الأحزاب السياسية وبناء دولة المؤسسات

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

شبكة النبأ

2017-10-23 05:50

لا يمكن بناء النظام السياسي للدولة بعيدا عن الأحزاب أو بعدم وجودها، لأن غيابها عن الساحة لابد أن تقف وراءه أسباب خطيرة، فأما حاكم طاغية يمنع الأحزاب من العمل السياسي خشية اختلافها الفكري مع منهجه وآماله، وأما إلغاء الأحزاب كي يبقى حزب الفرد الحاكم هو المتحكم الأوحد بالسلطة، وفي هذا النوع من الأنظمة عيوب لا تعد ولا تُحصى.

لذلك دولة بلا أحزاب، تعني حراكاً سياسيا فرديا حيث يؤكد خبراء السياسة وبناء المؤسسات الدستورية القوية، على أهمية نوع النظام الحزبي السياسي الذي يحكم الدولة، وأعطى هؤلاء أهمية كبيرة للمؤسسات ودورها الكبير في بناء الدولة، على أن لا يكون هذا الدور شكليا، كما تفعل الأنظمة القمعية التي يقودها نظام الحزب الواحد غالبا، او الأنظمة العسكرية التي تسعى دائما للسيطرة على الحكم بالقوة الغاشمة او الانقلاب العسكري، بعيدا عن الشرعية التي يمنحها الشعب للسلطة عبر الانتخابات، فيسود منطق القوة والقمع وتغيب مؤسسات الدولة المستقلة.

ويعد نظام الحزب الواحد، أو النظام الفردي الأكثر حرصا على إنشاء مؤسسات شكلية في الدولة تقوم بأدوار مزيّفة، مثل تشكيل مجلس نواب او برلمان او مجلس وطني، يقوم بتمثيل الشعب بصورة شكلية، باتخاذ القرار والتشريع او المشاركة فيه، إذ غاليا ما يكون مثل هذا البرلمان، دمية بيد الحاكم وحكومته القمعية، يحركها فوق المسرح السياسي كما يشاء، لذا فإن المشاركة الحزبية الواقعية الفاعلة في العمل السياسي يشكل العمود الفقري للنظام.

يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (الشورى في الإسلام): (يقال لحزب انه ديمقراطي فـي حال ما إذا انتخب زعماؤه، من قبل أعضاء الحزب من خلال انتخابات حقيقة وبالاقتراع السرّي أو العلني، والمنهج والسياسة العامة لمثل هـذه الأحزاب سواء على صعيد التنظيمات أو القرارات، يتم تعيينهما وتحديدهما في المؤتمر العام للحزب، ويقال لحزب إنه ديكتاتوري، في حال ما إذا تم تعيين قادته بحلول النائب مَحلَ القائد، وهلمّ جرا).

إذاً تنحصر أهمية الأحزاب بالفاعلية السياسية الديمقراطية، وليس منهجية الحزب الواحد أو القائد، الذي يدعم فكرا أحاديا ومنهجا لا يقبل الآخرين ويصادر حرياتهم، فالحزب القمعي ينتج عنه قادة طغاة غير مرغوب بهم قطعا.

كما يشير الإمام الشيرازي الى ذلك بقوله: (يكون منهجُ الحزب تجسيداً لما يريده قادة الحزب، ويكون الرأي المخالف للمنهج العام فيه ممنوعاً، فيحظر فيه تعدد الأفكار والآراء ويطرد أي شخص له علاقة بالفكر المعارض، وفي مثل هذه الحالة ينساق الحزبُ نحو الاستبداد والديكتاتورية والتفرد السلطوي).

تعدد الأحزاب وانتخاب الهيئة الحاكمة

لذلك يتوافق معظم علماء السياسة على أن أسوأ الأنظمة هو ذلك النظام الناتج عن الحزب الأوحد لأنه يمكن أن يحدد نظام الحزب وتشكيلته وأفكاره، النظام السياسي للدولة، لاسيما اذا استطاع الحزب الوصول الى السلطة، من هنا يوجد هناك تأثير مباشر لفكر الحزب، وطبيعة تنظيمه على بناء المؤسسات التي تحكم الدولة وتدير شؤون المجتمع.

فمن الأفضل أن يكون هناك تعدد في الأحزاب، وتكون لها مشاركة واسعة في الانتخابات النيابية أو سواها، هنا تكمن أهمية الأحزاب الكبيرة للتواجد الفاعل في الساحة السياسية، وعدم ترك الأمور بيد حاكم أوحد وحزب يأتمر بأوامره، فتضيع الحقوق وتموت التعددية ويحرق الطغيان الأخضر واليابس.

