بين الإمام الشيرازي وألبرتو مانغويل
فِعل القِراءة ومَا حولَها-قراءة ثقافية مقارنة
عقيل ناجي
2019-05-23 05:36
قد يسأل سائل ما الربط بين هاتين الشخصيتين؟ ولماذا إجراء بعض المقارنات بينهما في موضوع القراءة؟
فأجيب مُوجزاً وبدون أي تمحّكات أو فلسفة زائدة بأن فعل القراءة الحقيقية والهادفة يجب أن نأخذه كقدوة كبرى من علمائنا الأعلام بشكل مباشر لأنهم لا يأخذوننا إلا إلى الخير ولا يوصلوننا إلا إلى شواطئ الأمان، ومنهم آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي "أعلى الله درجاته"، هو أكبر قدواتنا في القرنين العشرين والواحد والعشرين ليس في القراءة فحسب بل في الكتابةِ والبحث العلمي، وفي السلوك الأخلاقي والتربوي أيضاً، أما من ناحية القراءة فلأنه قارئ من الدرجة الأولى، نعم يمكننا الاستفادة من تجارب الغربيين والشرقيين من مختلف العصور لا على سبيل القدوة المطلقة وإنما على سبيل القراءة والاستفادة مما هو يتطابق مع السوك الأخلاقي المعتبر به، أما الذي لا يتطابق مع السلوك الأخلاقي المعتبر به فلا نأخذ به وإنما نضرب به عرض الحائط.
عندما قرأت كتاب (ذاكرة القراءة) لـ ألبرتو مانغويل[1]، كنت أهمّش في جوانبه، وفي بعض الوريقات الخارجية، فاجتمع عندي الكثير من هذه التهميشات، والتعليقات فأحببت أن أضمها لبعضها البعض حتى أصبحت على ما هي عليه الآن، وأنا أقدمها للقارئ الكريم على سبيل الخواطر والتأملات، آملاً منه قراءة ممتعة.
التطيّر والتشاؤم، وقراءة الواقع بواقعية:
لا أظنّ أنّ الإمام الشيرازي في صغره أو في شبابه وعنفوان شبابه بل حتى في شيخوخته من حيث التكوين الفيسيولوجي، وحتى آخر يوم في حياته المباركة أنه كان يتطيّر عندما يشاهد غراباً.. على سبيل المثال.. لأن الإسلام نهى عن التطيّر، ودعا إلى التوكّل على الله في كل صغيرة وكبيرة والله سبحاته وتعالى يوفّق الإنسان المتوكل عليه كما قال في محكم كتابه (... ومن يتقِ اللهَ يجعل لهُ مخرجاً، ويرزقهُ من حيثُ لا يحتسبُ ومن يتوكل على الله فهو حسبه إنّ الله بالغُ أمرهِ قد جعل الله لكلّ شيءٍ قدرا)،[2] فكان الإمام الشيرازي متوكلاً على الله بمعنى الكلمة، كما أنه كان يقرأ الكون قراءة حكيمة كما تملي عليه آيات القرآن الكريم، وكما تفسره أحاديث الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأحاديث المعصومين (عليهم السلام)، ولم تكن تمر مشاهداته للطيور غرباناً كانت أم عنادل أم عصافير إلا وينظر إليها نظرة العالم الذاكر لمفردات الحمد والشكر، والمتأمّل في كل هذه المخلوقات بهذا الكون العظيم صغيراً كان أم كبيراً فهو كما يقرأ في الآلاف من الكتب الكبيرة والصغيرة وفي مختلف العلوم والمعارف والثقافات والفنون باللغتين العربية والفارسية، بل والكتب المترجمة من عدة لغات عالمية أخرى، فإنه أيضاً يقرأ في كتاب الكون الكبير وما يحويه من المخلوقات والكائنات التي تعيش من حولنا في كل مكان، ولم تكن قراءة الكون من قبل الإمام الشيرازي قراءة ساذجة وإنما قراءة النظر العلمي، والتأمل الوجداني، والعبرة والاعتبار، وقراءة التفكير العميق الذي يزيد في إيمانه ويعزز من يقينه.
ولم يكن الإمام الشيرازي يعطي إيحاءات تربط بين بعض الحيوانات أو الطيور بالدين أو القداسة على الإطلاق بل كان يعطي الأشياء حقها ولا يُبعدها أو يزحزحها عن حقيقتها التي خلقها الله عليها، ولا أشبّه تعامله "قده" أو نظرته للطيور مثلاً بما ذكره (ألبرتو مانغويل) عندما قال:
"عند الفجر كان البُوم في برج الكنيسة (لم نفهم قطّ لماذا اختار أن يبني عشه تحت النواقيس) يتهادى للانقضاض على فريسته، كان بوم المخازن، ولكنْ كانت تظهر بومة بيضاء ضخمة ليلة رأس السنة، شبيهة بالملاك الذي يصفه دانتي موجّهاً دفة قارب الأرواح إلى سواحل المطهر، فتنساب في الظلام من دون صوت، وقد جاء في (الكوميديا الإلهية) أن دانتي كان يرى هذا الطائر الإلهي ذا الجناحين الناصعين يضرب الهواء بأرياشه الأبدية، ويقود قارباً سريعاً يحمل أكثر من مئة روح باتجاه جبل المطهر".[3]
فالإمام الشيرازي باعتباره أحد العلماء الأعلام في القرنين العشرين والواحد والعشرين، ولا زالت بركات وجوده تترى حتى يومنا هذا، ولا زالت آثاره تقود حيزاً كبيراً جداً من العقلية الإسلامية، وباعتباره أيضاً أحد أكبر رموز الحوزة العلمية الأصيلة، وباعتباره أحد الذين ورثوا العلم والعمل والطّباع والأخلاق والنظرة الحقة للوجود والكون والحياة والمجتمع والأمم من المعصومين الأربعة عشر (عليهم السلام) جداً عن جد ووالداً عن والد، فقراءته لأمثال هذه المشاهد وهي كثيرة قراءة الإنسان العالم والعارف، أما أولئك الذي ينظرون لأمثال هذه المشاهد في حاتهم اليومية بنظرة التطيّر والتشاؤم فإنهم من القاصرين في الفكر والمشوشين في عقولهم، لا سيما أولئك الذي تثقفوا بثقافات شعبية مشوبة بالكثير من الشبهات في النظرة للحياة، فهم قد يتطيرون ويتشاءمون، إلا أن الإمام الشيرازي وهو عالم كبير ومرجع مشهور لم يكن يتطيّر على الإطلاق، بل كان عندما تمر عليه بعض هذه المشاهد في حياته ينظر نظرة القراءة العادلية والتأمل المشروع وليست قراءة المتديّن المنحرف الذي يدمج الأساطير مع الحقائق، فأمثال هذه الأساطير ما أنزل الله بها من سلطان.
الإمام الشيرازي "قده" كان ينظر إلى الواقع بواقعية، ولا يأخذنا عبر كتبه وكتيباته ومحاضراته إلا إلى الواقع وبواقعية أيضاً، فلا مجال للأساطير وأكاذيب التصورات البشرية الشيطانية في حياته على الإطلاق.
ملكية الكتاب، وتكوين المكتبات:
كمثال واحد على كُتّاب تجارب القراءة يقول (ألبرتو مانغويل): "إن إعارة كتاب تحريض على سرقته، كانت المكتبة العامة في إحدى مدارسي قد علّقت تحذيراً بالحرف العريض يجمع بين المنع والإباحة (هذه ليست كتبك، إنها كتب الجميع)، لا يمكن للافتة كهذه أن تُعلّق في مكتبتي، كانت مكتبتي بالنسبة إليّ مكاناً مطلق الخصوصية يحتويني فأتمرأى فيه"[4]
أمّا الإمام الشيرازي فيروى عنه أنه لم يكن يتملّك الكتب إطلاقاً، بل لا يحب أن يتملّك أي شيء في هذه الحياة، لولا بعض الحاجات الضرورية التي يملي الشرع عليه أن يستخدمها في حياته، وبالنسبة للكتب فهو لم يكن يحرص على تملّكها على الإطلاق، بل كان يقرأ هذه الكتب أو يطالعها، أو يتصفحها، أو يأخذ حاجته منها، أو يقرأ قسماً فيها، وهكذا حسب أنواع القراءة التي أشرنا إليها في مقال سابق، ومن ثم يأمر بتسليم هذه الكتب إلى إحدى المكتبات الإسلامية العامة سواء تلك المكتبة التي تقع في حوزته الشريفة عندما كان في كربلاء أو في الكويت أو في قم المقدسة وذلك ليستفيد منها طلاّب العلم وجميع فئات القرّاء الذي يرتادون أمثال هذه المكاتب العامة – وليست الخاصة -، فلم يكن يفكر أن يجمع لذاته أكبر مكتبة في الكون لاستعماله الشخصي، وإنما كان يفكر أن يجمع أكبر مكتبة ليرتادها طلابه وطلاب الحوزات الأخرى أيضاً، بل وكافة أبناء المجتمع من حوله، فهو كان حريصاً على نشر العلم والمعرفة، وكان يفكر أن يطّلع أكبر عدد ممكن من القُرّاء على الكتب التي تصل إليه إما بالشراء أو بالإهداءات التي تصله من الأخوة والأصدقاء ودور النشر والتوزيع التي تحب بشكل مستمر أن تُهدي إليه كتبها الصادرة.
نقل آية الله العلامة السيد مهدي الحسيني الشيرازي "حفظه الله ورعاه" نجل الإمام الشيرازي "قده" أن والده بمجرد أن ينتهي من الكتب التي تصل إليه يأمر بنقلها إلى إحدى المكتبات العامة، ومنها مكتبة الإمام علي (عليه السلام) في مدينة قم المقدسة.
وهذا الخلق الحضاري الرفيع من هذا العالم يعطينا درساً عميقاً في كيفية تعامله مع الكتاب، فلو أن حارة من الحارات وفي كل بيت من هذه الحارة توجد فيه مكتبة خاصة، وذات هذه الكتب موجودة في البيت الآخر وهكذا، هذا شيء جميل جداً، ولكن الأجمل منه أن نضفي روحاً جماعية على هذه الحارة بحيث يُخصص جزء مما يصرف على المكتبات الخاصة ليتم صرفه على مكتبة عامة تجمع أكبر قدر ممكن من الكتب لتثقيف أبناء هذه الحارة، فيرتادها الصغير والكبير، ويكون لها قاعة خاصة للقراءة ومن حولها عشرات الرفوف يتم تقسيمها بالتنظيم المعهود حسب أنواع العلوم والمعارف، والإمام الشيرازي كما أنه كان يدعو لتكوين مكتبة خاصة في كل بيت، دعا أيضاً لتكوين مكتبة عامة في كل مدينة، وفي كل قرية، حسب المتاح والممكن.
الأنا والحقيقة:
لم تكن مسألة القراءة عند الإمام الشيرازي "قده" مسألة البحث عن الأنا، أو حقيقة الذات، فهو إن أراد أن يبحث عن ذلك لا يبحث عنها في الكتب الأرضية وتصوّرات البشر في مختلف العلوم والمعارف والثقافات، وإن بحث عن هذه الموضوعات وأمثالها في الكتب فإنما يبحث عنها من باب المعرفة بما هو سائد من اجتهادات البشر ومن ثم مقارنته بهدى الوحي الإلهي وعلوم محمد وآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين، من أحاديث وتقريرات وأدعية وزيارات، فهم بحق عرّفوا كلّ شيء.. تقريباً.. ومنها النفس البشرية وطواياها وخباياها، وفي كتب المرجع الراحل جوانب كثيرة من الموضوعات التي تطرق إليها عن النفس البشرية وأبعادها، ولكنه كان يتناولها من منطلق قرآني في إطار تربية الإنسان الفرد/الأسرة/الجماعة الصغيرة/الجماعة الكبيرة/الشعب/ الأمة، وبالتالي تربية الأمم على إرساء سفينة العدالة والاحترام المتبادل بين الشعوب وتعارفها وتواصلها لتعمير الأرض تحت مظلة السلام الحقيقي.
هذا من ناحية النفس، أما من ناحية ماهيتها وحقيقتها فقد وقف على كل ما عبروا به عنها، وإلا فإن ماهية النفس وحقيقتها لا يقف عليها إلا الله سبحانه وتعالى والمعصومون (عليهم السلام)، بشهادة القرآن الكريم في قوله تعالى (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)،[5] وكلمة أوتيتم لا تعود إلى المعصومين (عليهم السلام) بل إلى بقية البشر، وإلا فإن محمد وآل محمد (عليهم السلام) لديهم علم الكتاب كله، وليس علماً من الكتاب فقط، أما ما يقوله ألبرتومانغويل في كتابه (ذاكرة القراءة) عن الإشارة إلى حقيقته ماثلة هناك في صفوف تلك الكتب المرتّبة في مكتبته فمحض هراء ولا حقيقة له، إلا إذا كان يقصد بعض حدود النفس وما يُظنُّ من الباحثين أنهم قد توصلوا إليه من آثارها وتأثيراتها فقط.
يقول ألبرتو مانغويل: "عالماً ما أحسستُ أن مكتبتي كانت تبيّن لي من أنا، وتمنحني ذاتاً مُتحوّلة تغيِّر نفسها من دون انقطاع على مرّ السنين، لكن، رغم هذا، ظلّت العلاقة التي تربطني بالمكتبات غريبة دائماً، أحبُّ فضاء المكتبة، أحبّ الأبنية العامة القائمة بمنزلة رموز تدلُّ على الهوية التي يختارها المجتمع لنفسه، سيّان كانت هذه الأبنية شامخة أو متواضعة لا تلفت الأنظار".[6]
هذا ما يقوله مانغويل عن أناهُ المتحوّلة والمتغيرة من دون انقطاع وفقاً لما يقرأ في تلك الكتب، أما (الأنا) عند الإمام الشيرازي كمثال للأنا المسلمة/المؤمنة/المتقية/الورعة/الخلوقة/المتواضعة /الخ الخ... فهي (أنا) ثابتة لا تتغير عن حقيقتها ولا عن ما وصلت إليه من الاستسلام الحقيقي لله عز وجل، والإيمان به والأخلاق السامية التي تربت عليها هذه الـ (أنا).
أما ما يقوله مانغويل عن حقيقته فهو أيضاً محلّ نظر: "حينما أكون في المكتبة، أي مكتبة، يُساورني إحساسٌ أن وجودي يُترجم إلى حالة محض لفظية، عبر خدعة سحرية لم أفهمها قطّ تمام الفهم، أعلم أن قصتي الحقيقية الكاملة تقبع هناك، في مكانٍ ما على تلك الرفوف، وكلُّ ما يلزمني للعثور عليها هو الوقت والحظ، لم أجدها قط، لا تني قصتي تفلت مني لأنها لم تطن قطّ القصة النهائية، والسبب هنا يعود، في قسم منه، إلى عجزي عن أن أفكر تفكيراً مستقيماً، أن أستطرد، أشعر أني عاجز عن الانتقال من بدايات ترتكز إلى الوقائع مروراً بشبكة أنيقة الترتيب من الأسانيد المنطقية وصولاً إلى نهاية مقنعة".[7]
مانغويل هنا إما أن يتحدث عن قصته القادمة التي يأمل في تأليفها، أو يتحدث عن قصته هو كأرنيومانغويل وحقيقة حياته، فإن كان يقصد المعنى الثاني فشتّان بين الشخصيتين أيضاً، فالإمام الشيرازي يعرف قصته من ألفها إلى يائها، لا من باب علم الغيب، وإنما من باب معرفة الصالحين لطريقهم، طريق ذات الشوكة.. طريق العلم والعمل.. طريق أئمة أهل البيت (عليهم السلام)..طريق العلماء الأعلام الذين يريدون الوصول بالدين الإسلامي ومبادئه وقيمه إلى أعلى الدرجات عبر الأمة، عبر رفع مستواها إلى أعلى ذُرى ممكنة وإعمار الأرض وبسط العدل والرفاه والأمن والسلام في كل مكان، ونبذ الظلم والحروب والدمار، وكل كتب الإمام الشيرازي تدعو إلى ذلك منذ أيام كربلاء المقدسة حتى آخر يوم في حياته في قم المقدسة، وأطروحته (الصياغة الجديدة) أكبر دليل على ذلك.
فوضى المنطقات والأهداف:
ألبرتو مانغويل يُعبّر عن فوضى المنطقات والمنهج حتى الوصول للهدف أو عدم الوصول إليه، إن كان هناك هدفاً من الأساس، وإن كانت هناك منطلقات صالحة لهذا الهدف، وإن كان هناك منهجاً صالحاً للانطلاق السليم والوصول للهدف السامي.
نكاد نجزم في تعبيرات مانغويل أنه عبثي النزعة في هذه التعبيرات، حيث عبّر عن فوضى المنطلقات والأهداف في الكتابة، وكثيراً ما يتبجح بعض الكتّاب من الشرق والغرب بهذه الحالة كطقوس خاصة بهم في الكتابة، منطلقين من قراءاتهم متعددة الأشكال والطرق والأساليب.
يقول ألبرتو مانغويل: "مهما بلغت نيّاتي الأولى من العنفوان فإني أضيع على الطريق، أتوقف معجباً باقتباس أو منصتاً إلى حكاية، تشتتني الأسئلة الغريبة عن هدفي، فيحملني تيار من الأفكار والتداعيات، أبدأ الحديث عن شيء ما وأنتهي بالحديث عن شيء آخر...".[8]
يتلخص قول ألبرتو مانغويل في النقاط التالية:
1- الشعور النفسي بالضياع.
2- التشتت في التساؤلات عن الهدف.
3- السير مع التيّار دون السيطرة عليه.
4- عدم وضوح الرؤية.
بينما نرى الإمام الشيرازي لا تسيطر عليه هذه الحالة على الإطلاق، لأن وقته منظّم أيما تنظيم لأداء مسؤولياته اليومية على أكمل وجه، فلا نرى للفوضى أيّ مسلك إلى حياته وبرامجه في أي وقت من الأوقات، ولم يشعر ثانية من الثواني أنه ضائع في الطريق، لأنه مع الله دائماً في كل حركاته وسكناته، ومن كان مع الله كان الله معه، ولم يشعر بأي أسئلة غريبة يتشتت في أجوبتها أو يحتار فيها أو يشعر بالجهل من جرّاء مرورها على خاطره أو مخيلته، فكل الأسئلة لها إجابات مُفصّلة كانت أم غير مفصّلة، إجمالية كانت، أم غير إجمالية، حقيقية كانت أم تقريبية بأقيسة عقلية ومنطقية أو مقاربة لمعايير شرعية تلامس الحقيقة أو تحاول الاقتراب منها إن كانت أسئلة صعبة جداً، فالدين الإسلامي لم يترك شاردة ولا واردة إلا وتطرّق إليها، فلا مجال للحيرة من وجود بعض الأسئلة الصعبة وهي واردة على أيّ حال، وبالتالي فإن الرؤية تكون واضحة دائماً أمام عيني الإمام الشيرازي ولذلك فإن إجاباته حاضرة حضور اليقين في قلبه، وكأنه أعلى الله درجاته يتمثّل بطريقة تطبيقية مباشرة بقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: "لو كُشِف ليَ الغطاء ما ازددت يقينا".[9]
المكتبة والطفولة:
يقول ألبرتو مانغويل في علاقته بالكتاب عندما كان طفلاً: "إحدى أولى ذكرياتي (لابد أن عمري وقتذاك كان سنتين أو ثلاثاً) هي رفٌّ كامل من الكتب على الحائط الذي يعلو سرير طفولتي، كانت مربيتي تختار منه قصة قبل النوم، كانت هذه هي مكتبتي الشخصية الأولى، وعندما تعلمت القراءة وحدي بعد نحو سنة من ذلك، أمسى ذلك الرفّ ركنيَ الحميم بعد نقله الآن ليصير آمناً بمستوى الأرض، أتذكر ترتيبي كتبي وإعادة ترتيبها وفق قواعد سرية اخترعتها لنفسي، يجب وضع سلسلة الكتب الذهبية كلها في زمرة واحدة، لا يُسمح لمجموعات الحكايات الخرافية السميكة بملامسة الكتب بالغة الضآلة لـ (بياتريكس بونر)، يُمنع إجلاس دُمى الحيوانات على الرفّ نفسه مع الكتب، قلت لنفسي إن أموراً رهيبة سوف تحدث إذا انتهكت هذه القواعد، التطيُّر وفنُّ المكتبات متشابكان تشابكاً وثيقاً".[10]
كان العلماء في مدينة النجف الأشرف، وهي فترة الطفولة الأولى للإمام الشيرازي، وأقول مرحلة الطفولة الأولى حسب ما جاء في "علم النفس الإسلامي" للدكتور محمود البستاني، حيث قسّم مراحل الإنسان إلى مرحلة أولى (من السنة الأولى حتى السابعة)، ومرحلة ثانية (من بداية الثامنة حتى الرابعة عشر)، ومرحلة ثالثة (من بداية الخامسة عشر حتى الحادية والعشرين)، ومرحلة رابعة (من بداية الثانية والعشرين حتى السابعة والعشرين) وهكذا حتى الانتهاء من العقد الثالث ودخول العقد الرابع فالخامس والسادس، أي مراحل شرخ الشباب، ثم الشيخوخة، ثم الكهولة إلى أرذل العمر، والإمام الشيرازي عاش في النجف الأشرف مدينة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) من السنة الأولى حتى الثامنة أو التاسعة، وكان العلماء وقتئذٍ يتبعون نفس النظام السائد عند أسلافهم من علماء الدين بحفظ الكتب إما في خزانات خاصة من الصناديق الخشبية أو على رفوف خشبية بدائية، أو رفوف مبنية ضمن الجدران ذاتها كالتي في البيوت القديمة عندنا في القرى والبلدان القديمة في دول الخليج، حيث يتم بناء دخلات على شكل مستطيل بعرض يعادل المتر وارتفاع بعادل المتر والنصف إلى المترين، وبين الجدارين في هذه الدخلات الخاصة التي نسمّيها (روزنة) توضع رفوف من ألواح الخشب المتراصة والمُثبّتة، ويتم وضع الكتب عليها، كما يوضع عليها حاجيات أخرى.
وبالتأكيد إن الإمام الشيرازي في هذه السنوات الأولى كان تحت عَيني والديه، يتلقّى صنوفاً من أنواع التربية على الفضيلة والقيم والمبادئ، فالأمّ من جهة تقوم بواجباتها لتربية أطفالها وهي في كامل صفات الصلاح والورع والتقوى وقراءة القرآن والأدعية والزيارات، والتعلق بالمعصومين وإحياء مناسباتهم من مواليد وأفراح وذكريات وفياتهم طوال العام، والوالد السيد مهدي الحسيني الشيرازي "قده" أحد كبار العلماء الأعلام والمجتهدين الذين يُشار إليهم بالبنان، وعلاقة هذه العائلة بالكتاب علاقة وطيدة، فالحوزة العلمية ومجلس الوالد السيد مهدي كانت مليئة بالكتب في الاختصاص كالفقه والأصول، ناهيك عن ارتباطهم اليومي بالقرآن الكريم قراءة وتدبراً، إضافة إلى كتب الأدعية التي كانت سائدة وقتئذٍ، إضافة إلى الزيارات، ولاشك أن للأطفال نصيب من هذه الكتب وهذا العالم المقدس عالم الكلمة ومفردات العلم والمعرفة المرتبطة بالمعصومين عليهم السلام، فهناك كتب خاصة بهم عرفتها بيئتهم العلمائية ليتم تعليمهم القراءة والكتابة والحساب والخط والتجويد ومبادئ الفقه واللغة وما إلى ذلك.
ولاشكّ أن الوالدة كانت تهتم بقص القصص على أولادها وبناتها وأحفادها، ولا شك أن تلك القصص كانت قصصاً إما من القرآن الكريم أو من حياة المعصومين (عليهم السلام)، أو من قصص العلماء والصالحين، وكلها من القصص الأخلاقية والتربوية الهادفة، ناهيك عن التربية على الآداب الإسلامية المثبتة في الأحاديث الشريفة وسِيَر المعصومين (عليهم السلام)، وهي بذلك تتبع خلقاً قرآنياً كما جاء في قوله تعالى (فاقصص القصص لعلهم يتفكرون)،[11]وقوله تعالى (لقد كان في قصصهم عبرة لأُولي الألباب ما كان حديثاً يُفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدًى ورحمةً لقوم يؤمنون)،[12]وقوله تعالى (ورُسلاً قد قصصناهم عليكَ من قبلُ ورسلاً لم نقصصهم عليك وكلّم الله موسى تكليماً).[13]
أما القراءة فالإمام الشيرازي وأخوته بشكل عام تعلموها في صغرهم، لأنها مهمة جداً لأدوارهم المرسومة لهم والمعدّة لهم جميعاً كجزء لا يتجزأ من جميع مراحل حياتهم، بل إن الإمام الشيرازي كما سمعت من بعض المشايخ كتب كتيّبات للأطفال لإدراكه بأهمية رعاية هذه المرحلة العمرية وصياغتها صياغة سليمة استعداداً للمراحل العمرية القادمة من عمر الإنسان.
أما عن الترتيب في طفولتهم فكان ذلك شيئاً مُحصلاً من الترتيب العام الذي تربّى عليه الآباء والأمهات، فكل شيء مُرتّب في حياتهم، حتى لو كانت حياتهم تتميز بالبساطة العربية وعدم التعقيد في التكوين الداخلي لمنازلهم ومقر إقامتهم سواء كان في فترة النجف، أو فترة كربلاء، حتى العقود الأخرى من الكويت حتى قم المقدسة، كما أن طبيعة العبادات التي يواظب عليها المسلم الملتزم طبيعة زمنية وفقاً لترتيب العبادات اليومية كالصلوات الخمس كما قال تعالى (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا)[14] ومواعيد قراءة الأدعية والزيارات، ومواعيد الصلوات المستحبة، ومواعيد الصيام الواجب في شهر رمضان المبارك كما قال تعالى (شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّناتٍ من الهدى والفرقان)،[15] والصيام المستحب في غيره من الشهور والأيام، فإذا كانت كل السنة عندهم مرتبة ومنظمة هكذا في كل العبادات الواجبة والمستحبة العملية واللفظية، فما بال بقية الأعمال الأخرى كترتيب منازلهم المتواضعة، وحاجياتهم داخل هذه المنازل، وكذلك ترتيب مستلزماتهم ومنها الكتب والدفاتر والقراطيس والأقلام على سبيل المثال.
