التغيير الثقافي وهندسة المستقبل
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2017-11-27 06:48
يجهل غير المثقفين ما يمكن أن تقوم به الثقافة من مهمات، قد يكون بعضها مصيريا ونتائجه جسيمة، والطامة الكبرى أن هنالك من يحسب نفسه على المثقفين، وفي نفس الوقت يفوته الكثير من قضايا الثقافة الرصينة والأدوار النادرة التي يمكن أن تقوم بها على أكمل وجه، ولكي نقرّب هذا القصد أكثر، توضيحا وتجسيما وتجسيدا، نقول إن الثقافة هي عماد الحياة، مثلما الصلاة عمود الدين.
وأبسط مشاركة للثقافة في الحياة وأهمها، أنها - الثقافة- كفيلة برسم اتجاهات الإنسان في الحياة، وهي التي تساعده لكي يكون صالحا بارّا من ناحية، أو منتميا الى الشر وعاملا به من ناحية أخرى، من هذه النقطة فقط نستطيع أن نفهم قدرات الثقافة بالضبط، إذا عرفنا أنها تتحكم بانتماء الإنسان إما للخير وإما للشر.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيم الموسوم بـ (السبيل الى إنهاض المسلمين):
(إن الثقافة هي التي تعين اتجاه الإنسان، إن خيراً فخير، أو شراً فشر).
ويستند الإمام الشيرازي في ذلك، الى مفعول الثقافة في التحكم بسلوك الإنسان، فقد ثبت من علماء الاجتماع، أن جميع حركات وسكنات الإنسان إنما تعود الى نوعية ثقافته، ويذهب بعضهم الى ما هو أبعد من ذلك فيقولون، الثقافة هي التي تحدد مصير الإنسان، وتشتبك مع جميع ردود الأفعال التي يمكن أن تصدر عنه حيال أزمة أو قضية ما، وتتدخل الثقافة في جميع جزئيات الإنسان وكلّياته.
ولو تحوّلت الثقافة من وجهها الرديء الى الوجه المتسامي، فإنها تنقل الإنسان من حضيض الثقافة التابعة الى مجد الثقافة الأصيلة، فهناك بحسب تفسير الإمام الشيرازي ثقافة استعمارية، وأخرى ينتجها الاستقلال الفكري العقائدي، وما بين الأولى والثانية بون شاسع، يمكننا أن نعرف مداه عندما نستطيع أن نقيس المسافة بين الخير بشاعة الاستعمار وعظمة الاستقلال.
يقول الإمام الشيرازي حول ذلك:
إن (الشخص الذي يذهب إلى المبغى فإنما توجّهه ثقافته نحو ذلك، والذي يذهب إلى المسجد فإنما يسير بدافع من ثقافته.. هذا في الجزئيات، وكذلك الأمر في الكليات، فالثقافة إذا تحولت ـ لدى المسلمين ـ من ثقافة استعمارية إلى ثقافة إسلامية تحولوا هم أيضاً من الانحطاط والاستغلال والعبودية إلى العزّة والتقدم والاستقلال).
أحب لأخيك ما تحب لنفسك
ولأن ثقافة التعصب والأنانية والتطرف كانت تسود مجتمع الجاهلية قبل الإسلام، فإن الحروب والاقتتال الداخلي والفتن، كانت تقلب حياتهم الى جحيم، فكان مجتمع الجاهلية بحق مجتمع الأزمات وعدم الاستقرار، وسيادة ثقافة الأنا بمساعدة عقلية الغاب التي كانت تحكم ذلك المجتمع، ويكفي أن نتخيل وأد الإناث المولودات حديثا والإبقاء على الذكور فقط، كي نستدل على بشاعة هذا المجتمع.
كما يتضح ذلك في قول الإمام الشيرازي:
(عندما نتطلع إلى تاريخ المسلمين قبل ظهور الإسلام وبعد ظهوره، نلاحظ بوضوح عقليات (الغاب) وثقافة (الأنا) التي كانت تحكم الناس فكانت أعمالهم هي النهب والحرب والسرقة وشرب الخمر وتعاطي البغاء، وكانوا متخلفين فكرياً واقتصادياً وفي سائر المجالات).
وقد حدث التحوّل الكبير، والتغيير الجوهري، بعد دخول الإسلام إليهم ودخولهم فيه، فتحوّلت ثقافة الغاب وبشاعتها، الى ثقافة ربانية تبث الرحمة وتزرعها في ربوع المجتمع الذي كان جاهليا متعصبا متطرفا قبل الإسلام، أما بعد أضاء وهج الرسالة النبوية قلوب الناس، ووعوا ما عليهم القيام به، وما عليهم أن يتجنبوه، تغيّر الحال بصورة كّلية.
وأعظم التغييرات التي سادت مجتمع الجزيرة العربية بعد الإسلام، أنه تحول من مجتمع حروب واحتراب وفتن، الى مجتمع متعاون متماسك تسوده الرحمة وتحكم سلوكياته وأفكاره وأقواله، وهو ما يحتاجه أي مجتمع يبتغي المدنية والتحضّر في الوقت الحالي، فالحقيقة تشير الى أن ما ينقص الشعوب المتأخرة هو ثقافة التعاون والتكافل والتسامح والرحمة واللين وكل القيم العظيمة التي جاء بها الرسول الكريم (ص) ونشرها في رسالته المفعمة بمبادئ الخير والسعادة البشرية.
وما أن دخل الإسلام في حياة المجتمع الجاهلي حتى تحولت ثقافتهم من الأنانية المقيتة، الى ثقافة (أحب لأخيك ما تحب لنفسك)، وهي بالفعل الثقافة التي غيّرت أحول وأفكار وأفعال مجتمع الجزيرة، ليتحوّل الشر الى خير، حيث انتهت حالات الاحتراب، وقُضيَ على الفتن، وانطفأت المشاحنات، وانتهت مظاهر الفجور ليصبح هذا المجتمع في حالة معاكسة تماما، وليرتقي سلّم التقدم المضطرد، فنتج عن ذلك استقرار كبير، وانشغل الناس بتطوير حياتهم وعلاقاتهم وفق ما جاءت به الرسالة النبوية من مبادئ وتعاليم عظمى.
يؤكد ذلك الإمام الشيرازي في قوله:
(لكنهم بعد الإسلام ـ على أثر تحول ثقافتهم إلى ثقافة ربانية-، وإلى ثقافة: أحب لأخيك المسلم ما تحب لنفسك. نلاحظ حدوث انقلاب واسع وعميق في ضمير الشعب وحياته، فلا خمر ولا فجور ولا مشاحنات ولا حروب تطحن الأخوة بعجلاتها).
عقلية الغاب وثقافة الأنا
ولعل الأقوى والأنجع من كل ما مر ذكره، أن قوة الثقافة الرصين، إنما تتشكل أو تكمن في قدرتها على إحداث التغيير النموذجي، حيث يمكن لثقافة التغيير أن تؤثر في مناهج العلم والسياسة والاجتماع والاقتصاد بل في جميع مناهج الحياة، وبهذا تتيح هذه الثقافة فرصا عظمى للتطور والتقدم والاستقرار.
وإذا كانت مثل هذه القدرات الكبيرة تمتلكها الثقافة، كما يثبت ذلك الإمام الشيرازي، فحريّ بنا جميعا، أن نعتمد هذه النصائح الذهبية، وأن نجعل منها خطوات فعلية لنا لتحسين حياتنا، أو نجعل منها خرائط طريق تمنحنا دقة السلوك والتصرف والفكر الدقيق، فهل نعمل بها في عالم اليوم، لاسيما أننا متأخرون عن كثير من مجتمعات العالم المتقدم، وعلينا أن نتمسك بما يقترحه علينا الإمام الشيرازي حول مكانة الثقافة ودورها في تطوير الإنسان وتحويل حياته من مسارات الشر الى مسارات الخير.
من هنا يؤكد الإمام الشيرازي عل:
أن (التغيير الثقافي يؤدي الى تغيير المناهج العملية والمناهج السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. وكل مناهج الحياة).
وقد يعترض أحدهم على هذا المنحى فيقول، هناك متعلمين ومثقفين في مجتمعنا، وهو قول صحيح لا يمكن أن ينفيه أحد، فهناك مثقفون علماء يمتلكون الثقافة والقدرة على الإرشاد، فالكلام لا يتعلق بهؤلاء المثقفين والعلماء، وإنما يشمل عامة الناس أو الأغلبية الواسعة من البسطاء الذين يعانون من هبوط الوعي الثقافي، هؤلاء هم الذين يقصَدون بما يقوله الإمام الشيرازي في حديثه عن وجوب نشر الثقافة بين أفراد المجتمع لضمان درجة تطور ثقافي يمكنه تغيير الحياة برمتها.
فالتغيير المقصود أو المطلوب يتعلق بأكثرية البسطاء من الناس، ولا يشمل المثقفين والعلماء، لذا هناك دور مهم للمثقفين الذين لا يحتاجون الى زيادة في المستوى الثقافي، وعلى هؤلاء تقع مسؤولية تنوير الأكثرية وتقديم عوامل التغيير كاملة لهم، ومن المهم أن تكون طريقة توصيل المعلومات والأطر الثقافية بطريقة سليمة يقتنع بها البسطاء ولا تجعلهم ينفرون من الأساليب المعتمدة في زرع الثقافة ونشرها بين الناس، وهكذا يتضح دور الثقافة ودور المثقفين والعلماء في تغيير ثقافة أغلبية المجتمع، لكي يتم ضمان حياة مستقرة لمجتمع متماسك متحضّر متقدم.
يقول الإمام الشيرازي حول ذلك: (إن في المسلمين أفراداً يحملون ثقافة إسلامية راقية دون شك ولكن الكلام حول الأغلبية الساحقة منهم، هؤلاء علينا تغييرهم).