الامام الشيرازي عن: الحضارة بين رسالة الإسلام وثقافة الغرب
القسم الأول
مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث
2020-05-30 07:27
بقلم: راجي أنور هيفا
تعتبر العلاقة بين الإسلام والغرب من أهم النقاط التي يتم تناولها بالبحث والتحليل في العصر الراهن لما في ذلك من أهمية سوسيولوجية وأيديولوجية تتجلى من خلالها حالة الصراع والتفاعل بين رؤيتين ومنهجين في فهم الحياة والتعامل مع مفرداتها الغنية في كلِّ مجالٍ من مجالات الحياة.
ولا شك أنَّ هاتين الرؤيتين أو هذين المنهجين في الحياة لهما جانب انفعالي وجانب تفاعلي. فالجانب الانفعالي هو الجانب الذي يمثل حالة الصراع بين وجه أو وجوه عديدة بين هذين المنهجين، في حين أن الجانب التفاعلي يمثّل حالة الحوار والتكامل بينهما.
ومن المسلَّم به تماماً أنَّ الغرب، الذي هو أحد محاور بحثنا هذا، قد أخذ عن الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية الشيء الكثير عندما كان العالم الغربي يغطّ في سباتٍ عميق من الجهل والتخلف وفقدان الهوية الثقافية.
وما أن استيقظ الغرب من سباته الطويل مع بدايات عصر النهضة، حتى انطلق ذلك المارد من قمقمه يغزو العالم، بمكتشفاته ومخترعاته التي طالت الماء والسماء فضلاً عن الأرض التي يقف عليها.
وهكذا كانت هناك عملية أخذ ورد بين مختلف التيارات أو الحضارات التي تشهدها البشرية على ساحة وجودها، ولكن عملية الأخذ والرد هذه تبقى ناقصة في تناولها والخوض فيها ما لم نقف عندها ولو لفترة قصيرة مع مفهوم الحضارة.
فما هي الحضارة؟
إنه سؤال يبدو للفترة الأولى سؤالاً ساذجاً أو بسيطاً، ولكنه في حقيقة الأمر أعقد مما نتصور وذلك لأن مفهوم الحضارة متشابك مع مفاهيم أخرى عديدة لا تقل عنه أهمية أبداً.
وعلى كل حال فإن الحضارة في مفهومها العام (هي ثمرة كل جهد يقوم به الإنسان لتحسين ظروف حياته، سواء أكان المجهود المبذول للوصول إلى تلك الثمرة مقصوداً أم غير مقصودة، وسواءً أكانت الثمرة مادية أم معنوية)(1).
إنّ هذا التعريف الأولي والمبدئي للحضارة يبيّن لنا بوضوح العلاقة الوطيدة بين الأسس الثلاث التي تعمل على إبداع الحضارة، وهي: الزمان، والفكر، والإنسان.
وهذه الأسس الثلاث برأي الدكتور حسين مؤنس، هي المنطلق الجوهري والأساسي لقيام أية حضارة كانت(2). فالقيمة الحقيقية لأي إبداعٍ حضاري لا تتجلى إلا اذا أخضعها الانسان لتجربته مرّة إثر أخرى وعلى مجالٍ زمنيّ طويل. فالزمن هو أحد العناصر الهامة في اكتشاف القيمة الحضارية لأية ثمرة إبداعية جديدة، وعندما نتحدث عن الثمار الإبداعية فإننا بطبيعة الحال نتحدث عن دور الفكر أو العقل في إنتاج هذه الإبداعات الحضارية. ومما لا شك فيه أن التفكير المنظّم والمدروس عبارة عن عملية حضارية بحدّ ذاتها حيث أنها احتاجت إلى زمن طويل لتصبح بعد ذلك عنصراً فعّالاً في توجيه أعمال الإنسان وصنع الحضارات وتطويرها باستمرار.
وقد يضيف البعض بعض النقاط الهامة على التعريف الأوّلي والعام للحضارة بحيث يؤكد على الجانب الأخلاقي فيها لدرجة أنه لا يعترف بالتقدم والتطور البشري ما لم يكن هذا التقدم أو التقدم مقترناً بالاستعداد الشخصي للعمل الإيجابي من جهة، وبالمبادئ والتعاليم الأخلاقية السامية من جهة أخرى. وهذا ما يؤكد عليه الفيلسوف الألماني ألبرت اشفيتسر في تعريفه لحضارة ضمن كتابه (فلسفة الحضارة) حيث يقول:
(إن الحضارة بكل بساطة، معناها بذل المجهود، بوصفنا كائنات إنسانية، من أجل تكميل النوع الإنساني وتحقيق التقدم، من أي نوع كان، في أحوال الإنسانية وأحوال العالم الواقعي. وهذا الموقف العقلي يتضمّن استعداداً مزدوجاً: فيجب أولاً أن نكون متأهبين للعمل إيجابياً في العالم والحياة، ويجب ثانياً أن نكون أخلاقيين)(3).
