تداول السلطة وحرية المعارضة
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2018-09-03 05:40
يقف العراق والعراقيون اليوم في نقطة حرجة بعد أن مرت 15 سنة على الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، وهذه النقطة ينبغي أن لا تقبل العودة إلى الوراء خصوصا أن العراق يقف على أبواب حكومة جديدة، مطلوب منها أن تعالج الأخطاء والكبوات الخطيرة للحكومات السالفة، وتُعدّ الادارة الناجحة إحدى أهم الركائز التي يتطلبها بناء الدولة التي تتساوى فيها الحقوق مع الواجبات، وتنمو فيها الكفاءات، وتأخذ دورها كما يجب، وتُحفظ فيها الحريات كافة، ومنها وربما أهمها حرية الرأي والاعلام والفكر، ويُكفل في هذه الدولة التعايش ويتم تشجيع منهج التعددية، في اطار دولة المؤسسات وهذا هو المطلوب تحديدا ونحن نقف عند نقطة التغيير أو التراجع أكثر، لذا لا يمكن بناء دولة حديثة ناجحة، من دون وجود إدارة ناجحة، في عموم الميادين الحياتية المتنوعة، وهذا يستلزم إدارة عصرية للسلطة تمتلك جميع مقومات القدرة على مواكبة القفزات الإدارية المستحدثة في عالم السلطة.
ومن الأمور البديهية المنصوص عليها في إدارة السلطة، سقف الصلاحيات ونوعها، ولاشك أن إدارة مؤسسة أو معمل او مدرسة او دائرة أو دولة، تعني منح من يقوم بادارتها سلطة واضحة، وفيما يتعلق بادارة الدولة، فإن ذلك يتبع الصلاحيات والصيغة الدستورية للدولة، وطبيعة النظام السياسي الذي يحكمها، ولذلم ترتبط الادارة عموما بالسلطة، فالمدير أيا كانت الدائرة أو المؤسسة التي يديرها، لابد أن يتمتع بدرجة من الصلاحيات المقنّنة لإدارة مؤسسته ما ومنتسبيها لكي ينجح في مهامه، إلا أن الامر قد يخرج خارج حدود السلطة الممنوحة للمسؤول حين يتحول الى مستبد ومستغل وأناني، وهنا تبدأ المعاناة مع الادارة الفاشلة كما حدث ويحدث مع معظم الدول التي عانت ولازالت تعاني، من أنظمة قهرية مستبدة.
يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم، الموسوم بـ (نحو ادارة ناجحة):
إنّ (الإدارة هي فن ممارسة سلطة الإنسان على أفراد جنسه أو على الطبيعة، ولكن هذه السلطة تختلف من شخص إلى آخر، فبعضهم يستحقها والبعض الآخر يتقمّصها، وعند البعض تكون الإدارة هي السلطة المطلقة).
الإدارة فن التحكم بالسلطة
وكما هو الحال مع جميع الأنشطة الإدارية أو السياسية وغيرها، حيث تخضع لمعايير النجاح والفشل، فإن الإدارة تخضع أيضا لقضية النجاح والفشل، بل قد تتحدد قيمة الإدارة استنادا إلى معياريّ النجاح والفشل.
إي يؤكد الإمام الشيرازي على أنّ: (الإدارة تنقسم إلى قسمين: إدارة ناجحة، وإدارة فاشلة، ولكل منهما أسباب، فالإدارة الناجحة لا تكون إلا بمقوماتها، من شروط ومقتضيات إلى غير ذلك مما هو مذكور في محله، ومن أهم مقومات الإدارة الناجحة: هي المداراة).
في العراق كما تُظهر التجارب، أن الساسة والقادة منهم على وجه الخصوص يفتقرون للمراس والخبرة في إدارة السلطة، فالمعروف أن جميع الأنشطة البشرية تتطلب المساعدة والدربة والمعرفة أولا، وهكذا هي الحال مع فن الإدارة الذي سبق أن قال عنها الإمام الشيرازي بأن (الإدارة فن التحكم بالسلطة)، وليس تحكم السلطة بالإنسان، حيث يتحول الحاكم إلى دمية لا حول لها ولا قوة بيد السلطة، بدلا من أن تكون السلطة تحت سيطرة الحاكم، لذلك من أهم ما تميزت به تجربة الرسول الأعظم - صلى الله عليه وآله وسلم- مع السلطة إبان قيادته لأعظم دولة في العالم آنذاك، انه كان يجيّر السلطة لصالح الناس، وانه كان يدير السلطة وفق إدارة ناجحة تخدم المسلمين، وعموم مواطني الدولة حتى الذين ينتمون إلى أديان أخرى كالنصارى واليهود، حيث كان الجميع سواسية كأسنان المشط، وذلك من خلال مبدأ المداراة الذي يعد المنهج الأساس الذي يتعامل به المسؤولون مع المواطنين.
يقول الإمام الشيرازي:
(إن من أهم ما يلزم الاهتمام به من قبل جميع المسؤولين: المداراة، التي هي من حُسن الإدارة، وكذلك معرفة الأسس التي سار عليها الرسول الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم- وأهل بيته الطاهرون - عليهم السلام- في إدارة شؤون المجتمع والتعامل مع الناس مما يُعبّر عنه بفن التعايش).
فالتعايش يمكن أن يتطور وينمو بحسب أسلوب إدارة السلطة، والأخيرة هي التي تصنع الأجواء اللازمة لترسيخ وإدامة السلم الأهلي والتعايش، لكن نلاحظ هناك خلل، في كيفية الاستفادة من تجربة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم-، ويتضح هذا من قلة المؤلفات والكتب التي تناولت هذا الجانب، حيث لم يُكتب العدد والكم الذي يتناسب مع حكمة التجربة السياسية الإدارية، ولا مع الأعداد الكبيرة للمسلمين وحاجتهم للإطلاع على فن إدارة السلطة خصوصا الطبقة السياسية التي قد تجهل طرائق إدارة السلطة بتفوق وإتقان ونجاح، وقد تجهل أيضا كيفية تعامل الرسول الأعظم مع هذا الجانب الجوهري لبناء الدولة إبان تلك المرحلة البالغة الأهمية من تاريخ المسلمين.
المسؤول و وهم السلطات المطلقة
هنا يؤشر الإمام الشيرازي هذا الإخفاق فيقول:
(على الرغم من الجهود العظيمة التي بذلها الرسول الأعظم - صلى الله عليه وآله وسلم- وضرورة معرفتها بشكل تحليلي متكامل، علماً أن هذا العمل صعب للغاية، إلا أنه لو تحقق ذلك لكان عملاً كبيراً نافعاً جداً، للتأسي به، لكننا لم نشاهد كتباً وبحوثاً قد تناولت سيرة وحياة الرسول - صلى الله عليه وآله- بالشكل الكافي).
والمشكلة في المسؤول أو الذي يحصل على السلطة أنه يتوهم بالسلطة المطلقة، فيتصرف كما يحلو له من دون سقف محدد، وهنا تحصل حالة إساءة استخدام السلطة، هنا يؤكد الامام الشيرازي، أن لا سلطة مطلقة للانسان العادي، فالسلطة المطلقة من اختصاص الحكم الالهي ومن يخوله في في ذلك، أما اذا حدث العكس فإن الخلل والفشل في ادارة السلطة سيبدو واضحا، وسوف ينعكس فورا على الدولة والفشل في بنائها، لذلك لابد لمن يدعي انتسابه للاسلام من الحكام والانظمة ان يلتزموا بهذا الجانب، بالإضافة إلى اهمية حضور الادارة المعارضة للحد من اخطاء استخدام السلطة وادارتها بطرق فاشلة، والمقصود هنا المعارضة المعاصرة التي نلاحظ وجودها حاليا في الأنظمة والحكومات الناجحة.
يقول الامام الشيرازي عن ذلك:
(إن الإسلام لا يرى هذه الإدارة المطلقة عند الإنسان العادي، بل الإدارة المطلقة والولاية المطلقة تكون من خصائص الباري عزوجل وهو عادل لايظلم أحداً، وكذلك من خوّله الله تعالى لها، وهو النبي الأعظم - صلى الله عليه وآله وسلم- والإمام المعصوم - عليه السلام-، أما الإنسان العادي فلا يحق أن يقوم بهذه السلطة المطلقة). لذلك إذا تحول الحاكم (وهو انسان عادي) الى سلطان مطلق الصلاحيات، عند ذاك لابد للصوت المعارض من الظهور بقوة، ومطلوب منه التأثير الجاد والاشتراك الفعلي في بناء الدولة الحديثة من خلال رفض السلطة المطلقة، ويجب على السلطة نفسها (الحاكم والحكومة) أن تمنح الفرص المواتية للمعارضين، لكي تتوازن ادارة السلطة، ولكي يتطور الفعل المعارض ويسهم في بناء أسس الدولة عن طريق نظام سياسي يعتمد المنهج التعددي.
ولنا في تعامل الإمام علي - عليه السلام- درسا بليغا في هذا المجال، كما نلاحظ في قول الإمام الشيرازي: (للإمام أمير المؤمنين -عليه السلام- مناظرات عديدة مع الخوارج، وهي تبين بدورها أسلوب التعامل مع المعارضة وفن إدارة المعارضين الداخليين، وبعض هذه المناظرات والبحوث والنقاشات كان يطول أكثر من ثمان ساعات أحياناً، ولكنه لم يصلنا منها إلا الشيء القليل).