الاسلاميون ومتاهات ممارسة الحكم
قراءة في محاضرة صوتية لسماحة الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي – طاب ثراه-
محمد علي جواد تقي
2017-08-16 06:00
"...أما الامر الرابع لإقامة حكم الله؛ الممارسة، وهذا يحتاج ايضاً الى طول مدة.
إن الانسان غير قادر دائماً، من بناء الحياة إلا بمخزون هائل من التجارب، تجارب نفسه والآخرين، هذا المخزون الهائل هي التي تقود الحياة.
فالخطيب الذي يبغي النجاح في الخطابة، هل يكفي أن يحفظ القصائد والآيات القرآنية والقصص المعبرة، ثم يصعد المنبر لمرة واحدة، ليتحول الى خطيباً ناجحاً؟
وهكذا سائر المهن والاعمال، مثل الطب والهندسة وغيرها التي يكتسب الانسان العلم في هذا الجانب من الجامعات الغربية المرموقة، بيد انه لم يخطو الخطوات العملية لممارسة ما تعلمه وحفظه من العلوم، فهل يكون طبيباً أو مهندساً ماهراً وناجحاً؟
ولذا كانت فكرة "المستشفيات التعليمية" التي تستقبل خريجي كليات الطب ليبدأوا بممارسة مهنة الطبابة او التمريض وسائر التخصصات الطبية، وهكذا فيما يتعلق بالهندسة والمحاماة في المحاكم بالنسبة لخريجي كليات القانون، فلابد من وجود الاستاذ والخبير والمجرّب الى جانب المتعلم حديثاً ليكتسب منه التجربة والخبرة ثم يبدأ الممارسة الناجحة لعمله.
من هنا فان الحكم الاسلامي بحاجة الى ممارسة عملية، وإلا فانها تكون في مهبّ الريح.
وهنا نورد مثالين:
الاول؛ من فرنسا خلال فترة الاحتلال الالماني في الحرب العالمية الثانية، فبعد انهيار نظام الحكم الشرعي فيها، هاجر معظم الساسة وضباط الجيش الى الخارج، وكان منهم الجنرال شارل ديغول، الذي استقر في بريطانيا، وطيلة فترة إقامته بدأ يستفيد من تجارب الحكم، حتى انتهت الحرب بهزيمة المانيا الهتلرية وتحررت بلاده (فرنسا) فما أن عاد، حتى بدأ يمارس السياسة والحكم وتحول الى أحد رموز السياسة والقيادة في فرنسا.
أما المثال الثاني والمغاير؛ من ايران في عهد البهلوي الأول (رضا شاه) الذي حكم البلاد في مطلع القرن العشرين بالحديد والنار، وكان له جيش كبير ونظام حكم صارم، بيد انه وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، واكتشاف البريطانيين ميوله الى المانيا الهتلرية، وانقلابه عليهم، تعرضت ايران للاحتلال البريطاني وتمت تصفية رضا شاه وطرده من الحكم بإشارة بسيطة من لندن، وجاء في مذكرات رئيس الوزراء البريطاني آنذاك؛ ونستون تشرشل، انه مستغرب من عدم تعرض الجيش البريطاني للمقاومة من قبل الجيش الايراني سوى لساعتين فقط، ثم انهار تماماً.
والسبب في ذلك؛ أن نظام الحكم في عهد رضا شاه، كان صورياً وليس واقعياً، فلم يكن نظام حكم بالمعني المتعارف عليه في دول العالم، إنما حكماً اعتباطياً، وحكم كهذا يسقط اعتباطياً ايضاً ودون ضجيج، وكما هو معروف فان البريطانيين نفوا رضا شاه الى جزيرة "موريس" وسط المحيط الهندي وهناك أمضى آخر ايام حياته ثم قتلوه قبل ان يتوفى طبيعياً!
وإذن؛ فان اقامة الحكم الاسلامي يستوجب من الجميع إدراك هذه الحقيقة، بأن "مهر الجميلة غالٍ" كما هو المثل المعروف، بمعنى؛ على الجميع الاستعداد خوض التجربة والممارسة العملية لإقامة حكم الاسلام في بلادنا.
بذل علماء ومفكرون طيلة القرن الماضي، جهوداً مضنية في التنظير لتحكيم النظام الاسلامي في الحياة، مؤكدين بالأدلة والبراهين صدقية الفكرة وأصالتها، وانها الأقرب الى فطرة الانسان والى النجاح ايضاً، ولعل في طليعة من كتبوا ونظروا في هذا الاتجاه؛ الامام السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه- الذي عادّ إقامة الحكم الاسلامي، التزاماً بسيرة النبي الأكرم وأمير المؤمنين، عليهما السلام، وأعطى الفكرة بعداً عالمياً بدعوته لحكومة ألف مليون مسلم، اي تكون لدينا دولة اسلامية واحدة، وإعادة التجربة الحضارية الاولى.
وطيلة العقود الماضية، لم يصدر تشكيك او قدح بهذه الفكرة من جهة او شخصية، رغم ان هذه الفكرة – وهي في طورها النظري- تهدد بشكل ماحق فكرة علمنة الدولة وإبعاد الدين عن السياسة والحكم و ادارة البلاد والعباد، حتى حانت فرصة صعود "الاسلاميين" الى قمة السلطة و إعلانهم لشعوبهم وللعالم أنهم قادرون على تطبيق الاحكام الاسلامية وتحكيم النظام الاسلامي، بدءاً من اضافة مواد جديد مستوحاة من الشريعة الاسلامية على الدستور، ومروراً بسنّ بعض القوانين واتخاذ الاجراءات الحكومية المتطابقة مع الاحكام الاسلامية.
بيد ان مفترق الطرق في مسيرة الاسلاميين مع مسألة الحكم في اختيار الآليات والاساليب لممارسة الحكم الاسلامي، فالبعض ذهب الى إن تحقيق هذه الغاية يمر من خلال تقديس تلكم الاساليب والآليات وربطها بالنصوص الدينية مباشرة قبل النظر الى الواقع الاجتماعي والظروف الموضوعية المحيطة بالتجربة الفتية، حتى بلغ الامر بالتطرف الديني حدّاً أن يصرخ أحد كبار علماء الدين من على المنبر في ايران وهو يخاطب تيار الاصلاحيين المنادين بتحكيم ارادة الشعب، بأن "لماذا تقحمون الناس في كل شيء، فما علاقة الناس بهذه الامور...."؟!
بالمقابل رأينا تجربة من نوع جديد وبآليات جديدة ايضاً في العراق، ذهب ابطالها باتجاه "التمييع" او ما يروق للبعض وصفه بـ "الاعتدال الديني" فاستفادوا من مفهوم الحرية الواسع الابعاد في الاسلام، ليطلقوا العنان لمختلف اشكال الحرية للناس – ما عدا الحريات التي تصطدم بمراكز القرار والسلطة- من حرية التعبير والانتماء والتجارة والعمل والبناء، حتى بدت السمة الطاغية على الواقع العراقي حالياً هي الفوضى في معظم مفاصل الحياة، فلا رقيب ولا حدود على التصرفات والاعمال، حتى القضاء بات عاجزا في كثير من الاحيان، عن التدخل لضمان حقوق المواطن او حتى الحق العام.
وفي ظل هذه الفوضى المفيدة والمنتجة، تمكن اسلاميوا الحكم في العراق من السباحة بأمان في مستنقع الفساد المالي والاداري وحتى الاخلاقي دون رقيب، كونهم يحظون بغطاء شرعي – ديني، وان معظمهم من المقربين الى علماء دين وحوزات علمية ومن رواد المساجد ومن أهل الفضائل والمكارم! واذا ما اراد شخص او جهة ما توجيه ادانة اليهم، نراهم يمتشقون سلاح الدين ويرمون الناس بالجهل وعدم قدرتهم على فهم نظرية الحكم التي يعتقدون بها! وحتى عشرات المليارات التي نهبت خلال السنوات الماضية، فان لهم مسوغات جاهزة لها بغض النظر عن مدى احقيتها.
وفي كلا الحالتين حصلنا على كم هائل من الارتداد والتشكيك في صفوف الجماهير، ليس فقط في مصداقية هؤلاء الاشخاص وهم عبارة ان اسماء، وإنما بالتجربة برمتها، وما اذا كانت فكرة الحكم الاسلامي لها جذور حقيقية في التاريخ يستند اليها هؤلاء، علماً أن اصحاب التجربة الحديثة لا يريدون –قطعاً- ان يكونوا امتداداً لتجربة الحكم الأموي او العباسي أو العثماني، انما تجربة جديدة يحققون فيها السعادة للمسلمين بما عجزت عنه انظمة الحكم الاخرى.
ولكن؛ من حيث لا يشعرون وجدوا انفسهم – او وجدهم الناس- انهم أقرب الى تلكم التجارب السيئة الصيت، منهم الى التجربة التي يدعون وصلاً بها وهي تجربة النبي الاكرم وأمير المؤمنين، عليهما السلام، ومن الدلائل على ذلك؛ ممارسة الدجل في الدين، بعد الدجل في السياسة الذي مارسه من كانوا قبلهم، وإن لم يكونوا كذلك عليهم أن يعينوا الامام علي – كما طلب من الجميع- بورع واجتهاد وعفّة وسداد، لا باقتحام دهاليز المخابرات الدولية وخوض التحالفات السرية والمشبوهة دون النظر الى مدياتها المستقبلية وآثارها على مصير العباد والبلاد، وعندما سمع الامام علي، تشكيك البعض بكفاءته السياسية رد عليهم: "...وما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة، ولكل غادر لواء يُعرف به يوم القيامة".
هذه الكلمات ومثيلاتها مما يعج به نهج البلاغة، تمثل المعيار الحقيقي لممارسة السياسة والحكم بما يحفظ حقوق الناس وكرامتهم ويصون القيم والمبادئ، ومن ثم تأسيس نظام حكم ناجح من الجوانب كافة.
من هنا نفهم معنى الممارسة واكتساب التجربة لنظام سياسي ناجح في البلاد الاسلامية التي يدعو اليها سماحة الامام الشيرازي، فهو يضرب مثلاً من فرنسا التي وجد قادتها ومفكروها وعلماؤها الطريق والسبيل المناسب والمتطابق مع مجتمعهم وثقافتهم وتاريخهم، فنجحوا في إعادة بناء الدولة الفرنسية بأقوى مما كانت قبل الاحتلال النازي، بينما نرى العجز المطبق في بلادنا من الصمود بوجه احتلال خارجي ، بل حتى من الصمود بوجه غزو ثقافي رغم ضخامة الموارد المالية والقدرات الانسانية الخلاقة التي ربما تغبطنا عليها شعوب عديدة في العالم.