ومن المعروف أن العلماء كانوا يرتبون كتبهم وفقاً للموضوعات، كتب الفقه، كتب الأصول، كتب التفسير، كتب الحديث، كتب النحو والصرف، كتب الأخلاق، كتب الرجال، إلى آخر هذه القائمة من الكتب الدينية والحوزوية بشكل عام، والإمام الشيرازي تربى على هذا النظام المكتبي أيضاً، ومكتبته في كربلاء والكويت وقم أخذت ذات الترتيب – على ما أظن – وهو المعهود عادة والمتعارف عليه في بيوت ومجالس ومكتبات العلماء بشكل عام، وإن كان هناك بعض الترتيب المغاير من عالم إلى آخر فهذا يعود إلى الحاجة إلى شيء من التغيير المناسب لاختلاف طبيعة وهندسة المكان الذين يعيش فيه عالم ما عن عالم آخر، وهكذا.
ومن الملاحظات الدقيقة التي يمكن التوقف عندها تعليقاً على ألبرتو مانغويل عندما قال أنه لا يدع أشياء أخرى تختلط بالكتب كدُمى الحيوانات لأنه يتطيّر منها، أقول: لامجال عند العلماء للتطير من أي شيء وقد تطرقت إليه في بداية هذا البحث المقارن، ويلاحظ في العديد من صور الإمام الشيرازي "قده" وهو جالس في غرفة صغيرة وأمامه طاولة عليها بعض الورق والكتب، وبجانبه مكتبة صغيرة قد صفّف في رفوفها بعض الكتب، وبجانبها سجادة صلاة أو المسبحة أو حاجيات أخرى كالورق والأقلام، وهذا ليس عيباً، فالرفوف وُضِعت لمثل ذلك سواء للكتب أو لبعض الأشياء الصغيرة الأخرى التي تحتملها هذه الرفوف، بدون أي تعقيد وبكل بساطة وأريحية في تعامله مع الأشياء الصغيرة من حوله.
المكتبة لغذاء العقل والروح وليست للزينة:
مفارقة مضحكة ذكرها ألبرتو مانغويل عن مكتبته الثانية – حسب قوله -: "كبرت في بوينس آيرس خلال سني مراهقتي، قبل العودة إلى الأرجنتين، طلب أبي من سكرتيرته أن تشتري عدداً كافياً من الكتب لملء رفوف مكتبته في بيتنا الجديد، فتلطّفت بالإرسال في طلب شاحنة من الكتب ذات التجليد الفني لدى بائع كتب مستعملة في بوينس آيرس، وعندما حاولت ترتيبها اكتشفت أن الكثير من تلك المجلدات أكبر من الرفوف، لم تتورّع عن قصقصتها لتصل إلى المقاس المناسب، ثم إعادة تجليدها بجلد أخضر داكن أضفى على المكان، مع اللون الغامق لخشب البلوط أجواء بستان...".[16]
صحيح ما وراه الإمام الشيرازي "قده" عن أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): (الكتب بساتين العلماء)،[17] ولكن ليس كما أرادته هذه السكرتيرة التي ذكرها ألبرتو مانغويل، حيث عمدت إلى استهداف إضفاء الزينة والجمال على منظر المكتبة بالنسبة لهذا البيت الجديد الذي انتقلوا إليه، ولم تستهدف ذلك فقط بل إنها قصّرت من حجم الكتب وجلّدتها من جديد لتتناسب وحجم الرفوف، بغض النظر عما تحويه هذه الكتب وكيف أنها قطّعت الكثير منها وذهب أجزاء من محتواها أدراج الرياح، كل ذلك لهدف الزينة فقط.
أما الإمام الشيرازي فهو من الأساس لا يهدف إلى تكوين مكتبة خاصة به، لأنه لم يملك منزلاً قط لا في الكويت ولا في قم على الإطلاق، والمكتبة بالنسبة إليه بمثابة مجرد قوافل من القرطاس المجلّد وغير المجلد بمختلف الأحجام تأتي وتذهب، تأتي لِتقرأ، وكذلك ليقرأها الآخرون، وعادة ما يكون سبيلها إلى مكتبة حوزة الرسول الأعظم (ًصلى الله عليه و آله وسلم) عندما كان في الكويت، ومكتبة الإمام علي (عليه السلام) عندما كان في قم المقدسة أو لأي مكتبة أخرى عامة، وذلك لاستفادة أفراد المجتمع المحيط بمكان تواجد سماحة المرجع – رحمه الله – وحوزته المباركة.
ولم نسمع أو نقرأ قط أن الإمام الشيرازي "قده" يعتبر المكتبة زينة في بيته بل هي غرض من الأغراض وحاجة من الحاجيات التي تُستعمل لغرضها ثم تذهب لحال سبيلها، وهي بمثابة بستان من بساتين العلماء يتجولون فيه متى أرادوا ذلك، وقد استشهد بذلك عدة مرات في كتبه ومحاضراته.
المطاردون
يقول ألبرتو مانغويل: "عندما أبحرت إلى أوروبا سنة 1969م، قبل وقت من الدكتاتورية العسكرية في الأرجنتين، وعلى ما أظن لو كنتُ قد بقيتُ هناك، على غرار الكثير الكثير من أصدقائي، لتعيّن عليَّ إتلاف مكتبتي خوفاً من البوليس، ففي تلك الأيام الرهيبة، كانت تهمة التخريب واردة لمجرد أن المرء قد شوهد ومعه كتاب مثير للشبهات (ثمة شخص أعرفه اعتُقِل بصفته شيوعياً لأنه كان يحمل معه رواية الأحمر والأسود لستاندال) ".[18]
وحديث مطاردة الإمام الشيرازي "قده" طويل جداً، فقد طورد في كربلاء المقدسة من قبل الحكم البائد، وخرج إلى لبنان، ثم إلى الكويت واستقر بها ما يقارب التسع سنوات إلى عام 1979م، ثم إلى قم المقدسة حتى عام 2001م، وله كتاب حول هذا الموضوع، حيث تعاقبت على العراق الحديث حكومات فاسدة آخرها نظام صدام البائد وقد عاثت هذه الأنظمة المنحرفة فساداً كبيراً في عراق الرافدين، وقد كانت هذه الأنظمة تعاقب كل من يُعرف عنه أنه اقتنى كُتباً فيها شيء ما ضد هذه الأنظمة، ولأن الإمام الشيرازي يؤمن بحديث الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): "يا علي نجى المخفون"،[19] وكذلك ما قاله الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) مناجياً ربه: "يوم يقال للمخفين جوزوا وللمثقلين حطوا، أمع المخفّين أجوز أم مع المثقلين أحط"،[20] لذا لم يضطر الإمام الشيرازي لا إلى إتلاف كتبه ولا إلى إحراقها، فهو كما سمعت وقرأت لا يحب أن يتملّك شيئاً من حطام الدنيا، ولا يحب من الأشياء أن تملكه، وعندما خرج من العراق خرج ببعض الحاجيات الضرورية يحملها على كتفه، كبعض الملابس والأقلام والورق، وربما بعض الكتب التي يستطيع حملها كالقرآن الكريم وبعض أوراقه التي يؤلف فيها كتبه وكتيباته كلما سنحت له الفرصة أثناء التوقف أو المبيت هنا أو هناك.
وقد سجل الإمام الشيرازي بعض تفاصيل مطاردته من قبل البعثيين حتى خروجه من العراق إلى سورية ثم لبنان ثم الكويت، في كتابه (مطاردة نصف قرن) ولم يكن الإمام الشيرازي يقلق على مغادرته كربلاء ولم يفزع من ذلك، فكل الأنبياء والأوصياء أخرجوا من ديارهم لأسباب موضوعية كان للطغاة اليد الطولى فيها، ولم يكن الإمام الشيرازي يقلق على ابتعاده عن الكتب لأنه يجدها في كل مكان، بل لم يكن يقلق لأنه يعتبر الكون كله مكتبة له في أي زمان ومكان، إنه يقرأ في كتاب الوجود أكثر مما يقرأ في كتب القراطيس، إنه يسيح بفكره في عوالم الله وأكوانه مصداقاً لقوله تعالى (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد).[21]
وفي الختام...
لا يسعني الاطالة لأن الخواطر في هذا الموضوع كثيرة جداً، ولكنني أذكرها هنا من باب البعض من الكل، وعلى هذا المنوال يمكن للقارئ العزيز أن يقيس بقية الأمثلة الأخرى في مضمار القراءة وما حولها من الشؤون التي تتعلق بالكتب والمكتبات، ولعل الفرصة تسنح لي في بحث آخر أن أتناول الموضوع بطريقة أخرى وأكثر تفصيلاً، والله المستعان.