إلى أين يمضي عالمنا المجنون؟
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2018-08-27 07:04
يوم بعد آخر يزداد عالمنا احتقانا وتطرفا، ويغدو مكانا غير آمن للعيش بسلام، وتنعدم فيه الأسس التي تعدل بين بني البشر، وتسوده قيم وسلوكيات تبتعد كل البعد عن الفطرة الخالصة التي جُبِل بها الإنسان، حتى يبدو العالم وكأنه مصاب بالجنون!، وبات من غير الممكن أن يحقق فيه الإنسان أحلامه بل أدنى الأحلام التي تتعلق بالأمن والسلام باتت غير ممكنة وهذا ما يدعو إلى الغرابة والأسف حقاً.
فقد ذهبت الأفكار الإنسانية العظيمة أدراج الرياح، ولم تستطع حتى الأديان أن تعيد سكان العالم إلى رشدهم، فالجميع (ونعني هنا الطبقة القيادية السلطوية/ الساسة والحكومات، وشركات المال والاقتصاد العالمية) يتسابقون إلى أهدافهم بشتى الأساليب الماكرة والمخادعة لاكتناز أكثر وأكبر ما يمكن من الثروات والأموال، بالطرق التي لا تمت بصلة للإنسانية أو العدالة أو الأخلاق، لذلك تحوَّل عالمنا الذي يبدو في خارجه (عالم عقلاء) إلى عالم مجانين.
وهذا ما تنبّه له الإمام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، الذي أعلن في كتابه القيّم الموسوم بـ (الصياغة الجديدة)، بأن عالمنا هذا هو عالم مجانين وليس عالم عقلاء، وقد تساءل في كتابه قائلا:
(هل العالم في عصرنا هذا عالم عقلاء أم عالم مجانين؟ ولعلّ هذا السؤال يثير الاستغراب، إذ من الواضح أن العالم عالم العقلاء، وان المجانين هم أفراد قلائل يعيشون في دور المجانين ومستشفيات الأعصاب، لكن هذا هو السطح الظاهر من الأمر، ولعل التعمّق في الأمر يفيد غير ذلك).
وقد أسند الإمام الشيرازي آرائه هذه بأدلّة استقاها مما يحدث في عالمنا، حيث أدّت الصراعات السياسية بين القوى والأقطاب والقيادات العالمية إلى خلق نوع من المتضادات الصارخة بين ما هو معلَن وبين ما هو مضمَر من مآرب وأهداف، فالطبقة العالمية الحاكم تعلن أن عالمنا هذا عالم عقلاء، لكنها في نفس الوقت تجرّ البشرية إلى تناقضات هائلة في السلوك والأخلاقيات، ما أدى إلى خسائر جمة جعلت من المعمورة لا تُطاق، وباتت بؤرة للاحتراب والاقتتال، وتحجّمت فيها القيم الإنسانية العظيمة التي غرستها الأديان والفلسفات العظيمة، لكنها لم تجدِ أي نفع مع حمَلَة العقول المريضة والنفوس المجبولة بالجشع والخداع.
لذا يكرر الإمام الشيرازي تساؤلاته ويقول:
(إذا كان العالم عالم العقلاء، فلماذا قُتِل الملايين خلال نصف قرن في حربين عالميتين (الأولى و الثانية)، تركت العالم شظايا ورماداً ودماء ودموعاً وأشلاء ومعوقين وما إلى ذلك).
احتكار ثروات العالم لدى أفراد!
ومن مظاهر الجنون التي تثبت بأن عالمنا اليوم لا علاقة له بموازين العقل أو الأخلاق القويمة، ذلك التمايز الغريب بين بني البشرية، ففي الوقت الذي يسيطر فيه قلّة قليلة ونسبة طفيفة من البشرية على كنوز وثروات العالم أجمع، مقابل ذلك هناك مئات الملايين من البشر تهددهم المجاعات والأمراض والفقر والتخلف نتيجة للسياسات العالمية القائمة على التضليل والخداع وحروب الدمار العسكري والاقتصادي في شتى بقاع العالم.
ومن المفارقات الغريبة حقا أن يُسمح للأفراد والشركات المرتبطة بالرأسمالية أن تسيطر على ثروات العالم، وتتحكم بمصير البشرية كلها، بسبب فقدان القيم والتشريعات الحقوقية التي لا يمكنها وضع حد لهذا التمايز القاتل بين بني الأرض، فحتى المنظمات الأممية التي يعوَّل عليها بإحقاق الحق وضمان حماية ثروات الأرض وتوزيعها بشكل عادل عجزت عن القيام بمهمتها هذه، حيث باتت مراكز القوى العالمية تتحكم بها وتصوغ قراراتها كما تشتهي لكي تصب في صالحها!، في الوقت نفسه تواصل المجاعات حصد أرواح الأطفال الفقراء وتبذر الفقر والجهل والمرض في قارات بأكملها.
وهذا ما يدعو الإمام الشيرازي إلى التساؤل من جديد:
(لماذا تتكدّس مليارات الدولارات لدى بعض الأفراد، بينما ملايين الأطفال يموتون جوعاً وهل هذا من التعقّل؟)
ولم ينتهِ الأمر عند هذا الحد من التناقضات العجيبة!، فهناك جنون بيّن يصيب العالم اليوم، وهو ما يُستدَل عليه من سلوكيات وقرارات مراكز القوى العالمية في السياسة والاقتصاد على حد سواء، ففي الوقت الذي يجتهد العالم في بناء المستشفيات وترصد الحكومات العالمية مليارات الدولارات للبحوث الطبية والعلمية بشكل عام، وتبني المستشفيات التي تعالج الأوبئة والأمراض وتخلّص المرضى من أوجاعهم، ويتم إعداد الأطباء المتميزين للتصدي لمثل هذه الأمراض، في نفس الوقت تلك القوى نفسها تقوم بالتسابق على صنع وتهيئة وسائل التدمير الجماعي لقتل أكبر عدد ممكن من البشر، فأين العقل من هذا التناقض البشع؟؟.
لذا يقول الإمام الشيرازي في كتابه (الصياغة الجديدة):
(إذاً، ليس الجنون خاصاً بمن يقفز في الشارع، ويتسلّق الجدران ويشقّ ملابسه ويلوّث بدنه، إن المجنون أيضاً هو من يضرّ نفسه والآخرين. وإذا كان العالم عالم عقلاء لماذا نبني المستشفيات للعناية بالصحة، ونربّي الأطباء الحاذقين، ثم نهيئ وسائل التدمير الجماعية التي تخلّف ملايين الجرحى والمصابين والمعتوهين؟ هل هذا عمل العقلاء؟!)
الحل بالعودة إلى فطرة الإنسان
ومما يؤسَف له اليوم، حالة الاحتراب العالمي، حيث يحترق العالم في حروب لا نهاية لها، بأنواع لا حصر لها، مدعومة بجنون التسابق نحو التسلح، الذي انتقل من صناعة الأسلحة التقليدية إلى أنواع أخطر وأعظم فتكا وتدميرا حيث الترسانات النووية والهيدروجينية والكيميائية وسواها، ما يثبت أننا فعلا نعيش في عالم (مجانين) وليس عقلاء كما وصفه الإمام الشيرازي.
ومع هذا التسابق الخطير نحو التسلح، وفي خطوات جديدة في عالم الحرب، أعلنت أمريكا بتشكيل (جيشها الفضائي) الخاص بالحرب الفضائية، في تطور جديد لأنواع أخرى من الحروب!، وفوق هذا وذاك أساليب الخداع والتضليل والغش والاحتكار الذي يغص به العالم وهو ما يدور بين القوى المتصارعة التي غالبا ما يكون ضحاياها أفراد ومجتمعات ودول لا ناقة لها ولا جمل فيما يحصل من سباق للتسلح على المستوى العالمي.
يقول الإمام الشيرازي في هذا الجانب:
إن (المجتمع العالمي الذي نعيش فيه يمرّ الآن بحالة احتراق، فهناك حروب، وثورات، هناك جنون سباق التسلّح، وهناك اللف والدوران والمكر والخداع والغش والاحتكار، والرأسمالية المنحرفة).
ولم يفتْ الإمام الشيرازي أن يطرح بعض الحلول في هذا المجال، بعد أن عرض في كتابه هذا، المشهد المتوتر والمحتقن للعالم، واللهاث المحموم نحو اكتناز واحتكار ثروات الأرض وتكديسها لدى شركات لأفراد معدودة، فيما يتضور العالم فقرا وجوعا، وهذه الحلول ليست عصيّة على التنفيذ، ولا تنطوي على أي تعقيد، إنها تتمثل بدعوة الإمام الشيرازي للإنسان (القطب الذي يحتكر المال العالمي وثروات المعمورة)، بالعودة إلى (الفطرة البشرية) التي جبل بها الله الإنسان، حيث يعود الإنسان إلى أصالته، نظيفا خاليا من أمراض الجشع والاقتتال والخداع والتضليل، بمجرد عودته إلى فطرته، فهي مكمن الخلاص من مصير قاتل وحتف أكيد يمضي به عالمنا اليوم إلى حتفه بقيادة عقلاء الظاهر مجانين الباطن، وهم قادة العالم (أقطاب القوى العالمية) المهووسون بالمال والحرب والخداع والتضليل وكل الأساليب التي لا علاقة لها بالفطرة من بعيد أو قريب.
لذا ينصح الإمام الشيرازي في كتابه هؤلاء المتسلطين على المعمورة، ويدلّهم بالطريق الذي يقودهم إلى عالم أكثر أمنا وسلاما، فيقول الإمام مخاطبا إياهم:
(من الضروري على الإنسان أن يلاحظ فطرته القويمة الخالية عن الأهواء الداخلية والمضللات الخارجية، فإذا نمت تلك الفطرة نمواً طبيعياً كان الإنسان سليماً وكان المجتمع كلّه سليماً).