الديكتاتورية عدو التغيير

مقتطف من كتاب ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين

المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي

2018-02-24 06:00

كيف يأتي الدكتاتور إلى الحكم، وما هي مقومات بقائه؟ ولماذا يسقط؟ وكيف يبنى الحكم بعد سقوط الدكتاتور؟

إذا عرفنا الجواب عن هذه الأسئلة الأربعة نعرف كيف نهيّئ للمسلمين حكماً إسلامياً زاهراً خالياً عن الدكتاتورية، مطبقاً لأحكام الإسلام التقدمية، فإنه بمجرد أن تطهر أجواء بلاد الإسلام عن الدكتاتورية تسير الأمة إلى الأمام لبناء حضارة إسلامية صحيحة تنقل المسلمين من الحضيض الذي وصلوا إليه الآن إلى الأوج الذي أراده الإسلام، لا للمسلمين فحسب بل لكافة البشرية، فإن إنقاذ المستضعفين أيضاً مهمة إسلامية كما قال سبحانه: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين)(1).

الجهل ركيزة الحكومات الدكتاتورية

إن الاستبداد إنما ينمو ويترعرع ويعيش ويقفز على الحكم ويبقى بسبب جهل الناس ولذا يصر الإستبداد دائماً على سياسة التجهيل، ويغلق نوافذ المعرفة على الناس بألف وسيلة ووسيلة، أما الحكومات الأموية والعباسية والعثمانية فلم تكن كل واحدة منها حكومة واحدة ممتدة، بل كان يذهب الاستبداد المحض بموت ملك ويأتي من هو أقل منه استبداداً فيتنفس الناس، كما يحدثنا بذلك التاريخ بالإضافة إلى أن فترات الحكم العباسي تراوحت بين انفراج كثير في أوله، ثم تبدلت العهود، وحكم الفرس والترك وغيرهما.

أما بالنسبة إلى العصر الحاضر فالرأسمالية التي هي أقل مأساة من الشيوعية أقوى وأكثر دواماً منها، فبالإضافة إلى بعض الحريات التي فيها، يتبدل الحزب الحاكم بين فترة وأخرى، وهل من الممكن أن يتصور إنسان يُحكّم عقله ورويته إن نظام لينين وماو وهتلر وموسيليني وأمثالهم كان يتمتع بشيء من البصيرة والواقعية، حتى تمكن من الاستيلاء على الحكم أو كانت الأحزاب الشيوعية في هذه البلاد أكثرها عنفاً وفتكاً، فبينما كان العقلاء لا يريدون سفك الدماء وعلاج الفاسد بالأفسد كان هؤلاء لا يتورعون من أية جريمة في سبيل الوصول إلى الحكم.

وقد قال (هارولد لاسكي) في كتابه (تأملات في ثورات العصر): (وليس هناك من أدرك ضخامة حماقتها وأخطائها، بل وجرائمها مثل لينين مهندسها الأول) (قال ذلك بالنسبة إلى الاتحاد السوفياتي) ولو مدحنا كل من وصل إلى الحكم وخطّأنا كل من لم يصل لكان هتلر وموسيليني ونيرون وستالين والحجاج ويزيد وفرعون وهارون ومأمون ونمرود على رأس قائمة الممدوحين.

الدكتاتورية.. هي سبب تأخر المسلمين

إن نظام التعليم المنحرف والحدود الجغرافية وكبت الحريات بتضخم جهاز الدولة وغير ذلك، كلها تساهم في تأخر المسلمين وجعلهم في ذيل القافلة لكن الظاهر أن المشكلة كامنة في دكتاتورية الحكم بتمركز القدرة في أيدي جماعة قليلة تنتهي بالآخرة إلى فرد واحد، فإن من طبيعة القدرة المتمركزة كبت القابليات وإبادة الكفاءات ومنع الناس من أن يفكروا أو يقولوا - فإن وضع الجو إذا صار جواً دكتاتورياً مات فيه الفكر أيضاً - وفي مقابل ذلك يلف الدكتاتور حول نفسه جماعة من الامّعات الذين لا يهمهم إلا البطن والشهوات.

فإذا تمكن المسلمون من توزيع القدرة لا بد وأن يظهر الإسلام الذي فيه حل كل المشاكل الاقتصادية والسياسية والتربوية والاجتماعية وغيرها.

