مهزلة القوانين المستوردة من الخارج
قراءة في محاضرة صوتية لسماحة الإمام السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه-
محمد علي جواد تقي
2017-12-26 06:00
لماذا لم تنجح حركات التحرر من الاستعمار في البلاد الاسلامية من تحقيق اهدافها المنشودة في صياغة أنظمة حكم بديلة عن حكم المستعمر، تولد من رحم المجتمع والامة؟
قدمت الشعوب الاسلامية تضحيات جمّة للخلاص من سيطرة الاستعمار على الثروة المعدنية وعلى الاقتصاد، ومن التلاعب بمشاعر الناس وهويتهم الدينية، فكان لهم ذلك في نسب معينة، بيد أن خيطاً واحداً بقي مرتبطاً بالدوائر الاستعمارية، والتي تحولت فيما بعد الى قوى "استكبارية"، ألا وهو؛ القانون بمضمونه الاستعماري، الذي تكفلت به الانظمة الذيلية على شكل ديكتاتوريات عسكرية وحزبية، وعمدت الى ترسيخه في الحياة العامة للناس.
واذا كانت ثمة محاولات للاعتراض على هذه القوانين ومحاربتها، فكان من منطلق رد الفعل، ورفع شعار؛ "الاسلام هو الحل"، دون تقديم بدائل من قانون الاسلام في المجالات كافة، لذا تأتي معالجة الامام السيد محمد الشيرازي في هذا المقطع الصوتي، بشكل علمي ودقيق لمشكلة القانون في البلاد الاسلامية، والتفكير بالبديل وبالبناء، قبل الشروع بالهدم، لان هذا ربما يلحق الضرر بالناس اكثر مما ينفعهم ويعرفهم بالاسلام كنظام ناجح للحياة.
يقول سماحته:
"القوانين التي جاءت الينا من الغرب ومن الشرق عبارة عن ثلاث مهازل:
المهزلة الاولى: تابعيتها للاستعمار.
المهزلة الثانية: عزمها لترسيخ الاستعمار.
المهزلة الثالثة: انها صادرة من أناس يجهلون بموازين الحياة، وموازين العلم، وموازين الحكم، وموازين البلاد، مع الغضّ عن الاسلام، ومن الغضّ عن أي اعتبار آخر.
من أجل تحكيم القوانين الإسلامية، لابد من ثلاث خطوات:
أولاً: فهم الاسلام بما يتضمنه من جميع نواحي الحياة، من الحكم، والعبادة، والتجارة، والزراعة، والصناعة، والعقيدة، والاخلاق، والآداب، والتواريخ، والردود، والحدود، والحكم؛ وهذا الجانب تحديداً (اسلام الحكم) لابد من استيعابه وفهمه بشكل دقيق، لان الانسان مهما عرف وأتقن العبادات والمعاملات والاحكام الشرعية بتفاصيلها، لابد له من الارتباط بنظرية الحكم في الاسلام وفهمها بشكل صحيح، ومعرفة كيف يحكم الاسلام؟ وما هي خطوطه العريضة؟ وكيف كان يدير البلاد؟ وهذا بحد ذاته يُعد علماً مستقلاً.
ثانياً: علينا فهم موازين الحياة؛ فالحياة لها شكل خاص، وفي كل زمان لها شكل خاص، ولها خصوصيات، وارتباطات، وغير ذلك، بمعنى فهم الزمان، لذا جاء في الروايات عن صفات المؤمنين بانه "...عارفاً بزمانه".
ثالثاً: علينا ان نتعلم كيفية إزالة القوانين الاستعمارية واستبدالها بقوانين اسلامية؟ وهذا ايضاً يمثل علماً خاصاً وعميقاً، لابد من استيعابه.
مثالٌ على مشكلة القوانين الاستعمارية التي تحتاج الى معالجة في بلادنا الاسلامية، وهي البنوك والمصارف التي تمثل عصب الاقتصاد في بلادنا الاسلامية، لهذه البنوك قوانين للتجارة، وللاستيراد، وللإصدار، وللإقراض، والحوالة، والكفالة، وقد صممت هذه البنوك وفق القوانين الغربية.
ولمن يلاحظ القوانين المصرفية في بلادنا يجد انها تضم مئات القوانين المستوردة من الغرب او من الشرق، ولا علاقة لها بالاسلام، ولكن؛ هل نفهم هذه القوانين؟ كلا!
ثم نأتي الى الاسلام؛ فاذا أزلنا القانون الغربي في مصارفنا، هل لدينا بديلاً جاهزاً من القوانين الاسلامية المتعلقة بالمصارف والبنوك؟ ربما البعض يجيب بكل بساطة؛ بان هذه البنوك تتعامل بالربا، فعليها التخلّي عن هذه الطريقة في التعامل، ولكن؛ هل يا ترى، أن عمل هذه البنوك هو ممارسة الربا فقط، وكيف لك ان لا تتعامل بالربا، والبنك قائم اساساً على قانون الربا، وهذا يعني أولاً؛ ضرورة معرفة قوانين الزمن فيما يتعلق بالاقتصاد، وثانياً: معرفة قوانين الاسلام بالنسبة للاقتصاد، والامر الثالث: إعداد البديل من القوانين الاسلامية لما هو غربي او شرقي من القوانين الاقتصادية.
لنفترض اننا اصدرنا قانوناً يمنع الربا في البنوك، فان اول رد فعل على هذا القرار؛ انسحاب الناس عن إيداع اموالهم في البنوك الاسلامية، لان معظمهم إنما يودعون أموالهم بهدف الحصول على الربح، وهذا يدفعهم للبحث عن الربح في مكان آخر، وهذا المكان هو البنوك الغربية، وعليه؛ سيأتي من يقول: هذا هو الدليل على فشل الاسلام في الاقتصاد، فقد تسربت الاموال والثروات الى الخارج ودمرت البنوك والاقتصاد في هذا البلد او ذاك.
لذا نحن بحاجة الى طريقة علمية تثبت أن القوانين الاسلامية في الاقتصاد هي الانجح والاكثر فائدة للناس من القوانين الاخرى، ولا يجب حتى أن تكون القوانين الاسلامية موازية للقوانين الغربية من حيث المضمون، فسيقولون: "تحصيل حاصل"، ولا فضل للإسلام بشيء.
وهذا ينطبق سائر حقول الاقتصاد، من زراعة وصناعة وتجارة، كما ينسحب على القضاء وعلى الانتخابات وغير ذلك.
علينا الحذر من أن نقدم على تغيير حالة او ظاهرة او قانون، قبل التفكير بالبديل الأفضل، وإلا فان الناس يعيشون حياتهم وفق قوانين يرونها تقضي حاجاتهم اليومية، فاذا تزول هذه القوانين غير الصالحة، ثم جيء بقوانين أقل منها شأناً، او حتى مثلها، فان الناس يتسائلون عن سبب ازالة تلك القوانين؟ بل لماذا ضحيتم؟ وتكلمتم؟ ونظرتم؟ فما كان لدينا هو الجيد.
وهذا يؤكد أننا أمام حمل ثقيل، يتمثل بإعداد البديل الافضل لملء الفراغ لما موجود من القوانين، فاذا حققنا هذا، صدقنا مع انفسنا، ومع المجتمع، ومع الله –تعالى-، وهو امر صعب – لاشكّ- لانه بحاجة الى فهم قوانين الاسلام في الحكم وادارة البلاد، وايضاً فهم القوانين الغربية والشرقية المرتبطة بالحكم وادارة البلاد، ثم القدرة على إزالة هذه وتركيب تلك مكانها، فاذا تمكنا من تحقيق ذلك، فنحن قدمنا الى الاسلام والى البلاد الاسلامية خدمة كبيرة، ومن ثم يمكننا دعوة سائر البلاد الاسلامية أن "هلّموا" وانظروا لماذا هدمنا ولماذا بنينا، وهذا بحاجة مطالعة، ومباحثة، ودراسة مئات الكتب في هذا المجال".
صياغة البديل الصحيح أولاً
لا ينبغي أن نلوم البريطانيين او الفرنسيين او البلجيكيين وغيرهم من مصدري القوانين الى البلاد الاسلامية المستعمرة، لانهم إنما ارسلوا هذه القوانين بغية الاسهام في تنظيم الحياة العامة في هذه البلاد في اعقاب انهيار الدولة العثمانية الممثلة آنذاك للدولة الاسلامية الكبرى، ولو بالإسم والظاهر، وهذا لا يعني عدم وجود قوانين للإسلام على ارض الواقع، او أن المسلمين نسوا قوانين دينهم نهائياً، إنما مشكلتهم الاساس في عدم وجود دولة لهم تطبق هذه القوانين الاسلامية، كما كان عليه الحال مثلاً؛ في ايران القاجارية (الملكية) التي كانت تحكم ايران وهي تأخذ بنظر الاعتبار آراء وفتاوى علماء الدين آنذاك وتحسب لهم الف حساب.
وبما أن القانون كما عرفه العلماء بأنه "مجموعة القواعد التي تنظم حياة الفرد والمجتمع"، فان البريطانيين–مثلاً- إنما جاؤوا بقوانينهم الى العراق وايضاً الى الخليج وسائر البلاد المستعمَرة، من اجل صياغة نظام حكم يدير شؤون الناس وفي الوقت نفسه يحفظ مصالحهم الاقتصادية والسياسية. ولذا نجد سماحة الامام الشيرازي في هذا المقطع الصوتي يدعو الى فهم واستيعاب نظرية الحكم في الاسلام، قبل التفكير بتطبيق قوانين الاسلام على ارض الواقع، وهذا هو عين الصواب ومطابق للمنطق والعقل، فنظام الحكم الصحيح، هو الذي يأتي بالقانون الصحيح، كما دعا ايضاً الى فهم واستيعاب متطلبات الحياة، بمعنى أن الحكم في الاسلام ليس نظرية مجردة، إنما هي منظومة حيوية تشمل جميع ابعاد العلاقة بين الحاكم وابناء الشعب، ومنها القوانين المنظمة لهذه العلاقة، وتلك المتعلقة بالحقوق والواجبات.
وعندما يطرح سماحة الامام الشيرازي الاسئلة الكبرى عن كيفية الحكم في الاسلام؟ وكيفية ادارة شؤون البلاد والعباد؟ فهذا يضعنا امام بحث عميق عن مواصفات الحاكم والشروط اللازم توفرها فيمن يريد تطبيق القوانين الاسلامية، وأن يكون هذا الحاكم، في الوقت نفسه عارفاً وملماً بالأحكام والموازين الاسلامية، يكون ايضاً متفهماً لمتطلبات الحياة ومنها مثلا؛ الحفاظ على البيئة وعلى الموارد الطبيعية، وايضاً الحفاظ على السلامة النفسية لأفراد المجتمع، فضلاً عن متطلبات حياتهم واحتياجاتهم؛ المادية منها والمعنوية.
ولعل أعظم ما يمكن استلهامه من تراثنا الزاخر، ما جاء في رسالة أمير المؤمنين، عليه السلام، الى واليه على مصر؛ مالك الأشتر؛ تلك الرسالة الشهيرة، وقد جاء في مستهلها ما يدلّ على أن المهمة الاولى لمالك، ليس الاستقواء بحكم أمير المؤمنين، وكونه أقرب المقربين، وان الحق معه وغيرها مما يمكن الاستفادة منها كأدوات للتوظيف السياسي، "...وإنما يستدلّ على الصالحين بما يُجري الله لهم على ألسن عباده، فليكن أحبّ الذخائر اليك ذخيرة العمل الصالح..."، ثم يوصيه، عليه السلام، بالعدل والإنصاف والتواضع واستشارة أهل الكرم والفضل والشجاعة، واختيار "أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة..."، ليكونوا في الجهاز الحاكم، وغيرها من الوصايا الواردة في نهج البلاغة.
إن الذي جعل عبارة "الحكومة الاسلامية" مدعاة لإثارة المخاوف في النفوس، هو الفهم الخاطئ لنظرية الحكم في الاسلام، واحياناً الفهم التجزيئي، فالبعض أصرّ على أن تكون الأولوية للحدود، مثل قطع يد السارق، في حين يدعو الاسلام قبل تطبيق هذا الحكم الى توفير فرص العمل والعيش الكريم للجميع، وهذا لن يكون بأي حال من الاحوال، مبرراً للسرقة، إنما على سبيل التطبيق الصحيح لحد السرقة لمن يستحقها، وقد بيّن الفقهاء شروط تطبيق هذا الحد في ظل النظام الاسلامي.
وقد ذهب آخرون الى الجانب الآخر والأبعد فيما يتعلق بالحكم في الاسلام، وجعلوا القضية عبارة عن دوائر فراغ يمكن ملؤها حسب المتطلبات العصرية، ووفق رؤى وافكار خاصة، على أن قراءة النصوص الدينية؛ من كلام الوحي، والروايات الشريفة وحتى التاريخ الاسلامي، فانه يتم وفق الرؤية العصرية للحياة ومتطلباتها، وليس كما اراد ورسم خارطتها؛ الرسول الأكرم، وأمير المؤمينن، وسائر الأئمة المعصومين، عليهم السلام.
وهذا تحديداً؛ هو الذي أبعدنا عن الصورة الحقيقية والناصعة للحكم الاسلامي، وجعل الناس يفضلون أنماط الحكم التي جاء بها الغربيون، رغم ثغراتها ومشاكلها المعروفة، بيد أنها تفي بالغرض على نحو الإجمال، فهي تحافظ على النظام العام وتضمن بعض الحقوق والحريات الفردية والجماعية، وهي في ذلك تقع في مطبات عدّة، منها تشريعها لقانون الحريات الفردية بأن ترتدي المرأة والفتاة ما تشاء –مثلاً- في الشارع، ثم تتضمن فقرة في هذا التشريع بأن لا تنتهك هذه الحرية حقوق الآخرين، وهنا يقف هذا القانون عاجزاً عن تفسير "حقوق الآخرين" أمام الحرية الفردية للمرأة المتبرجة، او لمن يبيع الخمور او الافلام الاباحية، فيأتي من يقول: "ليس ثمة من يجبر انساناً على شراء الخمور، ولا أن يتأثر بتلك المرأة المتبرجة..."!
إن الصورة الحقيقية التي ارادها لنا أهل البيت، عليهم السلام، لنظام حكم عادل تحكمه القيم والمبادئ، هو الذي يضمن الحقوق والحريات بما ينسحب بالفائدة والنفع على الجميع وليس لفئة دون أخرى، تطبيقاً للقانون الذي سنّه النبي الأكرم، بأن "لا ضَرر ولا ضِرار في الاسلام"، والقوانين الاخرى التي تضمن حرية البناء والعمل والسفر والتجارة وغيرها، الى جانب القوانين التي تنظم العلاقات الاجتماعية، وهذا بحاجة الى رجال بهمم عالية وعزائم لا تلين يتحملون "الحمل الثقيل" الذي بينه الامام الشيرازي، ويجاهدون لتقريب هذه القوانين الى ارض الواقع وتعريفها للناس، وهي الخطوة الاولى التي يدعو اليها سماحته للنجاح في عملية استبدال القوانين الوضعية الفاشلة بقوانين تلبي الحاجات الانسانية بشكل لا تشوبها شائبة.