فالحضارة، تبعاً لذلك تنشأ حينما يشحذ الناس هممهم لبلوغ التقدم ويكرّسن جهودهم لدفع الحياة الإنسانية إلى الأمام على نهج أخلاقي واضح وصريح؟
ولو أردنا أن نستعرض آراء كل الفلاسفة المتعلقة بتعريف الحضارة لرأينا أن هناك تقارباً كبيراً في تعريفاتهم لها، ولكن يمكن أن تكون هناك بعض الاختلافات الفرعية أو الإضافات الفكرية الأخرى التي يتبناها البعض، وقد رأينا كيف أن الفيلسوف الأخلاقي ألبرت اشفيتسر قد ربط مفهوم الحضارة بالأخلاق بحيث لا يمكن أن يعتبر أن هناك خطوات أخلاقية إنسانية ما لم تكن تلك الخطوات مترافقة تماماً مع التقدم الأخلاقي والتطور الإيجابي المنعكس على الوجود الإنساني العام. وبالمقابل فإن هناك بعض الفلاسفة الآخرين أمثال دوركهايم و اشبنجلر رأوا أن الحضارة عملية أصيلة خاصة من الإبداع الثقافي، وهي، بشكل خاص عند اشبنجلر: (المصير الحتمي للثقافة (4). وعلى ما يبدو فإن المفكر والباحث الأمريكي المعاصر صاموئيل هنتنمتون صاحب كتاب (صدام الحضارات) قد تأثر بآراء أولئك الفلاسفة والمفكرين الذين يرون أن الحضارة بأبعادها المختلفة هي صنيعة الثقافة العامة. ولذلك نراه يؤكد في أكثر من مكان في كتابه المذكور، والذي ترجم إلى معظم اللغات العالمية الحية، على أن (الحضارة هي أعلى تجمّع ثقافي من البشر واعرض مستوى من الهوية الثقافية يمكن أن يميّز الإنسان عن الأنواع الأخرى. وهي تعرف بكل من العناصر الموضوعية العامة مثل اللغة والتاريخ والدين والعادات والمؤسسات والتحقق الذاتي للناس)(5).
وهكذا، يصبح من المسلّم به عموماً أن استمرار التقدم والتطور في المستقبل يعتمد كليّاً على استمرار الجهد الإنساني، على افتراض أن الدماغ البشري لا يعتريه الانحطاط ولا يعرف الارتداد إلى الوراء بشكل سلبي. ولكن هذه الفكرة، من الناحية النظرية، تعني أن التقدم يسير دائماً في الاتجاه المرغوب فيه، ولكي نحكم أننا نتحرك في الاتجاه الصحيح والمرغوب فيه، علينا أن نعرف وبشكل مستمر ما الغاية من هذا التحرك، لأن الحصيلة المنشودة دوماً للتطور الإنساني هي، بالنسبة إلى معظم الناس، حالة اجتماعية جديدة يتمتع فيها سكان الكوكب جميعاً بحياة سعيدة تماماً. ويربط الباحث ج.ب.بيري بين فكرة التقدم ومفهوم الحضارة ويرى بيري في كتابه (فكرة التقدم) أن الحضارة نفسها يمكن أن تنحرف عن مسارها الصحيح والمطلوب منها أن تسير عليه، وبالتالي ليس من السهل علينا أن نثبت أن القصد الذي يتقدم نحوه الإنسان هو القصد المرغوب فيه (6)، ولذلك (قد تكون الحركة تقدماً، أو قد تكون في الاتجاه غير المرغوب فيه، أي ليست تقدماً. وهذه مسالة حقيقية، وهي مسألة غير قابلة للحل الآن شأنها في ذلك شأن مسألة الخلود الشخصي. إنها مشكلة وثيقة الصلة بأسرار الحياة) (7).
إن هذه الفكرة التي يتبناها (بيري) عن احتمال انحراف الحضارة عن مسارها الصحيح هي فكرة منطقية تماماً من الناحية العلمية، فالعلم بلاشك دليل الحضارة ولكن هل كل اكتشاف علمي في البلدان المتحضرة، أو على الأقل التي تدعي الحضارة، توجه هذا الكشف العلمي لخدمة المجتمع الإنساني وتخفيف المعاناة عنه؟!.
بالطبع لا، وما حدث في هيروشيما وناثمازاكي في نهاية الحرب العالمية الثانية خير دليل على ذلك، فاكتشاف الذرة ودراستها علمياً وتطبيقياً لم يوجه في تلك الفترة لخدمة وراحة الإنسان، بل تتم ذلك التخلص من الإنسان وإذلاله من خلال حرب تعد فاتحة لحروب كونية أخرى قد تجري في أي وقت لاحق وسيكون الإنسان فيها هو وقود المحرقة أولا وأخيرا.
ومن هنا تبرز أهمية الثقافة في استيعاب متطلبات الحضارة. فالثقافة ابتكار بشري، وهي صورة مبتكرة عن الحياة ونهج إنساني إبداعي للتعامل والتفاعل مع الوجود وعندما تكون الثقافة صورة لتفاعل الإنسان مع الوجود، فمن الطبيعي أن تكون هذه الصورة التفاعلية صلة الوصل بين الإنسان والحياة، وهذا ما عبر عنه الباحث الانثروبولوجي (لزي هوايت) بقوله عن علاقة الثقافة بالحضارات ودراسة المجتمعات:
(وامتد بين الإنسان والطبيعة حجاب الثقافة، ولم يعد الإنسان يرى شيئاً إلا عبر هذا الحجاب ومن ثم أصبح النفاذ إلى كل شيء هو جوهر الكلمات: المعاني والقيم الكامنة وراء الأحاسيس) (8). وقد عني الباحثون في العلوم الاجتماعية -الإنسانية بدراسة الظواهر الثقافية وعلاقتها بالسلوك الإنساني وبالحياة الجمعية العامة. وقد استخدموا لذلك مفهومين أساسيين في هذا المجال من الدراسة، وهما: الثقافة والمجتمع. وغنيٌّ عن القول أن العلاقة وثيقة جداً بين المفهومين، بل ومن الصعب تماماً أن يتم التفريق بينهما ولو من الناحية النظرية. فالثقافة هي ابنة المجتمع وهي شجرته التي تنمو في أحضان تربته الغنية، والمجتمع بدوره لا يحمل أي معنى ما لم يكن مزوداً وباستمرار بالنبض الثقافي الذي يغذي عروقه وشرايينه. فالثقافة طريق متميز لحياة الجماعة، ونمط متكامل لحياة أفرادها، وهي التي تمد المجتمع بالأدوات اللازمة لاطراد الحياة فيه، ولا فرق في ذلك بين الثقافات البدائية، والثقافات الحديثة (9).
ربما يقودنا هذا الكلام إلى تقديم تعريف مبسط للثقافة وذلك للوقوف على طبيعتها وعمق ارتباطها بالمجتمع وأفراده، ولعل من أبسط تعريفات الثقافة وأكثرها وضوحاً تعريف عالم الاجتماع الحديث روبرت بيرستد الذي قدم تعريفا عاماً للثقافة في كتابه (the Soual Osdes) الذي ظهر في بداية الستينات من القرن العشرين، حيث يقول في تعريفه لها:
(إن الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه، أو نقوم بعمله. أو نمتلكه كأعضاء في مجتمع) (10)، ولا يبدو هذا التعريف بعيداً في مرماه عن تعريف (إدوارد تايلور) للثقافة، إذ يقول في تعريفه الأكثر تفصيلاً: إنها (كل مركب يشتمل على المعرفة والمعتقدات. والفنون والأخلاق، والقانون والعرف، وغير ذلك من الإمكانيات أو العادات التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في مجتمع) (11). وهذا يعني أن الثقافة تمثل المرآة التي تعكس صوره كل ما يحيط بها، فهي الانعكاس الصادق -حسب ما جاء في تعريفها- للعلوم وللمعتقدات الفلسفية والروحية المتنوعة، بالإضافة إلى أنها انعكاس فكري لشتى أنواع الفنون وكافة المبادئ الاخلاقية، والقوانين والأعراف الاجتماعية.
ولكن الفكرة الهامة التي لا نستطيع أن نغفل عنها أو أن نتجاوزها هي فكرة احتكار الثقافة كما يحاول البعض في العصر الحديث أن يروج لها. فالثقافة -كما بينا سابقاً- على صلة وطيدة مع الحضارة حتى أن الثقافة تكاد تكون سلم الحضارة وعنوانها. وبما أنهما توأمان يولدان سوية من رحم المجتمع، فهذا يعني أنهما إرث عام لكل بني البشر وذلك لأن المجتمعات تعتمد على بعضها البعض في إكمال بعضها البعض. فالثقافة اليونانية لم تكن في يوم من الأيام حكراً على أبناء اسبرطة أو أبناء أثينا، ونتاج الحضارة الفارسية ليس وقفاً على الإيرانيين فقط. بل هو ملك عام للإنسانية جمعاء، ولا تعتقد أن هناك من الألمان من يقف ويقول مخاطباً العالم: ابتعدوا عن فكر (غوتة) فهو ملك لنا وحدنا نحن الألمان، ومن هنا يبرز الدور التفاعلي والوظيفة الفكرية للنشاطات والحركات الثقافية بين أبناء المجتمعات المختلفة والمتباعدة جغرافياً. فالإطار العام للثقافة الواعية يقود إلى رؤية إنسانية أكثر شمولية تكشف عن الجوهر الواحد للإنسان وعن روح التفاعلات الاجتماعية المتبادلة، وهذا ما عبر عنه الفيلسوف الهندي (رادها كريشنان) بقوله: (إذا ما تعالينا عن مظاهر الاختلاف بين المعتقدات والثقافات، فسنجدها جميعاً واحدة، لأن الإنسانية في جوهرها واحدة، وإن تنوعت وتعددت ثقافاتها) (12). وهذا يعني أن الثقافة ليست بضاعة مادية للامة من الأمم، وإنما ثقافة كل أمة ملك البشرية كلها، لأنها خلاصة تفكير البشرية جمعاء. فثقافة أي أمة -كما يقول عنها الأديب المصري (توفيق الحكيم)- ليست سوى (عسل)، استخلص من زهرات مختلف الشعوب على مر الأجيال (13). كما وأن كل ظاهرة من ظواهر الثقافة الإنسانية، من الطقوس واللغة إلى اللباس والتنظيم الاجتماعي، موجهة في نهاية الأمر نحو إعادة تنسيق الجهاز الإنساني والتعبير عن الشخصية الإنسانية (14). وكنتيجة لذلك، فإن الحضارة الإنسانية يزداد سموها بقدر عمق واتساق ثقافتها. وبقدر طاقة تلك الثقافة على إعادة تنسيق وتنظيم التشكيلات الإنسانية والتعبير عن حاجات ومتطلبات الكينونة الإنسانية. فكل ثقافة. مهما بدت عالية، فإن علوها يبقى في حيز التنظيرات الطوباوية ما لم تكن قادرة على التعبير الحقيقي لما يلزم الإنسان في تعامله مع محيطه وبيئته ومجتمعه بصورته الكلية الشاملة، ولئن استعرضنا شيئاً من المفاهيم العامة عن الحضارة والثقافة من وجهة بعض المنظرين والمفكرين الغربيين، فإن هذا لا يعني أن هناك رجالاً في مجتمعنا الإسلامي لم يتحدثوا عن هذه المفاهيم أو يتناولوها بالتدقيق والتمحيص من خلال كتبهم ومؤلفاتهم، والإمام الراحل السيد محمد الحسيني خير مثال على ذلك.
فالإمام الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي، يعتبر نادرة العالم كله، وليس العالم الإسلامي فحسب، في عالم الكتابة والتأليف، فقد تجاوزت مؤلفاته الألف ومئتين كتاباً وموسوعة، ولذلك فليس من المستغرب أن يتطرق سماحته إلى كل محطة من محطات الحياة، والى كل قضية من القضايا الدينية والدنيوية.
وبناء على ذلكن فإن سماحته ينطلق في معالجته لمفهوم الثقافات ووحدة القيم والأسس الحضارية انطلاقاً من فهم طبيعة المجتمعات والأسس التي تقوم عليها، والأهداف التي تتحرك باتجاهها. ومفهومات سماحته عن المجتمعات ودراسته العميقة لها تنطبق في أساسها من المفهومات الإسلامية الحنيفة ومن ثم من اجتهادات فردية تنبثق في معالجتها للأمور من تلك المفاهيم الإسلامية السماوية ومن فكر أهل البيت (عليهم السلام) وسيرتهم المباركة والتي تعتبر الترجمة العملية والأمينة لما جاء به الرسول الأمين (صلى الله عليه وآله) إلى الناس كافة.
فعندما ينطق سماحته في دراسة المفاهيم الحضارية ويفترق بين مفهوم الحضارة ومفهوم المدينة، ويعمل على تضيف المجتمعات إلى:
1- المجتمع الجامد.
2- المجتمع المتحرك نحو النقص والانحراف.
3-المجتمع المتحرك نحو الكمال بأقدام ثابتة.
4- المجتمع المتحرك نحو الكمال بدون أسس ثابتة (15).
إن هذه التصنيفات الموضوعية عند سماحته وتحليلها بطريقة واقعية بعيدة عن الانفعالات الجوفاء، تجعل منه عبقرياً فذاً في فهمه ودقة تحليله للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي حكمت العالم قديماً، ولازالت تحكمه حتى وقتنا الراهن، ولا نغالي إذا قلنا إن سماحته كان متميزاً بقوة بصيرة فكرية تجعله في أحيان كثيرة يسبق الأحداث في حدوثها المستقبلي من خلال قراءته للواقع المعاش وحركة ذلك الواقع الاجتماعي ببعديه الأفقي المكاني والعمودي الزماني. وقد علق الدكتور إياد موسى محمود، أستاذ علم الاجتماع في جامعة سيسكس البريطانية، على تقسيم الإمام الشيرازي للمجتمعات بالنحو الذي ذكرناه، قائلاً:
(فإذا أخذنا بالاعتبار هذا التقسيم الأصيل للمجتمعات، تتبين لنا أن الحضارة الحقيقة، لدى الإمام الشيرازي، هي نتاج المجتمع المتحرك على أسس سليمة وثابتة) (16).
وتأتي سلامة، وثبات الأسس في المجتمع الحضاري من خلال القيمة المعرفية والثقافية التي ينهجها المجتمع. وهنا نلاحظ كيف أن الإمام الشيرازي، من خلال نظريته الثقافية، يرى أن الثقافة التي تلعب الدور الحاسم في تكوين المجتمعات وبناء الحضارات تتميز بخاصتين أساسيتين وهما التكامل والتعقد، حيث يقول عن الخاصية الأولى.
(وهي في داخل الاجتماع، حالها حال ما بالقوة في داخل ما بالفعل، فإن الله تعالى خلق أشياء الكون بعضها بالفعل وبعضها بالقوة. والثقافة في داخل الاجتماع هكذا تسير من القوة إلى الفعل... وهكذا كلما تقدم الاجتماع أخذت الثقافة في التكامل، فالعقل الذي هو حجة باطنة لله سبحانه مودع في الإنسان بحذف الزائد، ويأخذ باللباب، وينمى ذلك اللباب بقدر الحاجة الفردية والاجتماعية، وبذلك يتكامل الإنسان في نفس الوقت) (17).
إذاً، فالثقافة هي عامل أساسي في تكامل المجتمع وفي تكامل الفرد الذي هو اللبنة الأولى في المنظومة الاجتماعية، وبالتالي فغياب الثقافة الهادفة يقود إلى فقدان التكامل على المستويين التجمعي والفردي، وهذا ما أكد عليه الفيلسوف الألماني (ألبرت اشفيسر) في كتابه القيم فلسفة الحضارة حيث عزى الفشل أو العجز النفسي المجتمعات الغربية إلى غياب النظرية الثقافية المتكاملة التي تقدم تفسيراً مرضياً للوجوديين العام والخاص، والدافع لبناء المجتمعات، والسعي لتقديم التضحيات باستمرار في سبيل بعض الغايات والإنجازات (18).
أما ما يتعلق بالخاصية الثانية التي تتميز بها الثقافة، فيرى سماحته أن التعقد في المسيرة الثقافية للمجتمع ينتج عن حاجات الإنسان الجسدية والنفسية الكثيرة، و(كلما وجد الإنسان إمكانية تحصيلها أخذ في اكتسابها، وبذلك تتشابك الروابط اكثر فاكثر، وتتعقد الحضارة) (19). وهذا يعني أن السيرورة الحضارية مرتبطة بقوةٍ بحاجات الإنسان المختلفة والمنعكسة في المرآة الثقافية لهذا المجتمع أو ذاك، وتؤكد الدراسات الفلسفية الحديثة هذه الحقيقة وترى أيضاً أن للإنسان نفسه الدور الأهم والحاسم في دفع عجلة الحضارة للأمام باعتبار أن التقدم الحضاري مرهون أولاً وأخيراً بإرادة حرة من الإنسان الجاد في عملية البناء الحضاري. لن الحضارة أمر إنساني، وليست قدراً علينا أن ننتظر وقوعه (20).
وإذا كان الإنسان هو القطب في عملية البناء الحضاري المعززة بالزخم الثقافي الذي يحدد سرعة واتجاه السيرورة الحضارية، في أي مجتمع كان، فهذا يعني أن الإنسان بحاجة إلى ثقافة نقية تعمل على صقل إنسانية الإنسان، وعلى إعطائه قيمة عليا في وجوده وحركته وتفاعلاته الروحية التي تبدأ في داخله مع ذاته وتنهي مع خالقه في نهاية المطاف.
ومن هنا تبدأ أهمية العقيدة الروحية -الدينية في علمية بلورة الإنسان وتوجيه إبرة بوصلته الفكرية نحو الاتجاه الصحيح. وقد بينا سابقاً أن الدين أحد أركان بناء الحضارة، حسب ما جاء في تعريف الحضارة، ولذلك، فالعقيدة الدينية تمثل جزءً لا يتجزأ من الكيان الحضاري العام والشامل. بل نرى أن الفيلسوف (هنري برغسون) يولي الدين أهمية عظيمة في أبحاثه ودراساته الفلسفية ويؤكد على أنه قد (وجدت وتوجد جماعات إنسانية من غير علوم وفنون وفلسفات، ولكنه لم توجد قط جماعة بغير ديانة) (21). فالغريزة الدينية مشتركة بين كل الأجناس البشرية حتى أشدها همجية وأقربها إلى الحياة الحيوانية. وإن الاهتمام بالمعنى الإلهي وبما فوق الطبيعة هو إحدى النزعات العالمية الخالدة للإنسانية (22). وقد أكدت الدراسات الإنتروبولوجية الحديثة أن كل المجتمعات البدائية قبل التاريخ، وفي العصور الحجرية الأولى، كان الدين يلعب الدور الأهم في كل مفصل من مفاصل الحياة اليومية عندهم. وقد أكد أحد المفكرين الغربيين، وهو من رواد البحث في علم (الأناسة) أو (Anthropology) أن الإنسان لم يكن موجوداً قط دون عقيدة دينية ناظمة لحياته بأدق تفاصيلها، بل إن الدين أيضاً قد وجد مع وجود الإنسان ذاته. وقد أضاف هذا الباحث المتخصص، كلود ليفي شتراوس، في كتابه (مقالات في الأناسة) أن: (جميع البشر، بلا استثناء، يملكون لغة وتقنيات وفناً ومعارف وضعية، ومعتقدات دينية، وتنظيماً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً) (23) وهذا يعني أن الدين نزعة إنسانية عند كل الشعوب والحضارات.
وعندما يتجول المرء منا في أروقة المتاحف وتحت أقبيتها، وعندما ندرس عن الحضارات التي سادت ثم بادت وعن فلسفتها في فهم الحياة، نرى أن الدين هو القاسم المشترك بين تلك الحضارات سواء كانت تلك الحضارات وضيعة أم رفيعة، شرقية أم غربية، فالنتيجة واحدة.
ففي بلاد الرافدين، حيث نشأت حضارات عظيمة مع فجر التاريخ القديم، كان هناك إيمان عميق بوجود قوة خفية مسيطرة على العالم، وكان الإنسان خاضعاً لمجموعة من التعاليم الدينية الصارمة، والتي كانت تترجم من خلال علاقاته اليومية وطقوسه المقدسة المقامة لإرضاء تلك القوى الغيبية،. ويرى (صموئيل هنري هوك) في كتابه (ديانة بابل وآشور) انه من الصعب تماماً البحث في تاريخ وتعيين عناصر ديانة البابليين في بلاد ما بين النهرين (24). وقد بينت الباحثة الألمانية (إلزه زايبرت) في كتابها (رمز الراعي في بلاد الرافدين ونشوء فكرة السلطة والملكية) أن الآلهة قد كانت موجودة بالفعل في أذهان وأفعال كل إنسان من أبناء تلك الحضارات سواء أكان الإنسان فرداً عادياً من الرعية أم فرداً استثنائياً من السلطة الحاكمة، بل حتى أن الشيء اللافت للنظر -كما تقول إلزه بيت- هو النصوص المقارنة التي تشبه الملك أو الإله بالنور أو النور الوحشي، أي أنها تجعله على رأس قطيع الماشية (25). وهذا يعني انه هو المدبر لكل شيء.
ولا نعتقد أن هناك حاجة إضافية للإسهاب في قضية إيمان الشعوب البدائية بوجود قوى عليا تجازي وتعاقب، تأمر وتنهى، تريد ولا تريد، ولها إرادة خفية في إدارة مصير الأفراد والشعوب.
لا حاجة لنا للإسهاب والإطالة، لأن علم الانتربولوجيا قد كشف اللثام عن هذه الحقيقة، بل وأثبت أيضاً أن هناك العديد من الشعوب والمجتمعات البائدة قد آمنت بفكرة وحدانية الله وقوته وعلمه اللامحدودين.
وقد انعكست هذه الاكتشافات الانتروبولوجية إيجاباً على دراسة علم الآثار والتاريخ والآداب القديمة المرتبطة بشكل وثيق بالميثيولوجيا (الأساطير)، فمن خلال دراسات الباحث (هانزبري) عن العديد من القبائل الإفريقية البدائية في المناطق المدارية، وبالاستناد إلى تقارير أصيلة لباحثين يرجعون إلى مطلع القرن السادس عشر وما بعده حتى القرن العشرين، توصل (هانزبري) إلى أن هناك وحدة دينية تلعب دوراً في إبراز وحدة إفريقيا الحضارية، ويستشهد هانزبري في بحثه بمقولة للدكتور (دابر) (1668م) عن إحدى الممالك الإفريقية التي كانت تسكن ساحل غانا: (أنهم كانوا شعباً دمث الأخلاق يعيشون معاً في سلام وتسودهم عدالة وقوانين صالحة. وعرفوا حق المعرفة أن هناك إلهاً فطر السماوات والأرض وهو حاكمها) (26). ولم تقتصر فكرة وحدانية الله على هذه القبائل الإفريقية الصغيرة التي عاشت في غياهب أفريقيا المدارية، بل حتى الفراعنة أنفسهم، أهل أعظم الحضارات على وجه الأرض، قد آمنوا بفكرة الوحدانية المطلقة لله، وآمنوا أيضاً أن الله الواحد عليم قدير لا يحيط به عقل، خالق السموات والأرض والعالم الأسفل (الآخرة)، خالق السماوات والبحر، والرجال والنساء، والحيوان والطير، والسمك والزواحف، والشجر والزرع، والكائنات غير الجسدية الذين كانوا رسله ينفذون مشيئته (27). وهذا يعني أن تلك الحضارة التي نشأت وترعرعت في ظلال أهراماتها الخالدة كانت تولي الدين أهمية عظيمة في معتقداتها الفكرية العامة والروحية الخاصة شأنها في ذلك شأن مملكة أوغاريت التي تمتد في عمق الزمان إلى أكثر من (3500) عام مضت، حيث دلت الألواح الفخارية التي وجدت في أنقاض تلك المملكة على الساحل السوري على عمق الإيمان الديني في قلوب شعبها، ذلك الشعب الذي أهدى للبشرية أول أبجدية في العالم. وقد أثار استغراب الباحثين الفرنسيين كثرة الألواح الفخارية التي كانت تتحدث عن الطقوس الدينية (28) وعن طبيعة ديانة الأوغاريتيين في ذلك الحين.
لقد تعمدنا الوقوف على أهمية الدين عند هذه الحضارات الأولى البائدة بغية التأكيد على أن الدين ليس حالة طارئة في حياة الإنسان، بل هو فطرة إنسانية متأصلة الجذور في أعماقه النفسية، حيث أدرك علماء النفس المعاصرين أهمية الدين ودوره في توجيه وتهذيب القيم الإنسانية النبيلة، فأنشأوا فرعاً خاصاً للدراسات النفسية -الدينية، و قد أطلقوا على هذا الفرع الحديث من العلوم النفسية العصرية اسم (علم النفس الديني)، هذا العلم الذي يؤكد أن الدين هو فطرة إنسانية تتفاعل مع الإنسان منذ لحظة إدراكه لذاته وحتى وفاته. سواء كان ذلك الإنسان بدائياً متوحشاً أم مدنياً متحضراً. إن هذا جزءاً يسيراً ممّا أراد قوله الباحث البريطاني (سيرل برت) عن أصالة الفطرة الدينية عند الإنسان بشكل عام، وقد استهل (برت) كتابه علم النفس الديني بالتأكيد على وحده الفطرة الدينية عند جميع الشعوب قديما وحديثاً (29). وأكد أيضاً على أن هذه النزعة الروحية أو الفطرة الدينية ترافق الإنسان منذ صغره على شكل تفاعلات بدائية وسرعان ما تترعرع معه في كبره حتى تتحول إلى دين واضح المعالم، والتصورات، أي تتحول تلك المقدمات البسيطة إلى عبادات راقية عند الكبير المتحضر (30).
ورب سائل يسأل لماذا كل هذا التأكيد على الدين؟ ألا يتعارض الدين مع العلم؟ وبأي طرف علينا أن نمسك عن أبناء القرن الحادي والعشرين، بالعلم أم بالدين؟.
إن الإجابة على هذه الأسئلة كلها قد كتبتها يد إسلامية أمينة على شريعة السماء، إنها يد الإمام السيد الحسيني الشيرازي الذي أجاب على هذه الأسئلة الثلاث بسطور قليلة في حجمها، بليغة في معانيها، وذلك بقوله: (الدين الشيء الوحيد الذي يحافظ على الفضيلة الروحية، فلا غنى عن العلم من الدين، ولا غنى من الدين عن العلم، وإن هذا المهوى الذي حدث بين الموضوعين من منسوجات الجهل، فلا الدين يهزأ بالعلم، ولا العلم ينفر من الدين.. الذي يدعو إلى العلم.. والعلم يدعو إلى الدين.. وليس علم يناقض الدين -إلا جهلاً- ولا دين يناقض العلم -إلا خيالاً) (31).
إذاً، فالدين ليس حركة رجعية في تاريخ الإنسانية، بل هو حركة داعية لجمع الفضائل والقيم السامية النبيلة، وإذا كان الدين في يوم ما أداة طيعة في يد بعض الأنظمة الجائرة فإن هذا لا يعني أن الدين ظاهرة سلبية في جوهره، وإنما يعني هذا أن الرجال الذين باعوا أنفسهم للسلطات الظلاميِّة الجائرة هم السلبيون وليس الدين ذاته. فالطبيب الذي يتعمد أن يزاول مهنته الشريعة بطريقة غير إنسانية وغير شريفة لا يعني انه قد حول علم الطبابة إلى علم غير شريف، وهذا يعني أن فساد الطبيب لا يعني فساد الطب.
ومن هنا، فإن الإمام السيد الشيرازي يؤكد على التمثل الجيد واللائق للتعاليم الدينية الإسلامية، ويولي سماحته القرآن الكريم المكانة الأولى في منهجه الفكري والثقافي، وهو إذ يفعل ذلك فإنما يقوم به لأنه يرى في القرآن الكريم: (الكتاب الأول للمسلمين، ولاشك في أنه هو المفتاح الأول للحركة العالمية التي سببت إخراج البشر من الظلمات إلى النور) (32). وقد فسر سماحة الإمام السيد كلامه هذا بان القرآن الكريم، الذي هو منهج السماء لأهل الأرض، لعب الدور الأكبر في بعث العديد من الأمم من رقادها، وبين سماحته كيف أن الغرب قد أخذ بالنهوض من سباته الطويل في كهوف الظلام عندما بدأ في تطبيق شيء من القرآن كالنظافة والانتخاب والعمل وما أشبه ذلك (33) من متطلبات الحضارة الإنسانية الراقية.
ويرى سماحة الإمام أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يتعامل مع الإنسان من منطلق الفطرة التي استودعها الله سبحانه وتعالى في الإنسان (34)، وبالتالي فإن هذه الفطرة الإنسانية ستنصر على أعدائها في نهاية المطاف، وستحسم نتائج المعركة قريباً لصالح هذه الفطرة السليمة، وهنا لنا الحق في أن نتساءل قائلين: هل من الحكمة أن نشك في إمكانية انتصار الفطرة بعد أن أكده الله عز وجل في محكم تنزيله، بقوله: (فطرت الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون) (الروم:30.).
وبالطبع، ليس من الحكمة في شيء أن نشك بذلك الانتصار الذي سيتحقق من خلال عمق إيماننا بنقطتين أساسيتين، وهما:
النقطة الأولى وتتجلى في إثبات وجود هذه الفطرة عند الإنسان على المستويين الفردي والجمعي كما بيناه على ضوء علم الانتروبولوجيا وعلم النفس الديني.
أما النقطة الثانية، فنعتمد في إيماننا بها على كتاب الله سبحانه وتعالى إذ انه أخبرنا أن هذه الفطرة موجودة دائماً مع الإنسان، وأضاف على ذلك أن التبديل لن يطال هذه الفطرة لأنها سنة إلهية في خلقه وأن هذه السنة لن تتبدل أو تتقهقر أبداً.
ومن هذه النقطة تحديداً، أراد لنا الإمام الشيرازي أن يتفهم العالم حقيقة الدين الإسلامي الذي جاء به خير البرية من أجل كرامة ورفعة الإنسان أينما كان بغض النظر عن حدود بلاده الجغرافية أو أصوله القومية أو العرقية. فالإسلام دين الإنسان، مثلما كان دين كل الأنبياء والرسل المصلحين. والدين الإسلامي أيضاً هو الشريعة الحكيمة التي ستوقظ الفطرة والضمير النائمين في وجدان الإنسان الغربي الغارق في تيار المادية الخانقة حتى أذنيه، ولكن تلك الصحوة أو اليقظة عند الإنسان الغربي ستكون مرهونة بمدى تحركنا نحن المسلمين في هذا الحقل (35)، وذلك عن طريق تطبيق المنهجية الواقعية التي نادى بها محمد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام).
فالإسلام الذي هو دين المسلمين، والذي ابتدأ مع محمد -كما جاء تعريفه في قاموس Long mam Dictionary of Contemporary English (36). هو الدين الذي يرى فيه الإمام الشيرازي خلاص البشرية من آلامها ونكباتها بعد إيقاظهم من غفلتهم الروحية.
ونحن إذ نتحدث الآن عن الإسلام، فإننا نتحدث عنه كمفهوم عام من خلال كتاب هذا الدين السماوي الخالد. فالقرآن الكريم هو بوابة وعالم الشريعة الاسلامية، ولا يمكن لأي إنسان سواء كان مثقفاً أم غير مثقف أن يدعي معرفته للإسلام ما لم يقرأ ويتدبر آيات وسور القرآن الكريم.
ولا أريد أن أقدم الآن تعريفاً موجزاً بالقرآن عن طريق شخصية إسلامية، بل أريد هنا أن أقدم وصفاً عاماً للقرآن الكريم كما جاء هذا الوصف على لسان جماعة من الأدباء والمفكرين وأساتذة الجامعات في الغرب وذلك ضمن كتاب واحد اجتمعوا على تأليفه وتقديمه لعشاق المعرفة والثقافة أينما كانوا وحيثما وجدوا.
وقد عرفوا القرآن الذي هو جوهر الإسلام، بقولهم:
القرآن مكتوب بالعربية، ومكون من مائة وأربعة عشر سورة، ذات نثر وإيقاع بهيين، يعتقد أن ترتيبها قام به محمد، ويعتمد الترتيب على طول السورة الأطوال في البداية أو وفقاً لأية نظرية أخرى. إنها تنتقل من الأشياء الداخلية (المعتقدات) إلى الأشياء الخارجية. مادة القرآن مزيج من التاريخ المتوارث، والوعود للمؤمنين ووعظ أخلاقي وديني وسياسي. تتضمن السور أوامر للهدى، والحض على الأخلاق والاستقامة وتقديم الصدقات.
بالرغم من أن الهداية والوثنية كانتا متواجدتين بين الناس إلا أن محمداً دعا إلى الوحدانية (لا إله إلا الله محمداً رسول الله). يعترف الدين بثمانية وعشرين نبياً سبقوه من ضمنهم: إبراهيم، الاسكندر الكبير، وعيسى إلا أن محمداً أمد أنه آخرهم. يؤمن الدين أيضاً بوجود الملائكة، ببشر محمد بيوم آخر وهو يوم الحساب حيث يتساوى المؤمنون أمام الله، فيدخلون في بعث جسدي وحياة خالدة مليئة بالنعم مع العذراوات الأبديات (الحسنات الحور العين) في جنة الخلد. أما الكافرون فيستعذبون (برياح السموم وماء كالمهل) في جهنم الموقدة.
مفهوم محمد لدينه كتنظيم روحي وسياسي قد أعطى التضامن الاجتماعي للقبائل في شبه الجزيرة العربية. كانت هذه القبائل حتى دعوته في حالة تشتت وتفكك. قادهم الدين الجديد للقيام بتوسع ثقافي وسياسي يبهر الأنفاس، ومن خلاله أنتجت الشعوب المختلفة التي اعتنقت الإسلام واحدة من الحضارات العظيمة في العالم (37).
إن هذا الوصف الموجز للقرآن الكريم، يعطينا فكرة عامة عن طبيعة الشريعة الإسلامية ودورها الخلاق في بناء الحضارة الإنسانية، ولو تمعنا قليلاً في العبارة الأخيرة السابقة (ومن خلاله أنتجت الشعوب المختلفة التي اعتنقت الإسلام واحدة من الحضارات العظيمة في العالم)، فسوف نلاحظ أن الإسلام في جوهره وفي حقيقة أهدافه هو دين الحضارة والثقافة، وهو دين يدعو إلى التكامل بين الحضارتين المادية والروحية وذلك من أجل بناء مجتمع الإيمان والحرية والرفاه والسلام الذي دعا إلى إحيائه سماحة الإمام الشيرازي في كتابه (الصياغة الجديدة).
وعندما نقول إن الإسلام دين الحضارة والثقافة، فإننا ندرك حقيقة ما نقول لأن الذي لا يقرأ القرآن الكريم ويتدبر آياته وسوره، ويرصد حركة الرسول الحياتية من خلال بسيرته العطرة وسيرة أهل البيت عموماً (عليهم السلام)، سيسارع بلا أدنى ريبة إلى ربط الثقافة والمفاهيم الحضارية بالاسلام، لأن الشريعة التي تنادي بالتحصيل العلمي وبالانفتاح على بقية الأديان والثقافات، أو ما يعرف في الوقت الحاضر بالانفتاح على (الآخر)، هو بلا شك شريعة الثقافة والحضارة.
وقد انتبه جيداً سماحة الإمام الشيرازي إلى نقطة هامة جداً قلما ينتبه إليها الباحثون أو العلماء المتخصصون، وهي أن هذه الروح الحضارية التي يمتلكها الدين الإسلامي، المتمثل بالقرآن الكريم وتعاليم محمد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) ، هي السلاح الأقوى الذي يستطيع المسلمون أو يقارعوا به الآخرين من أجل بناء حضارتهم الجديدة التي تقوم على نبذ مبدأ العنف مع الآخرين والاستعاضة عنه بالدعوة إلى تشييد الحضارات التي تقوم بالكلمة الطيبة وبربط العلم بالأخلاق الفاضلة، وقد رأى سماحته أيضاً أن الإسلام الذي ينادي ويدعو إلى الحضارة قد يحارب من حيث ما يدعو إليه.
وهذه هي النقطة التي انتبه إليها سماحته في الوقت التي غفل العلماء والباحثون عن ذكرها، أو لم ينتبهوا إليها أو يدققوا فيها جيداً.
ومعنى هذا الكلام هو أن بعض المتعصبين الذين لا يريدون للإسلام الحقيقي البعيد عن كل زيف أو تشويه أن ينهض بأسسه ومقوماته الحضارية، إنما يفعلون ذلك ويقفون هذا الموقف العدائي منه لأنه، بنظرهم وباعترافاتهم، رسالة حضارية متكاملة يستطيع لان يقذف بحضارتهم السطحية الجذور تاريخياً إلى أقبية ومتاحف التاريخ (38).
وقد استشهد سماحة السيد في كتابه (الصياغة الجديدة) بحديث مطول لأحد مسؤولي وزارة الخارجية الفرنسية عام 1952 ليؤكد سماحته أن امتلاكنا لأسس الحضارة الجديدة مادياً وَ روحياً، وباعتراف (الآخر)، هو أحد الأسباب العديدة التي تدفع بـ(الآخر) ليناصب العداء بغية عدم التفوق عليه حضارياً.
ونذكر هنا ما نقله لنا سماحة السيد الشيرازي من قولٍ لذلك المسؤول الفرنسي الذي يدعو إلى محاربة الإسلام انطلاقاً من طاقته الحضارية الكامنة:
(ليست الشيوعية خطراً على أوروبا، فيما يبدو لي أن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديداً مباشراً وعنيفاً هو الخطر الإسلامي، فالمسلمون عالم مستقل كل الاستقلال عن عالمنا الغربي، فهم يملكون تراثهم الروحي الخاص بهم، ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة، فهم جديرون أن يقيموا قواعد عالم جديد دون حاجة إلى إذابة شخصيتهم الحضارية والروحية في الحضارة الغربية، فإذا تهيأت لهم أسباب الإنتاج الصناعي في نطاقه الواسع انطلقوا في العالم يحملون تراثهم الحضاري الثمين، وانتشروا في الأرض يزيلون منها قواعد الحضارة الغربية ويقذفون برسالتها إلى متاحف التاريخ، وقد حاولنا نحن الفرنسيين خلال حكمنا الطويل للجزائر أن نتغلب على شخصية الشعب المسلم فكان الإخفاق الكامل نتيجة مجهوداتنا الكبيرة الضخمة، إن العالم الإسلامي عملاق مقيد، عملاق لم يكتشف نفسه حتى الآن اكتشافاً تاماً، وهو قلقن وهو كاره لانحطاطه وتخلفه، وراغب رغبة يخالطها الكسل والفوضى في مستقبل أحسن وحرية أوفر.
فلنعط هذا العالم الإسلامي ما يشاء، ولنقو في نفسه الرغبة في عدم الانتاج الصناعي والفني حتى لا ينهض، فإذا عجزنا عن تحقيق هذا الهدف بإبقاء المسلم متخلفاً، وتحرر العملاق من قيود جهله وعقدة الشعور بعجزه قد بؤنا بإخفاق خطير، وأصبح خطر العالم العربي وما وراءه من الطاقات الإسلامية الضخمة خطراً داهماً ينتهي به الغرب، وتنتهي معه وظيفته الحضارية كقائد عظيم للعالم) (39).
وقد تعمدّنا هنا أن نورد هذا الشاهد بكامله كما ساقه إلينا سماحة السيد الشيرازي في كتاب الصياغة الجديدة لنؤكد عمق بصيرة السيد في معالجته لواحدة من أهم القضايا الإسلامية في العصر الحديث. فعندما ساق إلينا الإمام السيد هذا الحديث عن لسان المسؤول الفرنسي عام 1952، فقد وضع سماحته هذا الحديث المطول تحت عنوان (العالم الإسلامي عملاق مقيد) ليثبت لنا أن هذه العبارة هي العنوان العريض لنظرة الغرب الينا، فالعالم الغربي يرى في الإسلام، كفكر وعقيدة ومقومات مادية، وإمكانيات جغرافية مهمة، عملاقاً خطيراً قادراً على قلب الموازين وصنع المعجزات، ولذلك يحاول الغرب أن يحكم سيطرته على هذا العملاق الذي يسعى جاهداً للخروج من قمقمه.
ولكن من الطبيعي جداً أن نتساءل:
هل كل الغرب متوحد في نظرته إلينا كنظرة ذلك المسؤول الفرنسي؟.
ألا يوجد مفكرون وفلاسفة وأرباب فكر غربيون يحترمون الإسلام وصاحب الرسالة الإسلامية (صلى الله عليه وآله)، ويعترفون بفضله على البشرية؟.
لاشك في أن النظرات الغربية تتباين وتتفاوت في مواقفها تجاهنا، ولا نغالي إذ قلنا إن العديد من مفكري الغرب يحترم التعاليم الروحية الإسلامية (40)، ولكن التعصب عند البعض منهم ومحاولتهم للتعزيز بالبعض الآخر خلق جواً مشحوناً بالتوتر بين أبناء وورثة الحضارة الإسلامية وبين أبناء الحضارة الغربية، وهذا ما يؤدي إلى ما يسميه البعض بـ(صدام الحضارت) كما هو الحال عند (صموئيل هنتنجبتون) وغيره من المنظرين الغربيين.