كيف نستفيد من الطاقة الهائلة في النهضة الحسينية؟
قراءة في محاضرة صوتية لسماحة الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه-
محمد علي جواد تقي
2017-09-23 06:00
"الامام الحسين طاقة هائلة، ونحن لم نستفد منها، في الوقت الحاضر يتحرك في أنحاء العالم، حوالي 500مليون شيعي، ولكن تحركهم بين انفسهم، فهم يلطمون ويبكون ويطبخون الطعام ويطعمون الناس، ويبنون الحسينيات وغير ذلك، وكل هذا حسنٌ، وفي الحديث الشريف: "من بكى وأبكى وتباكى على الحسين وجبت له الجنة" وهذا حسنٌ ايضاً، والى جانب كل ذلك، علينا ان نعرف أن الامام الحسين، عليه السلام، يمثل طاقة عظمى وهائلة تفوق كل هذه النشاطات، وقد جاء في دعاء الامام الحسين، عليه السلام: "... لينقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة" أي ليس فقط المسلمين، وإنما جميع من في العالم، فالإمام الحسين، عليه السلام، منقذٌ للبشرية. ولكن الغريب أننا عندما كنا في العراق وتحديداً في كربلاء لم نتمكن من إنقاذ انفسنا في بلادنا، رغم وجود الحسين، عليه السلام، الى جانبنا.
أحد رجال الدين المسيحيين جاء الى أحد علمائنا -وقد نقل لي ذلك العالم بنفسه- وقال له: لو كان لنا حسينكم لجعلنا جميع سكان العالم مسيحيين، ونرفع علماً أسوداً في شتى أصقاع الارض"، بينما – للأسف- لم نتمكن من انقاذ بلادنا الاسلامية.
يجتمع الشيعة في كل مكان لإحياء مراسيم عاشوراء والاربعين، فما الذي يجمعهم في الحسينيات والمساجد، وما الذي يدفعهم للبس السواد والتخلّي عن الاعمال اليومية الاعتيادية والمشاركة في المواكب الحسينية، والبعض يضع الطين على وجهه ورأسه؟ انه ليس سوى الامام الحسين، عليه السلام، ولذا قيل: الاسلام محمدي الوجود، علوي الاستقامة، حسيني البقاء، بيد أننا لا نستفيد من كل هذه الطاقة الهائلة والجبارة سوى إظهار الحزن والبكاء وتشكيل مجاميع اللطم واشباهها، وكلها حسنٌ ومطلوب، بيد أن المطلوب ايضاً استثمار هذه الطاقة في تحرير انفسنا وتحرير العالم، وهذا المنهج الذي يجب ان نسير عليه".
انطلقت الثورة الفرنسية عام 1789 وهي ترفع شعارات محاربة الظلم والحرمان، فهي أطاحت بالنظام الارستقراطي، بيد أنها اتجهت في الوقت ذاته الى الاطاحة برؤوس من رفعوا هذه الشعارات وشاركوا في إنجاح هذه الثورة، فحصلت تصفيات دموية مريعة، وقد سيق العشرات من ابناء هذه الثورة ورجالاتها الى المقصلة التي ضربت أعناق الملك لويس السادس عشر وزوجته (انطوانيت)، وكان أبرزهم؛ جورج جاك دانتون، الثائر والوزير في عهد الثورة، وايضاً؛ روبسبير و رموز آخرين، قطعت رؤوسهم لمجرد الشك في ولائهم لما كان يسمى "بمبادئ الثورة"، بل وحتى لوشاية حاسد ومنافس، وعندما وصل دانتون عند المقصلة هتف بمقولته الشهيرة: "الثورة تأكل ابناءها".
هنالك عدة اسباب تقف وراء هذه الظاهرة، منها؛ ذاتي يعود الى رموز الثورة وطموحاتهم السلطوية، ومنها؛ منهجي يكشف عن جذور الثورة ومنطلقاتها وغاياتها الحقيقية، فاذا كانت تحمل غايات انسانية نبيلة وقيم اخلاقية رصينة، لا يمكن ان تنقلب على الانسان الذي يضحي من أجل انتصارها، فهي لم ترحم حتى العالم، حيث سيق العالم الكيمياوي لافوازييه الى قافلة الموت، بعد أن تبرأ قاضي "محكمة الثورة" من علمه وعبقرتيه، عندما قال له: "لانحتاج الى عباقرة وعلماء، بل نحتاج الى العدالة"!!