من هنا فإن الإمام الشيرازي يذهب الى نقطة مهمة جدا، فيقول سماحته: (إنّ تعدد الأحزاب السياسية وطبيعة تنظيماتها لهما تأثير كبير جداً في انتخاب الهيئة الحاكمة، وان هذا التأثير ملحوظٌ بشكلٍ اكبر في الهيكلية الداخلية للمؤسسات الحكومية.(

إذن تأتي أهمية الأحزاب في المشاركة بالعمل السياسي كونها تقضي على الفردية، ولكن هناك شرط مهم أن تكون هذه الأحزاب نزيهة، وتكسب ثقة الجماهير، وتحرص فعليا على تمثيل تطلعاتها، لذلك فإن أهمية الأحزاب تكمن في المشاركة الفعالة في اختيار الشخصيات القيادية للنظام السياسي في الدولة، كما نلاحظ ذلك في الدول الديمقراطية الراسخة، حيث يتوسع تأثير الأحزاب الى حد أنها هي التي تختار الوزراء والمسؤولين.

كما نلاحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي: (إن الأحزاب السياسية، ينبغي أن لا تكتفي بتصنيف الناخبين والمرشحين بل تسعى أيضاً، إلى التأثير في اختيار الوزراء ونواب الوزراء وأعضاء البرلمان).

بمعنى أن دور الأحزاب ينبغي أن يتجاوز الصورة النمطية المأخوذة عنه من قبل الجماهير، فالحزب إذا كان ذا فكر مهم واقعي إنساني قادر على تحقيق تطلعات الناس، فإنه سيكون محط إعجابهم وتأييدهم، والعكس صحيح طبعا.

الدور الشكلي للأحزاب ومغريات السلطة

من أهم الأدوار التي يمكن أن تؤديها الأحزاب في الساحة السياسية هي إصرارها على بناء مؤسسات الدولة وفق خطط مسبقة، لذلك لابد أن تتنبه الأحزاب الى أهمية بناء المؤسسات الرصينة، التي تضبط حراك الدولة بجميع السلطات التي تتحرك فيها، بمعنى أن المؤسسات ذات بعد معنوي قوي، قادر على التأثير في ضبط حركة السلطات التي تقود الدولة، بما فيها السلطة التنفيذية التي تشكل أهم السلطات، من حيث الجانب التنفيذي العملي، وإذا تمكنت الأحزاب من تقوية استقلالية المؤسسات فهذا يعني أنها استطاعت أن تبني ركائز الدولة.

ولكن من ناحية أخرى هنالك من يرى العكس تماما، فيذهب بعضهم الى أن تعدد الأحزاب في الدولة الواحدة ينطوي على مخاطر كثيرة، أهمها أن كثرة الأحزاب تساعد على تفتيت الجهود، وتضعف دور المؤسسات في بناء الدولة، كما أنها تفرق جهود المعارضة وتقوم بتفتيتها، الأمر الذي يجعلها ذات تأثير ضعيف على صانع القرار، ولا تشكل قوة ضغط كافية، تمنع الضرر الذي قد يلحق بالشعب، إذن فإن تعدد الأحزاب قد يكون مضرا إذا لم يكن عملها منسقا ومنضويا تحت دستور يلتزم به الجميع.

لذلك يشير الإمام الشيرازي في أحد أقواله الى هذا الخلل فيقول: (وهناك من يرى أن تعدد الأحزاب قد لا يساعد على بناء مؤسسات الدولة كما يجب).

ولكن ثمة خطر أكبر يلوح في الأفق، يتمثل بسيطرة الحزب الواحد على السلطة، وبالتالي فرض الرأي الواحد والفكر الواحد، وإقصاء الأفكار الأخرى، وضرب الصوت والرأي المعارض حماية للسلطة وامتيازاتها، وهنا يتحول نظام الحزب الواحد من نظام سياسي يدير الدولة وشؤون الشعب، الى نظام يكرّس السلطة له فقط، ولا يتورع عن استخدام أبشع السبل واغرب الوسائل وأشدها قمعا، في سبيل الحفاظ على السلطة، ولنا في التاريخ القريب أمثلة كثيرة عن فشل هذا النوع من الأنظمة التي اعتمدت نظام الحزب الواحد، فتحوّلت الى أحزاب ذات أنظمة عرفت بنزعتها القمعية التي أتت على جميع معارضيها بلا استثناء.

وفي كل الأحوال تعتبر أنظمة الحزب الواحد فاشلة، حسب التجارب التي يضج بها التاريخ، لأنها تعتمد سياسة العنف وتحتكر السلطة وتقمع المعارضة، وتدمر تطلعات الجماهير.

كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي، في قول واضح له يأتي في كتابه المذكور نفسه: (من لوازم النظام القائم بحزبٍ واحد هي العقيدة الواحدة وممارسة سياسة الإرهاب والعنف واحتكار السلطة، لذا فإنّ هذه النظم تعتبر اخطر من الجناة العاديين).

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي