الصبر وقيمته في الإصلاح والتغيير

قراءة في محاضرة صوتية لسماحة الإمام السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه-

محمد علي جواد تقي

2019-03-26 06:44

مقدمة:

أن تبني فكرة ما في ذهن صديق لك، أو أن تنشر ثقافة معينة في محيطك السكني او المهني او العلمي او أي مكان آخر، غير ما تتقدم خطوات نحو بناء عشّ الزوجية، وتقدم على العظيم والمهم من البناء في الحياة؛ ألا وهو الزواج، وفق حديث النبي الأكرم: "ما بُني بناء في الاسلام أعظم من الزواج"، بل وغير ما تأمر او تنصح أبنائك في البيت بالتزام تعليمات معينة، او سلوك معين؛ كل اشكال البناء هذه لها عنائها ومشاقّها، وايضاً مراحلها الزمنية والمنهجية، لأن صاحب الفكرة ليس أمام زوجة، او أبناء في محيط محدود، وانما في محيط اجتماعي واسع، يتكوّن هو بالاساس من أفراد، وصاحب الفكرة هذا، وهو أحد هؤلاء، فلا يداً عليا له من الناحية الأدبية والاخلاقية والشرعية ايضاً، فالمجتمع عبارة عن أذواق ومشاعر وتوجهات فكرية متعددة، واحياناً مختلفة. الامر الذي يقتضي التأنّي الشديد لمن يروم العمل في المجال الثقافي، سواءً؛ كان مبلغاً دينياً، او خطيباً، او كاتباً.

الامام الشيرازي في هذا المقطع الصوتي يؤشر الى حالة نفسية لدى الكثير من هذه الشريحة تدفعه الى استعجال النتائج لاسباب عدّة، ويدعو الى التأني والصبر لتحقيق اكبر قدر من النجاح. لنقرأ ثم نستمع:

النفس الطويل سر النجاح

"النصح والإرشاد والهداية، لا يؤتي ثماره بيوم، او يومين، ولا بشهر او شهرين، وإنما لفترات بعيدة، فالامر بحاجة الى نفس طويل.

ابرز مثال للنفس الطويل والصبر ما جرّبه النبي موسى مع قومه، حيث أقام فيهم اربعين سنة لمواجهة فرعون ونظام حكمه، من اجل هداية الناس الى سواء السبيل، علماً أن الله –تعالى- جعل في يده مفاتيح الكون، ومنحه قدرات تكوينية خاصة، كما هي موجودة بيد الأولياء الصالحين ايضاً، ممن تتوفر فيهم شروط الطاعة الخالصة لله، فكان بامكان النبي موسى فعل أي شيء من شأنه تحقيق النصر والغلبة والتفوق على فرعون وجنوده، وكسر شوكته بكل سهولة بما يمتلكه من قدرات خارقة، كما أثبت ذلك للعالم ولابناء قومه في حادثة الأفعى، وفي انفلاق البحر وتحوله الى ممر يعبر من خلاله المؤمنون من بني اسرائيل، ثم يطبق البحر على فرعون وجنوده ليكونوا من المغرقين. مع كل ذلك، فانه لم يتسخدم هذه القدرات طيلة الاربعين سنة من دعوته وتبليغه الرسالة السماوية، وهذا يمثل قمة التخلّق بأخلاق الله –تعالى- وهي صفة الصبر على انحراف الناس وتمردهم على الحق، في حين لله القدرة الفائقة على إبادة أي بقعة في العالم بمن فيها بلحظة واحدة، وهي حقيقة يؤكدها القرآن الكريم، وتحديداً في سورة يس: (مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ).

فمن الضروري التعلّم من النبي موسى، كيفية الهداية والإرشاد بالصبر وطول النفس والتأنّي، فمن يريد التأثير على الآخرين، سواءٌ من هو ابنه او زوجته، او صديقه، او حتى مع مدمن الخمر، او لاعب القمار، وأمثالهما، فما عليه إلا أن ينظر الى البعيد للحصول على النتيجة المرجوة.

والقرآن الكريم يعلمنا اسلوب الدعوة، وقصة النبي موسى، انما جاءت مراراً في القرآن، لانها قصة متكاملة لمقابلة الكفر بالايمان، ومقابلة الظلم للعدل، ومقابلة الفسق بالطاعة، لذا علينا بالاستمرار في الهداية حتى نأخذ النتجية".

لماذا استعجال النتائج؟

ثمة اسباب عدّة وراء تلكؤ بعض النشاطات الثقافية وفشل الاخرى في الساحة الاسلامية، بل وفي الساحة العالمية ايضاً، من أبرزها على صعيد الواقع الاجتماعي؛ استعجال نتائج تلكم النشاطات، فمن يفتتح قناة فضائية، او يشيّد مكتبة، او يؤسس مدرسة او حوزة علمية أو أي مشروع لنشر الثقافة والوعي، نرى الرغبة الجامحة في الحصول على النتائج تواكب هذه المشاريع، وفي أسرع وقت ممكن، وأول علامة دالة على ذلك؛ نشوب المشاكل والخلافات بين القائمين على –بعض- المشاريع والعاملين فيها، فالجميع يريد –بشكل او بآخر- ان يحصل على شيء ما، وبسرعة فائقة.