وفي كربلاء سنة 61للهجرة، والموافق للقرن السابع للميلاد، أي قبل حوالي ألف سنة من الثورة الفرنسية، وقعت ثورة عارمة تختزل ثورات عدّة في مكان وزمان مشترك؛ من ثورة على النفس الانسانية وثورة على الواقع الاجتماعي الفاسد، وثورة على النظام السياسي الحاكم، ورغم الآثار العميقة التي تركتها في النفوس، والثورات والانتفاضات المزلزلة والمستلهمة، ومن ثم التموجات الفكرية والثقافية في العالم الاسلامي خلال القرن الماضي، بيد أن الملاحظ أن هذه الثورة ليس فقط لم تلحق الضرر بأحد، بل حصل العكس أن تعرضت هي لسوء فهم من البعض – ربما من يحث لا يشعر- ولعل هذا يفسّر عمق الأسف وشدّة الغرابة التي يبديها سماحة الامام السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه- في المقطع الصوتي الذي دوناه أعلاه، وهو الذي وظف شطراً كبيراً من جهوده الفكرية لنشر وإحياء القضية الحسينية، وتبيين ابعادها الثقافية والتربوية والحضارية.
ربما يتصور الكثير أنه ببذل الجهود والاموال لإحياء مراسيم الامام الحسين، عليه السلام، من قبيل تشييد الحسينيات وتأسيس المواكب وإعداد الطعام والسكن لآلاف الزائرين، يجسد قضية الامام الحسين، سواءً في إثارة مشاعر الحزن واستدرار الدموع في المجالس الحسينية، او من خلال تسيير المواكب وإلقاء الهتافات والقصائد والكلمات المستوحاة من عاشوراء، وسائر أعمال الشعائر الحسينية التي يؤكد العلماء والفقهاء على استحبابها وضرورتها لبناء الفرد والمجتمع روحياً وثقافياً، ومن يحمل تصور كهذا، ربما لا يكون ملاماً، لانه يفعل كل ذلك وهو في غمرة الحب والولاء للإمام الحسين، عليه السلام، ولكن! عندما تنحصر قضية الامام الحسين في إطار هذه الاعمال فاننا نربح الثواب الجزيل يوم القيامة لإحياء مصاب الامام الحسين، ونخسر الفوائد والآثار العظيمة في الحياة الدنيا، وهي التي يريدها لنا تحديداً، الامام الحسين، عليه السلام، وإلا ما الذي دفع الامام، عليه السلام، لأن يبكي على أعدائه وهم يستعدون لقتاله؟ وما الذي يدفعه لأن يدعوهم للحرية والكرامة الانسانية، وهي قيم سامية ومقدسة لا تعطى إلا لمن يستحقها؟
وعندما نُحيي ذكرى عاشوراء والاربعين كل عام، فنحن نُحيي جميع التفاصيل التي جرت في تلك الظهيرة العاصفة والمدوية عبر التاريخ، من مواقف وحالات وكلمات وكل ما وصلنا من المؤرخين مهما كانت ضئيلة، وعليه؛ فان البكاء على مصاب الطفل الرضيع يجب ان يترافق مع موقف الامام الحسين من جون، ذلك العبد الذي تحدث هو عن نفسه، بأن "ريحي نتن وحسبي لئيم و..."، فوضع خده على خد ذلك العبد قبل أن يلفظ انفاسه الاخيرة، فالى جانب الرسالة الموجهة الى القلوب القاسية، ثمة رسالة أخرى موجهة الى من يتشبث بالفوارق الاجتماعية والطبقية حتى اليوم.
بهذه المنظومة الإصلاحية نتمكن من إنقاذ انفسنا من شباك الفساد والانحراف والتخلف الحضاري، ثم نسهم في إنقاذ العالم من خلال نشر مفاهيم وقيم النهضة الحسينية مجتمعة غير متفرقة، وهذا ممكن من خلال تأديتنا لمختلف الشعائر الحسينية، وعند أدق الحركات والسكنات، لأن كل شيء محسوب علينا كوننا نقدم للعالم وللمسلمين تحديداً الصورة الموحدة لمراسيم هذه القضية العظيمة، فحتى طريقة خدمة الزائرين وإظهار الحزن والجزع واستخدام الاماكن ومكبرات الصوت وغيرها كثير من التفاصيل، كلها تشكل صورة ومشهد لقضية واحدة.
وبمقدار ما نعكس من قيم ومبادئ الثورة الحسينية في أعمالنا ومشاركاتنا هذه الايام، بنفس المقدار نكتسب القوة التغييرية الهائلة لما يفيدنا في حياتنا اليومية وما نحتاجه في كفاحنا ضد الفساد والانحراف والديكتاتورية وكل ما يسبب لنا ضنك العيش سوء الحال.