إنه لا شك في أن الإسلام كمجموعة أحكام معروف لدى الفقهاء المجتهدين الذين بذلوا وسعهم لاستنباطها، أما الموضوعات فهي بحاجة إلى الخبرات الواسعة الزمنية من سياسية واقتصادية وغيرهما، ولذا اشتهر بين الفقهاء أن الموضوع يؤخذ من العرف وإنما الحكم يؤخذ من الشرع، وحيث أن الكفاءة في الأحكام وفي الموضوعات متوفرة في المجتمع على نحو القوة وإنما الذي يحول دون ظهورها على نحو الفعلية هو دكتاتورية الحكام، فإذا تمكن المسلمون من إزالة هذه الدكتاتورية - التي تظهر تارة بالمظهر الملكي، وأخرى بالمظهر الجمهوري، وثالثة بالمظهر العلماني، والرابعة بالمظهر الديني، وإلى غير ذلك - نمت القابليات في الأحكام وفي الموضوعات، وهناك يكون البدء بالتقدم.

مقومات بقاء الدكتاتور

إن العلة المبقية هي العلة المحدثة، فما دام الجهل مسيطراً على المجتمعات الإسلامية يبقى الدكتاتور، وإذا سقط الدكتاتور تسلم دكتاتور آخر مكانه، ولا تهم بعد ذلك الألفاظ من الملكية والجمهورية والدينية والعلمانية وغيرها، وإنما الجوهر هو الدكتاتورية، ولهذا نشاهد - في البلاد الإسلامية - أنه لا فرق في الجوهر بين كل الأشكال المتواجدة في مختلف الأقطار.

إن السبب الذي يأتي بالدكتاتور إلى الحكم ثم يبقيه - ما بقي ذلك السبب - هو جهل الجماهير وتطبعها بنزعة منحرفة تجعل من عبادة الفرد والتسليم له مذهباً دينياً وتريهم أن كل ميل إلى الحاكم يكون كالميل إلى الدين.

وقد رأينا كيف أن عبد الناصر كان يقدس تقديساً غريباً وكانوا يقولون له: (لبيك) كما يقال لله سبحانه وتعالى لبيك عند الحج، ورأينا كيف أن عبد الكريم قاسم كان في نظرهم مختاراً من قبل العناية الإلهية، حتى قال أحد الشعراء في حقه: (الله أرسله لينقذ أمة).

فهو إذاً مرسل من قبل الله سبحانه وتعالى، ولا يعجز عن شيء، ولا يخضع للقوانين التي يخضع لها البشر، بل هو يتلقى وحياً خاصاً من السماء لا بسبب جبرائيل وإنما بسبب الإلهام إلى قلبه وكان بعضهم يقول: (يلهم إلى قلبه) وهل هو أقل من النحل الذي قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم: (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون)(2) أو هو أقل من أم موسى حيث قال سبحانه: (وأوحينا إلى أم موسى)(3)؟! فهو محاط بالعناية الإلهية وهو الزعيم الأوحد كما كانوا يعبرون بذلك عن عبد الكريم قاسم وهو فوق الجميع وعبد الكريم قاسم كان بنفسه يقول: (أنا فوق الميول والاتجاهات).

وهكذا الحال بالنسبة إلى شاه إيران وعبد السلام عارف وغيرهم من الدكتاتوريين الذين كانوا لا يرضون إلا بأن يعاملوا معاملة الإله، وكان أتباعهم يمجدونهم بهذا التمجيد، وقد سمعت أحد الإمّعات، يقول لرئيسه: (إنه رسول هذا الزمان) وتدريجياً يغترّ الزعماء بما يسمعونه من زبانيتهم، ولهذا تراهم يعبرون - هم - عن أنفسهم بأنهم رسل عقيدة وأنه لا تحيط بقدرتهم قوة البشر، ويصفون أنفسهم كما يصفهم أتباعهم أيضاً، بأنهم جاءوا وأصلحوا بما لم يكن له مثيل في سالف الزمان حتى إلى عشرات القرون.