الامام الشيرازي –طاب ثراه- يدعو الى ضرورة التأنّي والصبر على النتائج، وعدم تحديد موعد معين، كون القضية تتعلق بأفكار افراد مختلفين في المجتمع، لذا فهو يأتي بمثال كبير من التاريخ، ومن مسيرة الانبياء والمرسلين، عليهم السلام، كونهم القدوة الاولى لمن يروم التغيير والإصلاح في مجتمعه، وهذا يدعونا الى دراسة هذه الحالة، ومعرفة الاسباب ومنها:

1- الاعتداد بالنفس

يعتقد البعض انه يحمل افكاراً مستحدثة، وعلوماً جمّة، فمن حقّه الاجتهاد والابداع كيفما شاء، فهو صاحب الرؤية الثاقبة والنظرة الشمولية المتكاملة، وربما يصل الامر بهذا البعض أن يشعر انه يمثل الدين برمته! ولذا يجب ان تُسخّر له كل الطاقات والجهود لتطبيق هذه الافكار والرؤى على ارض الواقع.

هذه الطريقة في التفكير تصطدم –في الغالب- بواقع التنوع في الساحة، فما يقوله هذا الخطيب او ذاك العالم، او ذاك الكاتب، ربما تعترضه ملاحظات ممن يفترض ان يكون المستهدف في الخطاب الثقافي، بل ربما يكون من عامة الناس، كأن يكون من الكسبة في السوق، او طالب مدرسة، او حتى شيخ طاعن في السن يجلس عند باب داره، فهل هؤلاء وأمثالهم، يفتقدون لأي قدرة على التفكير والتقييم والملاحظة إزاء ما يدور حولهم، كما لو أن ادمغتهم صفحة بيضاء تنتظر من يكتب فيها؟!!

إن النظر في تعليقات وملاحظات هذه الشريحة الواسعة في المجتمع هو الذي من شأنه ان يعطي زخماً قوياً لأي عمل ثقافي في الساحة ويدفعه نحو النجاح والتألق.

2- عقدة التخلّف

وهي مشكلة نفسية تعاني منها الكثير من الاعمال والمشاريع، فمن اجل اللحاق بالآخرين وما أنجزوه وحصلوا عليه، يكون صاحب المشروع على أهبة الاستعداد لفعل كل شيء لتحقيق المواكبة، بل والسبق على الآخرين.

ورب سائل عن دور المنافسة في هذا المجال؟

التنافس يكون شريفاً وسليماً وغير محموماً، عندما يتركز الجهد الذهني والعضلي على العمل نفسه، وليس على أعمال الآخرين، ومراقبتها وقياس الفاصلة معها، بما من شأنه ان يخرج المشروع عن اهدافه الحيقية وغاياته النبيلة.

واكثر من ذلك؛ نلاحظ لجوء البعض الى وسائل غير سليمة، ولا تتوافق مع الثوابت الدينية والاخلاقية، لمجرد تحقيق الحضور المكثف في الساحة وكسب اكبر عدد من المؤدين والمتفاعلين، والى ذلك أشار سماحة الامام الشيرازي في استشهاده بقصة النبي موسى مع فرعون، فهو الذي حباه الله –تعالى- بالتكليم المباشر دون سائر الانبياء، وخوّله قدرات تكوينية قاهرة، كما استخدمها لبعض المرات، إلا ان هذا الاستخدام لم يكن فقرة في منهج عمله الرسالي، إنما للضرورات القصوى، كما هو معروف للقارئ الكريم، أما طيلة حياته النبوية، وخلال تبليغه الرسالة السماوية، فقد كان كأحد الناس، في ملبسه ومأكله، وما يقع عليه من تأثيرات خارجية، لعل منها؛ مسألة الخوف من ذوي المقتول الذي قضى عليه موسى وكان من غير بين اسرائيل، ولذا جاءته الطمأنينة من السماء بأن {وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ}، (سوة طه، الآية:40)، وإلا فان شخصٌ يكلمه الله –تعالى- ويبعثه رسولاً الى الناس، لماذا يجب ان يخشى الناس وهم كفار، ويفترض نفسه انه ذو فضل عليهم بأن يهديهم الى صراط مستقيم؟

الحياة تجري ضمن معادلة الاسباب، والانسان فيها مجبول بالتوافق مع نواميس الطبيعة، فاذا ما شهد عملية إصلاح لحياته تجري وفق هذه المعادلة، وبشكل طبيعي، ومن رحم الواقع، من دون تدخلات وضغوطات خارجية، فان الناس يميلون ويستجيبون لهذه العملية مهما كانت مكلفة.

3- المكاسب المادية والمعنوية في الساحة

سبب آخر يمكن ان يدفع البعض –وليس الكل- بقوة نحو استعجال النتائج، وهو البحث عن المكاسب، لاسيما في الفترة الراهنة، بعد تحول العالم الى قرية صغيرة، بل وإن المجلة، او الكتاب، او الاخبار، وحتى الدروس الدينية والعلمية، باتت في غرف الشباب، في كل انحاء العالم، وكذا الحال بالنسبة لسائر المواد الثقافية والتوعوية التي تعني بجميع افراد المجتمع، فالمخاطب، لم يعد في مدينة معينة، ولا لبلد، ولا حتى لطائفة معينة، إنما الصدى يصل الى مختلف اصحاب الديانات والقوميات والاعراق، فاللغة العربية، يفهمها ليس فقط الشيعي والسني، بل يفهمها ايضاً؛ الكردي، والامازيغي، والايراني، وحتى الافغاني والباكستاني.

ربما لا يخفى على المطلعين؛ ما لهذا النوع من النوايا من آثار مباشرة في تراجع الشارع عن أي مشروع مهما كان، والتخلّي عنه، فضلاً عن عدم التأثر به، وإن وجد بصوت مسموع في الساحة، فهو لا يعدو كونه ترفاً فكرياً، ولا يرقى الى مستوى البناء الفكري والثقافي لدى افراد الامة، لان بكل بساطة، أي انسان يشعر بالاعتزاز والاعتداد بنفسه، فلن يتأثر بشخص يضع المكاسب المالية، وايضاً المعنوية في مقدمة أولوياته.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي