي شمر الغساني صاحب دمشق، وهوذة بن علي ملك اليمامة، والى جعفر وعبد النبي ملكي عمان.
ويستطيع القارئ لتلك الرسائل النبوية أن يلحظ أن مضمون تلك الرسائل واحد وإن اختلفت ألفاظها، وأنها كلها تحكي عن الدعوة إلى الإسلام، والصلح والوفاق، ومستقبل الحق والأمن والسلام في الدنيا والآخرة.
وقد علق سماحة السيد محمد الشيرازي على هذه الرسائل وطبيعتها من خلال كلامه عن السياسة الخارجية لدولة المدينة المنورة وذلك بقوله: (أما السياسة الخارجية والروابط العالمية: فترتبط بالدول الأخرى من خلال إقامة علاقات مشتركة يعود نفعها على الجميع سواء كانت تلك الدول صديقة أم عدوة. والهدف من ذلك اتحاد البشرية وإزالة المشكلات الناجمة من تباين الأهداف، وتبادل المنافع المشتركة) (51).
إذاً، هناك هدف من هذه الاحتكاكات الحضارية الأولى التي بادر الإسلام إلى الأخذ بذمامها، وقد علل الإمام الشيرازي، كما رأينا، هذه الخطوة التي قام بها الرسول المصطفى (صلى الله عليه وآله) بأنها خطوة حضارية تهدف إلى (اتحاد البشرية) وإزالة العداوات التي تنتج غالباً عن تباين الأهداف وتضارب المصالح الفكرية أو المادية والتي يكون الإنسان فيها هو الضحية دائماً.
ولو تعمقنا في تحليلنا للاحتكاكات الحضارية الأولى بين الإسلام وغيره من الحضارات أو حتى الأديان السابقة عليه. نلاحظ أن الرسول (صلى الله عليه وآله) كان دائماً يدعو إلى حوار الأديان، والى إعادة لم أشتات الروح الإنسانية الرازحة تحت نير الحياة المادية التي استوت على عرش الروح بدل أن تكون تلك الحياة المادية في خدمة الروح وتهذيبها، لا أن تكون الروح عبداً لها تلهث في سبيل إرضائها وَبناء مملكتها على أنقاض ما تبقى من هيكل الروح الممزقة على مسرح الوجود.
ولعل المثال الآخر الذي يمكن أن نسوقه هنا أيضاً للدلالة على انفتاح الإسلام على (الآخر) ودعوته للحوار المثمر والبناء، هو ما حدث في اليوم الذي دعا فيه الرسول (صلى الله عليه وآله) أساقفة وادي نجران للمباهلة من اجل ما يرددون من أقوال حول طبيعة السيد المسيح (عليه السلام). وقد جاء أنهم لما دعوا إلى المباهلة، قالوا: سننظر في أمرنا، فلما اختلوا بأنفسهم قالوا لسيدهم وصاحب أمرهم (العاقب): ما ترى؟ قال: والله لقد عرفتم نبوته، ولقد جاءكم بالفصل في أمر صاحبكم، والله ما بأهل قوم نبياً إلا هلكوا، فإن أبيتم إلا ألف دينكم فوادعوا الرجل -أي محمد (صلى الله عليه وآله)- وانصرفوا. فآتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد غدا محتضناً الحسين آخذاً بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعلي خلفها وهو يقول: إذا أنا دعوت فآمنوا. فقال أسقفهم: (يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا) فأذعنوا لرسول الله وبذلوا له الجزية (52).
إن كل ذي لب سيدرك من خلال هذه الحادثة المشهودة طبيعة الرسالة الإسلامية في كيفية تخاطبها مع الآخرين. فالدعوة إلى الحوار عند الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) هي دعوة إلى الانفتاح على (الآخر) وعلى أفكاره وثقافته، إنها دعوة لتحرير الفكر من سجن (الأنا) وإطلاقه في سماء القيم الإنسانية الراقية التي تصلح لكل زمان ولكل مكان. فالإسلام، من خلال دعوته إلى الحوار المفتوح مع الآخرين من أهل الديانات وأبناء الحضارات المختلفة، يختزن في كيانه الفكري كل معاني الامتداد في الزمن لأن الفكر بحد ذاته لم يلد مع الإنسان بشكل مصقول وجاهز، بل هو عصارة تجارب كاملة مع الحياة، وهو أيضاً وليد خبرات سابقة نعيشها ونتوارثها جيلاً بعد جيل. وبالتالي، فإننا عندما نقف مع قول الله سبحانه وتعالى: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) (البقرة/111)، فإن هذا يعني أن الإسلام، كرسالة إنسانية حضارية، لم ينتشر بواسطة إلغاء (الآخر) أو سحقه، بل دعا الإسلام، من خلال انتشاره إلى لغة الفكر والتخلص من سلبيات ما توارثناه في الماضي من اجل اعتناق ما يمثل لنا ما هو أفضل وأنفع وما يتمثل لنا صلاح الحياة، ولا نعتقد أن الحياة تصلح إلا إذا كانت متوجة بتاج الأمن والسلام. فالحياة ذاتها تفرز مبدأ التعددية في الوجود، ولكن ليس من الضروري أو الحتمي أن تنتهي هذه التعددية إلى العنف والى الحوار المسلح بين أقطابها.
ولذلك، فإن الإسلام منذ البداية توجه إلى العقول قبل القلوب، ووجه نداءه إلى كل الناس كي يدخلوا في السلم كافة حيث تسود لغة التلاقح الفكري وَالتزاوج الثقافي بين كل الحضارات والأديان، فالغاية، إذا، من هذا التقارب الذي ينشده الإسلام هو التعايش والسلام، ولذلك نرى أن الإمام الشيرازي قد شد في كتاباته كثيراً على قضية الحوار مع الآخرين واحترام ثقافاتهم وأيديولوجياتهم العامة.
وقد أكد سماحته أيضاً على أن الإسلام منذ فجر ولادته قد وضع الحوار والسلام على قائمة الأولويات التي يجب على كل إنسان يسعى إليها قولاً وعملاً.
وها إن سماحته يؤكد على صدق ذلك قائلاً: (لا إسلام بدون السلام)، (الأصل هو السلام، والحرب استثناء)، (ليس الإسلام إسلام الحروب الجائرة وإنما الإسلام السلام) (53).
وبتحليل أولي لهذه الكلمات القصيرة البليغة نلاحظ أن الإمام الشيرازي كان مؤمناً تمام الإيمان بارتباط مفهوم الإسلام بمبدأ السلام من خلال دعوته الدؤوبة إلى الحوار والى التعارف بين الأمم والشعوب.
ومختصر القول هنا، هو أن الإسلام بدأ دين كلمة وحوار في الوقت الذي قابله القطب الآخر بالسيف وبالحوار المسلح. فاليهود والمشركون وعبدة الأوثان بشكل عام رأوا في هذا الدين الجديد أيديولوجيا متطورة تحبط، بل وتنسف كامل معتقداتهم من جذورها، ولذلك فقد لجئوا إلى لغة السيوف بدلاً من حوار الحروف.
وإذا حاولنا أن نتجاوز حدود وحواجز الزمان قليلاً كي نلقي الضوء بشكل أوضح على طبيعة الصراع الذي شهده وعاشه الإسلام بكامل أبعاده السياسية والدينية، فسنتوقف بلاشك عند محطة تاريخية هامة. ألا وهي مرحلة الحروب الصليبية.
لقد بدأت أحداث الحركة الصليبية الفعلية سنة (1095م) بالخطبة التي ألقاها البابا (أربان الثاني) (UrbanII) في جموع الجماهير المحتشدة في منطقة كليرمون جنوب فرنسا (54)، وكانت هذه الخطبة خاتمة اجتماع ديني عقده البابا حيث جمع الأساقفة للتداول بشأن أحوال الكنيسة الكاثوليكية المتردية، ومن ثم أطلق البابا دعوته لشن حملة عسكرية تحت راية الصليب ضد المسلمين في فلسطين أرض السيد المسيح (عليه السلام).
والشيء الأخطر في هذه القضية ليس النداء الذي أطلقه البابا من اجل دحر المسلمين في الأراضي المقدسة في الشرق، بل بالهوية الدينية لذلك البابا الذي يتخفى بلباس المسيحية وبمذهب الكاثوليكية حتى يتسنى له أن يدير قلوب الآلاف من المسيحيين في الغرب كيف يشاء. فحقيقة ذلك البابا، وقلما يعرف أحدٌ ما هذه الحقيقة، هو أنه يهودي الدين والعقيدة، حيث أن البابا أربان الثاني نتاج آل (بيرليوني) العريقة في يهوديتها (55) وفي كيدها للعالمين المسيحي والإسلامي على حد سواء.
وعلى كل حال فقد كانت تلك الحملات واحدة من أهم المؤثرات الكبرى والعوامل الفعالة التي حركت العالم الأوروبي الغربي وقادته إلى حالة الاحتكاك المباشر والصدام المسلح مع المسلمين في عقر دارهم في المشرق العربي. وقد بقيت الحروب الصليبية جذابة في انطلاقتها بالنسبة لأبناء الغرب الأوروبي حيث أنها تحكَّمت في أفكارهم ودغدغت أحلامهم ومشاعرهم لفترة طويلة من تاريخ الإنسان الأوروبي، فقد شارك مئات الألوف منهم بأنفسهم في حملة أو في أكثر من حملة من الحملات الصليبية، كما أن الآلاف منهم أيضاً قد ساهموا بأموالهم في تمويل حملة أو أكثر من هذه الحملات الصليبية، أما الذين لم يستطيعوا أن يشاركوا بالنفس أو بالمال، فقد كانت تشغل بالهم مجريات وأحداث تلك الحروب إلى حد كبير جداً على حد قول (جوناثان سميث) في كتابه (What Were the Crusades?) (56).
وقد اعتبر الإمام الشيرازي أن الحروب الصليبية مظهر من مظاهر العداء الغربي للإسلام، ولكن بنفس الوقت، فقد اعتبر سماحته أن هذا المظهر العدائي للعقيدة الإسلامية كان قد تم تحت غطاء ديني وستار عقائدي بهدف النيل من الإسلام أكثر من هدف تحرير القدس وبقية الأراضي المقدسة. وقد دعَّم الإمام الشيرازي هذه الفكرة من خلال استشهاده بكلمة موجزة للمفكر الغربي (غارديز) حيث يقول: (إن الحروب الصليبية لم تكن لإنقاذ القدس، إنها كانت لتدمير الإسلام) (57).
وهذا يعني أن الصدام الحضاري الذي شهده المسلمون في الشرق قد اتخذ طابعاً دينياً عنيفاً، فالشرق العربي وبعض المناطق والبلدان المحيطة به تمثل حضارة الإسلام الذي كان يدعو في عهد النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله) إلى حوار الحضارات من خلال حوار الكلمات والأفكار، وكان الرسول ص من خلال الاحتكاك الحضاري القائم على التفاهم والاحترام المتبادل وذلك عملاً بقول الله سبحانه وتعالى الذي يخاطب كل الناس بلا استثناء، وليس المسلمين فحسب: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) (الحجرات: 13). فقوله تعالى: يا أيها الناس دليل واضح على أن المخاطب هو الإنسان عموماً وليس المسلم خصوصاً. فالدعوة إلى الحوار موجه إسلامياً إلى الجميع دون أدنى استثناء. فالخطاب الإلهي في كتاب المسلمين، القرآن الكريم، يفتح نوافذ للشمس كي تدخل إلى مملكة العقل كي تزيده إشراقاً وإبداعاً وتآلفاً مع العقول الأخرى التي فطرت على حب الاجتماع والتعارف. ولهذا السبب فقد بين الله سبحانه وتعالى الحكمة من ندائه في هذه الآية التي ابتدأها بـ(يا أيها الناس) لقد بين سبحانه وتعالى الهدف من ذلك من خلال قوله (وجلعناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا)، إذاً، فالهدف هنا هو التعارف والتآلف، وبالتالي، فإن المقصود بهذا الكلام في أيامنا المعاصرة هو الاحتكاك الحضاري، ولكي يؤكد الله جل وعلا أن المقصود هنا هو الاحتكاك الحضاري، وأن القيمة في هذا الاحتكاك هي الكرامة الإنسانية المشبعة بتقوى الله، فقل أعلن سبحانه أن مقياس هذا الاحتكاك هو الاقتراب من الحضارة السماوية، أي الاقتراب والدنو من الأخلاق السامية التي نادى بها الأنبياء والمرسلون. قلم يقل سبحانه وتعالى: إن أكرمكم عند الله أقواكم عسكرياً، أو أدهاكم سياسياً، أو أعلاك اقتصادياً بل قال: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وفي هذا تأكيد عميق على ضرورة ربط كافة نشاطات الإنسان الحياتية سياسياً واقتصادياً وعلمياً وعقائدياً بتقوى الله، أي تشييد صرح الحياة على صخرة التقوى التي هي أساس الحضارة الحقيقية.
ومن الطبيعي جداً أن لا تغيب هذه الحقائق عن ذهن الدارسين للفكر الإسلامي الأصيل سواء كان الدارسون من المسلمين أم من غير المسلمين. ومن الطبيعي أيضاً أن يوضح الإمام السيد محمد الشيرازي هذه النقاط في فلسفتنا وعقيدتنا الإسلامية، ولكن بنفس الوقت كان سماحته يركز على قضية صراع وحوار الحضارات من أكثر من زاوية، فلم يكتف بالنظرة الإسلامية تجاه قضية احتكاك الحضارات من وجهة النظر الإسلامية، بل تعداها إلى الطرف الآخر من معادلة الاحتكاك.
لقد بين سماحته أن (الآخر) لم يكن ينطلق في تعامله مع الإسلام انطلاقة الدعوة إلى الحوار، بل كان ينطلق من منطلق تفعيل الحوار السلبي مع المسلمين من خلال استغلال مظاهر الضعف والفتور في الدويلات الإسلامية للإنقضاض عليها عسكرياً ومن ثم لمحو هويتها فكرياً وعقائدياً. وكما ذكرناه سابقاًن فإن سماحته تحدث عن الحروب الصليبية، وعن الخطوات الأولى للصراع الصليبي مع المسلمين في الشرق آخذاً بعين الاعتبار الأسباب والظروف والنتائج المترتبة على تلك الحملات. ويشير سماحته إلى ذلك قائلاً: (ولما أصيبت الدولة العباسية بالضعف والتمزق في القرن الخامس الهجري جراء سطوتها وجور سلاطينها الذين عاشوا الفساد في الأرض وسفكوا دماء العباد، ظهرت آنذاك دويلات هزيلة إضافية إلى ضعف الدولة الفاطمية في مصر. كل ذلك جعل أوروبا تنتهز الفرصة، فجهزت الحملات الصليبية العارمة التي اتخذت لنفسها غطاء دينياً بهدف الاستيلاء على البيت المقدس، فأقاموا مملكة القديس عام 493هـ -1099م، واستبيحت الأعراض والممتلكات ولم يراعوا حرمة وقدسية المسجد الأقصى، فحملوا الصخرة المباركة إلى مذبح نصراني ووضعوا التماثيل فوقها، وشوهوا معالم المسجد الأقصى المبارك، فبنوا على محرابه جداراً لإخفاء معالمه واتخذوا من المسجد سكناً لجنودهم، وذبحوا الكثير من المسلمين رجالاً ونساءً وأطفالاً) (58).
وفي رأي الكثير من المفكرين والباحثين أن جريجوري السابع (1073-1085م) هو الشخص الذي بلور فكرة الحرب المقدسة في شكلها النهائي، وقد قام بنقلة نوعية في موقف المسيحية من الحرب، إذ انه قام باستخدام عبارة (جيش المسيح) للمرة الأولى بالمعنى العملي والعسكري وليس بالمعنى الديني والروحي الذي كان يستخدمه القديس بولس. ويذكر الدكتور عبده قاسم في كتابه (ماهية الحروب الصليبية) أن البابا جريجوري السابع عمل على ربط الحرب ضد المسلمين بفكرة الحرب المقدسة، وبالتالي كان هدفه استخدام القوة العسكرية لحماية (شعب المسيح) من الأعداء باعتبار هذا سبباً عادلاً وكافياً لشن الحرب على المسلمين، وهذا ما قاد البابوية إلى الادعاء أن الحملة الصليبية الأولى تقوم على سبب عادل هو مساعدة البيزنطيين ضد المسلمين في الشرق (59).
وهنا يقفز سؤال هام على بساط بحثنا.
ما هي النتائج التي حصدها الغرب من خلال احتكاكه الدامي بالشرق الإسلامي عن طريق حملاته الصليبية؟.
إن النتائج التي آلت إليها الحروب الصليبية هي نتائج يمكن تشبيهها بطبق من الطعام العفن وقد رشت عليه التوابل والبهارات.
فالانتصارات التي حققها الصليبيون في الشرق كانت انتصارات يهودية أكثر مما هي مسيحية وهذا ما أدركه البعض ولكن بعد فوات الأوان، ولئن أوقدت هذه الانتصارات الجزئية حماس الكاثوليك الغربيين في أوروبا، فإن هذه الانتصارات نفسها قد جرت الويلات على المسيحيين الأرثوذكس في الشرق مثلما جربتها على المسلمين تماماً.
فعلى المستوى الاجتماعين فقد أدت هذه الحملات المتعددة إلى توتر العلاقات بين الملمين والمسيحيين في الشرق من جهة أولى، والى توتر كاثوليكي-أرثوذكسي من جهة أخرى. وربما التوتر الأول يبدو طبيعياً من حيث المنطق والنتيجة، ولكن التوتر الثاني (المسيحي-المسيحي) هو الذي يبدو غير طبيعي أبداً، لقد أدت تلك الحملات إلى ازدياد الشرخ واتساعه بين أبناء الدين الواحد حيث أذاق (جنود الرب) الكاثوليكيون الغربيون إخوانهم الأرثوذكس ألواناً مخيفة من العذاب، فقد عاملوهم معاملة قاسية إذا استولوا على كنائسهم وحولوها إلى كنائس لاتينية، كما منعوا الأقباط من زيادة بيت المقدس على اعتبار أنهم هراطقة (60).
أما ما يتعلق بالنتائج الأخرى التي ترتبت على المسلمين من الناحية الاقتصادية والعلمية والاجتماعية والثقافية العامة، فهذا ما سنتوقف عنده في الفصول اللاحقة من هذا البحث لندرك أن الحروب الصليبية لم ولن تنتهي أبداً، ربما تتغير الأسماء والصفات وحتى الأشكال، ولكن النتيجة واحدة.
إن النتيجة واحدة لأن الحقيقة واحدة، وهي أن الطرف الآخر في الاحتكاك الحضاري ليس بالضرورة أن يقبلك طرفاً في الحوار معه. ربما نحن نريد للاحتكاك أن يكون حواراً، ولكن (الآخر) -وبغض النظر عن هوية ذلك الآخر- قد يريد للاحتكاك أن يكون شرارة ويريد للشرارة أن تصير صراعاً وحروباً لا تنتهي أبداً.
وإذا كنا نحن نؤمن بمبدأ (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر) (الغاشية:22). فإن الطرف الآخر لا يقبل هذه النظرية. وإنما يتبنى عدة وجهات نظر مخالفة لمبدأ الحرية في العقيدة والتفكير والسلوك، وربما كانت أكثر تلك الوجهات شهرة هي: (من لم يكن معنا فهو ضدنا)(61). إنها نظريتهم بالأمس، واليوم، وربما في الغد أيضاً.