وحيث أنهم يحاطون بغموض إلهي غيبي خارج عن قدرة البشر فهم لا يخضعون لفحص العمليات العقلية العادية، كما أنه ليس من المناسب أن يخضعوا للإجراءات الاستشارية، فإذا أراد إنسان أن يفعل الصواب كان عليه أن يطيعهم طاعة عمياء، وإذا أراد أن يفعل الخطأ فهو أن يشك في حكمة الرئيس الأوحد أو ممثله، وأحكام الممثلية تجري حتى بالنسبة إلى الشرطي العادي الذي يمشي في الشارع، فهو ممثل الزعيم الأوحد وقد قال أحدهم: (حكمي حكم الرئيس وحكم الرئيس هو حكم الله).

إبادة المعارضة

وحيث أن الزعيم صار كالإله فلا بد وأن تكون عقوبة المخالف له أيضاً عقوبة من مس كرامة الإله لا عقوبة عادية، فإذا أهان إنسان الزعيم في وقت ما ولو عند كونه إنساناً عادياً يكون جزاؤه الإبادة الكاملة لنفسه وعائلته ومصادرة ممتلكاته، كما رأينا ذلك بالنسبة إلى (أحمد حسن البكر) حيث أن مدير الأمن كان قد صفعه لمخالفة قام بها وهو إذ ذاك إنسان عادي فلما وصل إلى الحكم أمر بإعدامه ومصادرة جميع أمواله وسجن ذويه.

الحرب أداة الدكتاتور

وإذا اتفق أن اشتغل الدكتاتور بحرب كما اشتغل عبد الكريم قاسم بحرب الشمال، وعبد الناصر بحرب اليمن، فإن القداسة ترتفع إلى الألوهية الكاملة، فكل كلام حتى ضد أصغر موظف في الدولة يعد خيانة للوطن، وجزائها الإعدام والسجن، وإذا أراد إنسان أن يتكلم بكلمة يقال له: هل تهدر دماء الذين قتلوا في المعركة؟

فكلمة الإصلاح والهداية والتوجيه والإرشاد وما أشبه تصبح كلها مرادفة لهدر دماء المقتولين والتعاون مع الاستعمار إلى غير ذلك من العبارات المشابهة التي يتلقاها المصلحون في الشرق الأوسط.

طبيعة الجهاز الدكتاتوري

وفي هذا الصدد يقول أحد السياسيين: إن الحقيقة التي يجب أن يتذكرها الإنسان دائماً هي أن الجهاز الذي يستغله الخارجون عن القانون في السيطرة مكون على هيئة نمطهم الأخلاقي، وهو يتيح قوة للآلاف ممن لا عهد لهم بالمسؤولية، وهو يبرر لهم استعمال الإرهاب، والعنف بوصفهما أسلوباً للسيطرة على حياة المواطنين العاديين، ويضفي إستعمال القوة بدون أي قانون على أولئك الذين عهد إليهم بها إحساســاً بآفاق لا حدود لها في متناول أيديهم، فهو يرضي خيلاءه بأنواع التبرير العقلي والمصلحة الشخصية على أنها الواجب ويحررهم من الاعتماد على القيم، وذلك عن طريق مقارنة هذه القيم بما لاقاه الشعب في الماضي من فشل وعن طريق إثبات أنها قيم غير مجزية، والناس يتعودون على الجو الذي يعملون فيه، فهنالك آلاف مؤلفة من الأعضاء الشبان في الحركات الانقلابية، لا يعرفون شيئاً مطلقاً عن أساليب الاقناع العقلي بوصفها وسيلة للحكم وإنما وسيلتهم الوحيدة السلاح، وقد علّموهم بأن لهم الحق فيما يستطيعون الحصول عليه، والشهادة الوحيدة التي يعرفونها بشرعية عملهم هي أن يكون العمل ناجحاً، والنجاح في ميزانهم غير النجاح في ميزان العقلاء، وهم يدربون على اعتبار العنف رجولة، والازدراء بالناس كرامة، ومن ثم يفترض أن الشك والمناقشة في أي شيء صادر من القمة - الزعيم الأوحد - هي من علامات الضعف والانحراف، وكذلك يعلمهم من فوقهم أن الدنيا أمامهم ليأخذوها وأن لا حدود لحقهم إلا مقدار قوتهم، وكلما زاد تكريسهم أنفسهم لهذا المذهب الشاذ الذي يلقى إليهم من فوق زاد أملهم في تحقيق طموحهم، ولما كانوا يعيشون في سيل لا ينقطع من غرس الأفكار التي تصر على أن أي نقد يوجه إلى الزعيم أو طريقته عداء للدولة يكونون هم أيضاً أسوداً على الناس، والمبرر الوحيد الذي يبرر كل ذلك في نظرهم أن الزعيم الأوحد هو الذي انتصر وأنه وصل إلى الحكم إما بانقلاب عسكري أو بانقلاب شعبي انتهزه الزعيم الأوحد حتى سيطر على الحكم وحرف الثورة عن مجراها الواقعي إلى عبادته الشخصية.

وعلى أي حال فلا دكتاتورية في الإسلام لا من حيث المرجعية، ولا من حيث الحزبية، بل الإسلام دين الحريات والعدالة الاجتماعية وعليه فإذا رأينا حكومة تحكم باسم الإسلام وفيها شيء من الدكتاتورية، فاللازم أن نعلم أن الإسلام لا يقرر مثل هذه الحكومة.

لا يقال: الحاكم الإسلامي الدكتاتور يقول: أنا استشاري، ولست بدكتاتور؟

لأنه يقال: إذا صدق أنه ليس بدكتاتور، فليفسح المجال للبحث الحرّ من المعارضة في مختلف وسائل الإعلام، فهل هو أفضل من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) وحيث كان المسلمون وغير المسلمين، يفتحون معهم المناقشات الحرة بمسمع من الناس وبمنظر منهم؟

كما يدل على ذلك (كتاب احتجاج البحار، واحتجاج الطبرسي) وغيرهما، أما أن يبتعد الحاكم عن الناس، ويقتنع بحضور الناس عنده للمباركية بدون المناقشة معه، ويحرك عماله لتنفيذ أوامره ويفتح باب السجون وينصب المشانق، ويرسل الجلاوزة لمصادرة الأموال، وتكيل وسائل أعلامه وعملائه التهم لكل من يريد قولاً معارضاً فإن ذلك من لوازم الدكتاتورية.

وعلى الأمة أن تعي حتى لا تستغل باسم الديمقراطية، أو الانقلاب على الفساد، أو الاستشارية، أو الإسلام، أو ما أشبه ذلك.

وإذا تسلط الدكتاتور على الأمة بألف اسم، وتحت ألف ستار، فاللازم على المصلحين أن يتمسكوا لإزالة الكابوس، بالقوة الشعبية، فإن هناك قوتين لا ثالث لهما، قوة السلاح حيث تقع يد الحكومة، وقوة الشعب التي تتمكن أن تقاوم قوة السلاح، فإذا تمكن المصلحون أن يتمسكوا بهذه القوة بتعقل وروية أزالوا تلك القوة، فإنها القوة الفائقة التي تتمكن أن تسحب قوة السلاح عن الباطل إلى الحق.

والطريق الطبيعي لسحب القوة عن يد الحكومة الدكتاتورية، توعية الشعب بملايين الكتب، ثم تكتيل الشعب تحت ألوية النهضة والثورة، والتحرك لأجل إزعاج الدكتاتور بالإضرابات والمظاهرات، وكلما توسعت هذه القوة، تقلصت قوة السلاح، إلى أن تسقط قوة السلاح عن يد الدكتاتور.

ومن المهم جداً تحييد السلاح أولاً، حتى لا يدخل الميدان لصالح الدكتاتور، وغالباً يمكن تحييد السلاح بعدم أخذ الشعب في إضراباته، ومظاهراته السلاح، بل تكون حركته سلمية، تتجنب العنف والشدة، كما ذكرناه في بعض المباحث.

كيف يسقط الدكتاتور ولماذا؟

فالجواب إن الحكم الدكتاتوري لا يمكن أن يبقى، لأنه مبني على الإرهاب، والإرهاب لا يمكن أن يدوم، وقد قال الحكماء قديماً: (القسر لا يدوم) والإرهاب ملازم للقسر لأن الإنسان يتطلب السلم والأمان، والإرهاب خلاف السلم والأمان، ولذا تنبأ العقلاء في الخمسينات وقبلها بسقوط الشيوعية وهاهي قد سقطت في أرجاء من العالم من ناحية، وهي تترنح للسقوط في الاتحاد السوفيتي، كما أن العقلاء - حتى من نفس اليهود - تنبأوا بسقوط دولة إسرائيل المغتصبة لأنها بنيت على غير السلام وهاهي بوادر السقوط تظهر للعيان وفي المثل: (إن السياسي يتمكن أن يخدع بعض الناس في بعض الوقت لكنه لا يتمكن خداع كلهم في كل الوقت - بل حتى في بعض الوقت -).

ماذا بعد سقوط الدكتاتور؟

إن من يخلف الدكتاتور هو دكتاتور آخر، إذا بقيت الجماهير في جهلها وعدم مبالاتها، أما إذا تحول جهل الجماهير إلى العلم وعرفوا من أين أتت المشكلة وكيف يمكن علاجها؟ فإنهم لا يدعون دكتاتوراً آخر يأتي مكان الدكتاتور السابق.

ومن هنا فإذا اهتم الناس في بلد دكتاتوري لإسقاط الدكتاتور بدون أن يكون لهم منهج للحكم القائم مقامه أو كان لهم منهج لكن المنهج لم يكن واضحاً في بنوده وخصوصياته فإنهم يقعون مرة ثانية وثالثة ورابعة فريسة لدكتاتور جديد.

ولذا نجد أن مصر والعراق وغيرهما وقعت ضحية دكتاتور جديد بعدما أسقط الشعب الدكتاتور السابق، فمصر ناصر تحولت إلى مصر السادات، وعراق الملكيين تحول إلى عراق الجمهوريين.

وعلى هذا فعلى ممارسي التغيير أن يهتموا لشيئين: إسقاط حكم الدكتاتور وتبديله إلى حكم صحيح واضح المعالم.

فضح الدكتاتور

ومما ذكرناه يظهر أن أية محاولة إصلاحية تريد إزاحة الدكتاتور عن الحكم، يجب - لكي تنجح - أن تكون أكثر قوة نفسية ويقظة ونشاطاً حتى يكون في وسعها أن تفضح أساطير الدكتاتوريين وأجهزتهم وأن تلقي عليها ظلالاً من الشك والترديد، وأن يكون في وسعها أن تثبت ضعف الدكتاتورية لكي تقنع حتى أولئك الذين يقفون منها موقف الإذعان السلبي ويسمحون لها بفرض نفسها عليهم وتقنعهم بأن سلطتها في طريقها إلى الانهيار.

وقد قال أحد المعارضين لأحد الحكام بعد أن سقط: لقد كنت أحرّض عليه حتى الراعي في الصحراء فإذا رأيته قلت له: كيف خليفتك؟

فإذا قال: نِعمَ الخليفة، أو قال: لا أدري، كنت أذكر له مظالم الخليفة ومظالم حاشيته حتى أجعله ضده... فإن من القطرات تجتمع البحار ومن ذرات الرمال تجتمع التلال ومن الخلايا الصغيرة الحية التي لو اجتمع الآلاف منها على رأس إبرة كان أوسع من كل تلك الخلايا يتكون بدن الإنسان والحيوان والشجر.

المساواة الشاملة

وعلى أي حال فإذا أردنا عدم تكون الدكتاتورية في رحم الزمان - لكي لا تصل إلى الحكم في يوم ما - يجب تقرير المساواة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها بين الأمة، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (الناس سواسية كأسنان المشط...)(4) وقد أشرنا إلى ذلك سابقاً، فإن كل تمييز في الاجتماع أو الاقتصاد أو السياسة وغيرها ينتهي إلى التضارب والتحارب الذي يؤول بدوره إلى الدكتاتورية.

ومن الواضح أنه ليس معنى المساواة الاقتصادية تصحيح الاشتراكية أو الرأسمالية فإن الاشتراكية تنشأ من التخطيط الواسع من قبل الدولة والتخطيط الواسع يقضي على الحرية، والرأسمالية كذلك تنشأ من التخطيط الضيق والتخطيط الضيق ينتهي إلى القضاء على الحرية، فإن التخطيط إذا كان أزيد من الحق أو أقل منه كان على خلاف الحرية، إن التخطيط لازم لكن بقدر دون إفراط ولا تفريط ولذا نشاهد في القرآن الحكيم والسنة المطهرة الإلماع إلى ذلك، فقد قال سبحانه: (فلكم رؤوس أموالكم)(5) وقال تعالى: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم)(6).

الدستور وحده لا يكفي

وليس المهم وضع الدستور القائل بالتساوي في الأمور المذكورة وإلا فالدستور في كل البلاد الدكتاتورية يقول ذلك، لكن الدستور بالآخرة يكون ألعوبة بيد الدكتاتور فيقول أحدهم أنا فوق القانون، ويقول الآخر لا يقيدني القانون، ويقول الثالث أنا أمشي كما أرى لا كما يراه القانون وقد سمعت كل ذلك من حكام ثلاثة كانوا يحكمون بلاداً في الشرق الأوسط، بل المهم أمران:

التربية السليمة

الأول: تربية الناس تربية نفسية تريهم أن الحق للآخرين كما أن الحق لأنفسهم، وهذا أمر قد يطول زماناً وقد يقصر إلا أنه هو ضمان سلامة المجتمع، ولذا قال الشاعر:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وقبل ذلك قال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)(7).

المؤسسات الحافظة للتوازن

الثاني: وجود المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي تحفظ التوازن، وإلا فإن الناس الذين تربوا بالتربية الأخلاقية كثيراً ما يوجد فيهم الدكتاتور الذي يضرب بكل شيء عرض الحائط.

وما دام لم يعالج الأمر بهذا النحو من المعالجة ستبقى الأمة ترتطم في المشاكل وتزيد مشاكلها يوماً على يوم.

ومن يعمى عن رؤية الواقع، أو يصم عن سماع صوت الحق، أو يبكم عن قول الحق لا يكون مثله إلا كمثل القرود الثلاثة الذين قصد افتراسهم الدب، فوضع أحدهم يده على فمه حتى لا يقول كلمة يثير بها الدب أكثر فأكثر، ووضع الآخر يده على عينه حتى لا ينخلع قلبه من رؤية الدب، ووضع الآخر يده على أذنه حتى لا يسمع صوت الدب، حتى جاء الدب فافترسهم جميعاً بينما إذا صاح الأبكم فلعله كان يجد النجدة بسبب وحوش الغاب، ولو رأى الأعمى فلعله كان يتمكن من الهروب، ولو سمع الأصم فلعله كان يتسلق شجرة فينجو بنفسه عن الافتراس.

أما بالنسبة إلى إفسادها المجتمع فلأن طريق التقدم وصول الكفاءات إلى المراكز العالية، والكفاءات لها آراؤها، والقدرة المتمركزة لا تريد إلا رأي نفسها والتسبيح بحمد صاحبها، ومن الواضح أنهما طرفاً نقيص ولذا تجمع القدرة المتمركزة حول نفسها الإمّعات والمصفقين، وتقضي على العقلاء وأصحاب الكفاءات وبذلك يأخذ الأمر في الانحطاط والسقوط ومن هنا قال علي (عليه السلام) ما مضمونه: (من علائم زوال الحكومات تقديم الأراذل وتأخير الأفاضل)(8).

إن تمركز القدرة سواء كانت باطلة صورة وسيرة، أو كانت القدرة في ظاهرها حق وفي باطنها الباطل، يوجب المآسي.

لا... للدكتاتورية

يجب أن نعرف أنه ليس لممارس التغيير أن يقابل الدكتاتور بالدكتاتورية، فإن الدكتاتورية دكتاتورية سواء كانت دكتاتورية روسيا القيصرية أو روسيا الشيوعية فالنتيجة واحدة حيث أن الناس ليسوا في أمن وسلام، سواء من هذا أو من ذاك، وكذلك الحكام ليسوا في أمن وسلام فإن مطاردة الحكام بعضهم لبعض ومطاردة الحكام للناس ومطاردة الناس للحكام تجري في الدكتاتوريات المتقابلة، وهذا هو السر في أن الأحزاب الإسلامية وغير الإسلامية الذين أخذوا بالزمام في الــشرق الأوسط لم تتمكن من تهيئة الرفاه للناس، لأنهم على الأغلب دكتاتوريون مقابل دكتاتوريين، ومن شأن الديكتاتور أيما كان لونه التضييق على الناس.

أسلوب الاستشارية

إن المجتمع الاستشاري عبارة عن علاقات روحية متبادلة بين أعضاء الحكومة وبين الحكومة والشعب وبين الشعب والحكومة على حسب الواقعية والعقلانية وذلك يتطلب أن تكون المسؤولية الفعالة للحكام تجاه المواطنين مما يمكن دعمها باستمرار دون الالتجاء إلى العنف بأي معنى كان العنف وذلك لا يكون إلا بأن يختار الشعب حكامه بواسطة مؤسسات دستورية بحيث لا يتعرض الناس للتمييز على أساس العنصر أو الجنس أو الثروة أو اللون أو غير ذلك، ويكون الحاكم على تلك المؤسسات نظام يعطي للناس حق التصرف التام الذي يجعل في اختيار الحكام سلمياً ودورياً، ولذا يجب أن يعتمد الاستشاري على سيطرة العقل على أفكار الناس دون سيطرة التمايزات الإقليمية أو اللونية أو اللغوية أو غيرها فإذا أحسن الناس بأن لهم الحق في أن يستفيدوا من مواهبهم وإمكاناتهم حملوا الحكم في قلوبهم فلا تقع المعارضة بين الحكومة وبين الشعب ولا بين الحكام بعضهم مع بعض وإنما تكون الانتخابات الحرة والتقدم والكفاءات هي التي تسيطر على الجميع ومثل هذا البلد يكون مهوى قلوب الأحرار.

المجتمع وحدة متساوية

ثم يجب أن نعلم أنه من المجال أن يبقى المجتمع نصفه حر ونصفه عبداً ونصفه مرتفع ونصفه منخفض، فإن المجتمع مثله مثل الماء تتساوى سطوحه فإذا صببت ماءاً في أواني متعددة مختلفة الأشكال والحجوم متصلة بعضها ببعض، لا يمكن أن يبقى بعض الماء في سطح مرتفع وبعض الماء في سطح منخفض، وكذلك حال الاجتماع فإنه لا يمكن وجود اجتماع متصل بعضه ببعض - كما هو حال الاجتماع دائماً - ويكون نصفه حر ونصفه عبد ونصفه مطلق ونصفه مقيد، فأما أن يطغى المجتمع المقيد على المجتمع المطلق، أو بالعكس، وهكذا في الثروة وغير الثروة، ولذا فمن المحال على الحكام الذين يترفعون عن الآخرين ويحتكرون لأنفسهم امتيازات خاصة، على الشعب التي تختلف فيهم السطوح أن يستمر الأمر كذلك لهم وحيث أن الحكام هم قلة والمجتمع هم الكثرة، فإنه دائماً في أخير المطاف يغلب المجتمع الكثير على المجتمع القليل، أما بالنسبة إلى اختلاف سطوح المجتمع ارتفاعاً وانحطاطاً فإنه يسبب أن تقع الحروب الأهلية بين الجانبين إلا إذا أصلح المصلحون بما يوجب تساوي السطوح بأن يتمكن الكل من العلم ومن المال ومن الحكم ومن المكانة الاجتماعية على حسب الكفاءات وقدم المساواة (باستثناء عدم الكفاءة في بعض لتخلف عقلي أو ما أشبه ذلك)، وحيث نجد اليوم صحوة في العالم الإسلامي واهتماماً بفكرة التغيير وهنا وهناك أحزاب ومنظمات ونشاطات وجمعيات ونحوها. فمن الضروري الآن التركيز على المعاني الواقعية لا المعاني العاطفية التي تسود هذه الجمعيات والمجتمعــات على الأغلب وحيث أن المجتمعات الإسلامية متخلفة في الحال الحاضر غاية التخلف، فاللازم معرفة سمات التخلف حتى نجتنبها ونبدلها إلى سمات المجتمع المتقدم.

تدرّج الديكتاتورية

والإنسان تدريجياً يصير دكتاتوراً، فإن الدكتاتورية وإن كانت مجبولة في نفوس غالب الأفراد، لكن الأكثر إن الإنسان تدريجياً يصبح مستبداً.

ولذا شاهدنا أناساً كانوا استشاريين فلما وصلوا إلى الحكم صاروا دكتاتوريين، ثم تضايقت حلقات الدكتاتورية إلى أن بلغت الأوج، وهكذا حال كل الصفات الرذيلة من التنعم والتلهي والترفه والانغماس في لذائذ الجنس وجمع المال وغير ذلك فإنها تدريجياً تنمو وتتصاعد، فإن الملكات في الإنسان خيرها وشريرهــا كالزرع ينمو تدريجياً حتى يُعطي الثمار البشعة أو الحسنة، ولذا قال سبحانه (مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة) (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة)(9) حيث أن الكلمة طيبة أو خبيثة تنمو تدريجياً حتى تعطي الثمار، فمن اليوم الأول لا يكون الإنسان عادلاً كاملاً أو زاهداً كاملاً أو شجاعاً كاملاً أو كريماً كاملاً أو عالماً كاملاً، وإنما بالتدريج حتى يصل إلى القمة ولذلك ليس علاج الدكتاتور أن تقول له لا تصبح دكتاتوراً أو أن تعظه أو ما أشبه ذلك، فإن الشجرة إذا غرست نمت، شئنا أم أبينا، ولو هذبناها وشذبناها فلا يكون مانعاً عن أصل نمو الشجرة، وإنما علاج الدكتاتورية أن يكون في مقابل الدكتاتور قوة أخرى بحيث تكون تلك القوة مراقبة للدكتاتور حتى لا ينمو ومن هنا جاءت فلسفة تعدد الأحزاب والمنظمات والمؤسسات الدستورية مما ذكرنا تفصيله في كتاب (فقه السياسة) وغيره.

فالدكتاتورية كالسرطان ينشب بخلية حية، ثم ينمو وينمو حتى يأخذ جميع الجسم ويوجب له الهلاك.

وقد رأينا في الحكومات التي توالت على العراق هذا الشيء رؤية العين.

فالحكومة الجديدة لما كانت تتشكل من البعثيين والشيوعيين والقوميين ومن إليهم، كانت تسهل الأمور لأجل جذب الناس إلى نفسها، ثم تنمو دكتاتوريتهم تدريجياً حتى تكون من أبشع الدكتاتوريات، كما قد رأينا نزاعاً بين شخصين حول مزرعة دام ثلاثة عشرة سنة، بينما كان يكفي لحل النزاع نصف ساعة أو على أكثر الفروض ساعات من نهار، ورأينا أيضاً إنساناً كان يطلب الرخصة للسفر ولم يكن له مانع قانوني، لكن الحكومة عطلته سبع سنوات تقذفه من هذه الدائرة إلى هذه الدائرة من النجف إلى كربلاء ومن كربلاء إلى الحلة ومن الحلة إلى بغداد وهكذا دواليك.

الضغط يولد الانفجار

ومن الواضح أن نهاية تضييق الحلقات في الدكتاتورية الانفجار، فإن الكبت يوجب الانفجار وإنما الفرق بين سرعة الانفجار وبطئه حسب المؤهلات الاجتماعية، فإنه عندما يحس الناس بان الإطار القانوني للنظام الاجتماعي يكبت قدرة الناس على تحقيق الامكانيات الكامنة في الزراعة أو التجارة أو الصناعة أو السفر أو الإقامة أو إبداء الرأي أو غير ذلك، لا بد وأن يكون هناك عهد ثوري على الأبواب إن قريباً أو بعيداً ولا يكشف عن طابعه الثوري شيء أكثر عمقاً من الأزمة الأخلاقية التي يعانيها النظام ولا يوجب بقاء النظام جماعة من المتزلفين والمتملقين يحوطونه ويمتدحونه فإن هؤلاء ليسوا أكثر من فقاقيع.

فإن إحساس الناس بأن القيم الأخلاقية في اضمحلال وتطلعهم إلى نظام جديد ووجود جماعات صغيرة أو كبيرة تقف بمنأى عن الحركة المركزية للقوى الإجتماعية وتدعي أن الحق في جانبها.

معناه: انهيار الحضارة المعاصرة التي يدعمها نظام يحفظ العلاقات الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية المنحرفة، وعليه فالدكتاتورية - بما ذكرناها - دليل على الانهيار النهائي بطريقة ما في الحياة، والشاهد على ذلك التاريخ فقد أدى الإقطاع إلى الرأسمالية وهي إلى الشيوعية وهي إلى الرأسمالية، وهكذا حتى يصل الأمر إلى نظام صحيح لا استبداد فيه.

* مقتطف من كتاب (ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين) للمرجع الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي

..................................
1 ـ سورة النساء: الآية 75.
2 ـ سورة النحل: الآية 68.
3 ـ سورة القصص: الآية 7.
4 ـ كنز العمال: ج9 الرقم 24822.
5 ـ سورة البقرة: الآية 279.
6 ـ سورة الحشر: الآية 7.
7 ـ كنز العمال: ج3 الرقم 5217.
8 ـ انظر غرر الحكم: ص244 الرقم 4611.
9 ـ سورة إبراهيم: الآية 24 و26.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي