السيّد محمّد الحسيني الشيرازي مجدداً موسوعيّاً
(الفقه السياسي انموذجاً)
2017-06-27 04:22
الأستاذ الدكتور المتمرّس الشيخ صاحب محّمد حسين نصّار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد الصادق الأمين وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.
وبعد..
مقدّمة
تعدّ الشريعة الإسلامية الدستور الأكمل للبشرية جمعاء التي أتي بها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بحيث لم تبقى مساحة لم يدخلها التشريع الإسلامي وفي كل الأطر المختلفة سواء أكانت العقائدية أم الاخلاقية أم الشرعية وكذلك باقي المجالات التي تتفرّع منها كالسياسية والعسكرية والاقتصادية.
وقد انبرى ثلة قليلة من العلماء في التصدي لبيان تلك الاسس والنظريات الإسلامية التي شملت مختلف الجوانب الحياتية، وكان منهم سماحة اية الله العظمى الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (قد سره) الذي نذر حياته للدين والامة الاسلامية حتى أضحى سلطان المؤلفين على مدى العصور المختلفة.
وقد وقع الاختيار لبيان وتوضيح مفردة من تلك المفردات الكثيرة التي تصدى سماحته لبيانها فكان الفقه السياسي انموذجاً مختاراً للبحث والتنقيب المعرفي بغية الوصول والتعرّف على أهم ما أراده (قده).
وقد انتظم البحث على مقدّمة وتوطئة عن حياته (قده) وثلاثة مباحث مختلفة محاولاً فيها بيان ما يمكن بيانه من فيض هذا العالم الجليل التي تفتقد الأمة الإسلامية لمثله.
والحمد لله رب العالمين
توطئة: من حياة الإمام محمد الشيرازي (قدس سره)
الإمام محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي ولد في مدينة النجف في الخامس عشر من ربيع الأول عام (1347) هجرية. هاجر مع والده إلى كربلاء المقدسة عام 1356 هجرية. وتسلم في قيادة الحوزة العلمية بعد رحيل والدة عام 1380 هجرية وعمرة في الثالثة والثلاثين.
هاجر من مدينة كربلاء عام 1390 هجرية إلى الكويت وعاش بها تسع سنين. ثم هاجر إلى إيران عام 1399 هجرية حيث استقر في مدينة قم المقدسة وذلك بإصرار من العلماء والمراجع الكبار. حتى قبض فيها يوم الاثنين 2/شوال /1422 هجرية-17 ديسمبر عام 2001 ميلادي وعمره في الخامسة والسبعين وخمسة أشهر ونصف شهر (رضوان الله عليه).
ترك أكثر من ألف وثلاثمائة كتاب وكراس وعدد كثير من المؤسسات الخيرية كالهيئات الدينية والحسينية، وربى أجيالاً من العلماء العاملين وخلف نهجا فكريا متميزا، وسيرة طيبة وذكريات لا تنسى من الأخلاق الرفيعة.
ينحدر من أسرة الشيرازي العريقة التي سكنت العراق قبل قرن ونصف، والمعروفة بالعلم والجهاد والمرجعية فجده المرجع الأعلى للطائفة قبل قرن الميرزا محمد حسن الشيرازي (قد س) صاحب نهضة التبغ الشهيرة ضد الاستعمار البريطاني في ايران، وخاله المرجع الأعلى للطائفة أبان الحرب العالمية الأولى الشيخ محمد تقي الشيرازي (قدس) قائد (ثورة العشرين) العراقية وابن عم والدة المرجع الأعلى للطائفة بعد الحرب العالمية الثانية ميزرا مهدي الشيرازي (قدس) زعيم الحوزة العلمية بكربلاء المقدسة وأخوه الشهيد السعيد: آية الله السيد حسن الشيرازي (قدس) مؤسس الحوزة العلمية الزينبية.
فكان آية الله العظمى الإمام محمد الحسيني الشيرازي (قدس) يتمتع بشخصية نادرة من نوادر التاريخ الشيعي وسيرته وفكرة وآثاره ومع مرور الأيام سوف تتجلى جوانب العظمة في هذه الشخصية الفريدة وينمو الأثر الذي تركة على الناس عاما بعد عام، فهو في الدرجة الأولى مؤمن شهيد الإيمان بالله واليوم الآخر... متدين شديد المحبة لأهل البيت (عليهم السلام) وكان زاهد في زخارف الدنيا ومباهجها... ثم مرجع للتقوى، وزعيم ديني من الطراز الأول ولكنه لم يكن فقط بل كان زعيما جماهيرياً يحرك الناس باتجاه ما يؤمن به من أهداف وله كل صفات الزعماء من الشجاعة والإقدام والعبقرية....الخ.
وكان كاتبا ومؤلفا ترك من الآثار ما تعجز عن تصديقه الأذهان أكثر من ألف كتاب.
وكان مفكرا صاحب رأي وتحليل ونظرية في شتى جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وقد صدرت عنه عدة كتب عن منهجه الفكري في الآونة الأخيرة من حياته.
وكان مثالا للأخلاق وصانعا لامته حتى كان يقول اعداؤه وخصومة لا تزوروه فانة يسحر الناس بأخلاقه وكان نموذجيا لأولاده وجدّاً لا ينسى لأحفاده محبوباً لديهم وشخصيته ايضاً نادرة ذات أبعاد متعددة من يطلع على موسوعته الفقهية التي بلغت المائة والستين مجلدا قد يتصور ان صاحبها مجرد فقيه ولا غير.
ومن ينظر إلى مشاريعه ومؤسساته الدينية والاجتماعية التي تنشر من كربلاء... الى واشنطن يتصور انه كان باني المؤسسات الخيرية فقط.
وأما من يدرس سيرته من الحكام فيراه، مجاهدا صلبا في سبيل الله يقارع الظالمين ويؤلب الأمة عليهم صابرا محتسبا على ما يلاقيه في هذا الطريق.
وقد ربى جيلاً من العلماء العاملين المجاهدين وكان قدوة في أسرته ومجتمعه وأمته وسيبقى مثالا يحتذى لفترة طويلة فجر نهضتين: الأولى في كربلاء والثانية في الكويت ولو أتيحت له الفرصة لفجر نهضة أخرى ثالثة وقد أرسى قواعدها بفكرة وان كان قد منع من قيادتها بشخصه. وهاجر مرتين الأولى من العراق الى الكويت والثانية من الكويت الى إيران وله تاريخ طويل وكل ما كتب عنه ليس إلا كقطرة من بحر خضم، وكان يقابل الإساءة بالإحسان ويغضي عن السيئة ويعفو عن المسيء وكان محمدي الأخلاق.
وكان السيد محمد الشيرازي مثالا للزهد والتواضع في كل شيء وفي كل بعد تراه مقدما على أقرانه ولا يرى ذلك فخرا ولا عجزا عن حياة الراحة والرفاهية فقد عاش في أجواء وظروف لو عاشها غيره لعجز عن الوصول للدرجات الدنيا التي وصلها فقيدنا الراحل وكان (عطر الله ثراه) لا يرى في الزهد تربيته للنفس وارتقاء للروح فقط وإنما كان ينظر اليه باعتباره عنصر المواساة الأول مع الفقراء والضعفاء كان ينظر إليهم أولاً قبل نفسه وربما كان لا ينظر إلى نفسه بقدر ما ينظر إلى صورة أولئك الذين يئنون من الجوع ولا يجدون ما يسد رمقهم، وكان يتمثل بقول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى)) أأقنع من نفسي بان يقال هذا مرجع المسلمين ولا أشاركهم في مكاره الدهر او أكون أسوة لهم في جشوبة العيش.. الآخر الفقير الآخر الضعيف الآخر المسكين الآخر المستضعف هو أول ما يفكر عند كل خطوة يخطوها او حركة يقوم بها في احترام الإنسان الضعيف وحفظ كرامته والدفاع عنة واخذ حقوقه.
المبحث الأوّل: الفقه السياسي، مفهومه، أهميته
المطلب الأوّل: مفهوم الفقه السياسي
أولاً: تعريف الفقه
هو العِلْم في الدّين، يقالُ: فَقُهَ الرّجل يَفْقُهُ فِقْهاً فهو فَقيهٌ. وفَقِهَ يَفْقَهُ فِقْهاً إذا فَهِمَ العين(1).
وذكر في غريب الحديث: (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ) وَالْفِقْهُ: التَّفَهُّمُ فِي الدِّينِ وَالنَّظَرُ فِيهِ وَالتَّفَطُّنُ فِيمَا غَمَضَ مِنْهُ، فَقِهَ يَفْقَهُ وَهُوَ فَقِيهٌ وَأَفْقَهْتُهُ: بَيَّنْتُ لَهُ غريب الحديث لإبراهيم الحربي(2).
وفي اللسان: إن الفِقْهُ: الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ والفهمُ لَهُ، وغلبَ عَلَى عِلْم الدِّينِ لسِيادَتِه وَشَرَفِهِ وفَضْلِه عَلَى سَائِرِ أَنواع الْعِلْمِ كَمَا غَلَبَ النجمُ عَلَى الثُّرَيَّا والعُودُ عَلَى المَنْدَل؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: واشْتِقاقهُ مِنَ الشَّقِّ والفَتْح، وَقَدْ جَعَله العُرْفُ خَاصًّا بِعِلْمِ الشَّرِيعَةِ، شَرَّفَها اللَّهُ تَعَالَى،... قَالَ غَيْرُهُ: والفِقْهُ فِي الأَصل الفَهْم. يُقَالُ: أُوتِيَ فلانٌ فِقْهاً فِي الدِّينِ أَي فَهْماً فِيهِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ لسان العرب(3).
فالفقه هو المعرفة التامة لاستنباط الأحكام وإسقاطها على الواقع المناسب.
ثانياً: تعريف السياسة
إن أصول الفقه السياسي هو قواعد لفهم ما يجري في العالم، وقواعد لاستنباط ما يناسبه من أحكام وفتاوى على موازين الكتاب والسنة، وأي فتوى تُنَزَّلُ على محلها بغيره؛ فهي رمية من غير رام.
وواضح أن السياسة سواء كانت شرعية أو جاهلية هي النظام الشامل للأمة التي تسير وفقها أرجع وأقول أن النظام السياسي بهذا العموم هو دين وهو إما الدين الذي ارتضاه الله أو الدين الوضعي. فإذا كانت السياسة الشرعية فتشمل كل شيء وأوله إقامة حكم الله في الأرض وأن يكون الخضوع للتشريع الرباني وهذا أمر عقدي ثابت وهو من أهم أمور السياسة الشرعية وكل واجبات الدين عقدية كانت أو من الفروع على رأي من قسم هذا التقسيم داخلة في مسمى السياسة الشرعية.
تعريف الفقه السياسي:
يعرّف الفقه السياسي بعدد من التعريفات منها:
1 ـ هو مجموعة الأحكام الشرعية التي تتناول الأحكام السياسية كالحكم، وإدارة الدولة، والعلاقات الخارجية، وهذه الأحكام مستنبطة من مصادر الفقه الإسلامي، بالإضافة إلى الأعراف والتقاليد التي درجت عليها الدولة الإسلامية بما لا يتنافى والمبادئ الإسلامية(4).
2 ـ إن علم السياسة الشرعية يُبحث فيه عَمّا تُدَبّر فيه شؤون الدول الإسلامية من القوانين والنظم التي تتفق وأصول الإسلام، وإن لم يقم على كل تدبر دليل خاص(5).
فالسياسة جزء من متطلبات الاسلام والحياة الاسلامية، فمن خلالها تتم ادارة العباد والبلاد وتنظيمهما.
المطلب الثاني: أهمية الفقه السياسي
كانت الشريعة الإسلامية ومنذ الوهلة الأولى شريعة متجددة تتداخل مع مفاصل الحياة كافة، فقد اشتملت على عناوين فقهية مأطرة بقوانين تشريعية متكاملة سواءً أكانت على مستوى الفكر أم التطبيق وبشكل لا نظير له.
غير أن المسلمين ولا سيما في العهود المتأخرة لم يولوا هذه العناوين اهتماماً كافياً لإعطاء القوانين صفتها العلمية لا على مستوى الفكر ولا التطبيق بما يتلاءم وروح التطورات التي دخلت مجتمعاتنا فبقت أكثر هذه العناوين والقوانين مجرد نصوص ومآثر تروى على شكل حكايات لتأخذ في عصرنا الحاضر جانباً بعيداً كل البعد عما هو معاش في الحياة الواقعية.
وبالرغم من ذلك فهذا لا يعني ابتعاد المسلمين وبصورة نهائية عن التطبيق الحي لهذه القوانين خصوصاً بوجود علماء أفذاذ قاموا بحمل الرسالة العلمية للإسلام وإدخالها في قبة التطبيق، ومنهم الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي ومن بين تلك القوانين الفقه السياسي أو القانون السياسي الخاص بالمجتمع المسلم، إذ يعد الإمام الرائد في وضع اللمسات البارزة لإنشائه.
وإذا شئنا أن نوضح أهم الملامح الرئيسة التي تميز بها فكر المرجعية الشيرازية في مجال السياسة نجده يتميز بما يلي:
1- الحركة والفاعلية المستمرة التي تميز بها هذا الفكر من خلال احتكاكه المباشر مع أهم القضايا الجديدة والمعاصرة وتناولها وباسلوب إسلامي مرن أكثر جدة وأكثر عصرنة، فقد حرص على معالجة المستجدات في أي جانب من جوانب المجتمع.
2- حرصه على الجانب التطبيقي، وهذا ما حصل في ترجمة الأفكار التي طرحها سماحته إلى حيز التطبيق من قبل الهيئات والمؤسسات التابعة لمرجعيته حيث أعتاد التركيز على هذا الجانب لا في مجال السياسة فحسب وإنما تعداه إلى أن يشمل كل الجوانب الأخرى في الاجتماع والإدارة والاقتصاد من خلال تطبيقه لمبدئي الحرية والتعددية.
والفقه السياسي عند الإمام الراحل إنما يمثل مشروعاً سياسياً قائما على دمج الدين بالسياسة إنطلاقا من قوله تبارك وتعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين)(6)، بدلا من فصلها عنه لكي لا تنطلق السياسة بشكلها المطلق فتكون وبالاً وعالماً بلا أخلاق، ولهذا فإن الإمام تجاوز الخطأ الشائع في فهم الدين وفهم السياسة والعلاقة بينهما، فالمفهوم الإسلامي للسياسة عند الإمام أوسع من وظيفة الدولة وأوسع من وظيفة زمن محدد ومكان محدد.
المبحث الثاني: مشروعية الفقه السياسي
من المهم أن نبحث عن مشروعية الفقه السياسي وما يرتبط به وذلك من خلال العودة إلى الأدلة المتوفرة عندنا أعني (الكتاب العزيز والسنة الشريفة والإجماع والعقل) ولو بشكل مختصر لمعرفة أهم الأسس الشرعية لهذه الأحكام وكما يأتي:
المطلب الأوّل: الكتاب العزيز
يستدلّ السيد محمد الشيرازي (قدس سره) على مشروعية العمل السياسي(7) من القرآن الكريم بقوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً...)(8).
لقد كرم الله عز وجل الإنسان غاية التكريم، ورفع منزلته ومكانته على مكانة ومنزلة سائر مخلوقاته، وجعله وحده مستخلفا في الأرض، وسخر له كل ما في السموات وما في الأرض وما بينهما (الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون. وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)(9) ليقوم بأمانة الاستخلاف وعمران الأرض، وذلك بمقتضى العهد الذي أخذه الإنسان على نفسه مع خالقه (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا)(10)، وليتحقق ذلك، جعل الله سبحانه وتعالى دينه دين الجماعة، فجمعت تكاليفه بين الفردية والجماعية… وهذه التكاليف تزداد ثوابا ومردودا في ظل مجتمع تسوده القيم الإسلامية.
فالمجتمع الإسلامي هو مجتمع التوحيد والإيمان، والإقرار بالعبودية لله تعالى، فهو الله الذي لا إله إلا هو، خالق كل شيء ومليكه، مالك الملك، لا رب سواه، ولا معبود بحق غيره، ألا له الخلق والأمر، واحد في ألوهيته، وواحد في ربوبيته، وواحد في أسمائه وصفاته، ليس كمثله شيء وهو السميع العليم. وهكذا يقرر الإسلام أن الله خالق الكون وما فيه، وهو الرقيب على أعمال الإنسان حسنها وسيئها، وسيرجع إليه ليحاسبه على ما فعل من خير أو شر (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)(11).
وهكذا يعلم الإنسان أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم المحسن ولا يثيب المسيء (ولا يظلم ربك أحدا)(12)، كما يعتقد اعتقادا جازما أن الله عز وجل لا يضيع أجر المحسنين، ولا يصلح عمل المفسدين (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليهم القول فدمرناها تدميرا)(13) ومن ثم ينطلق الإنسان للإسهام في بناء مجتمع الإيمان والمحبة بدل مجتمع الكراهية والإعراض عن الله تعالى، فتنتشر معاني التراحم، والتعاطف، والتعاون بين أفراده، وتقديم الإيثار على الأنانية، والعمل للمعاش والمعاد، فيتحقق في أفراد المجتمع قوله تعالى:(قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)(14).
المقصد الأوّل: معنى الاستخلاف وأنواعه
أوّلاً: معنى الاستخلاف
الاستخلاف في اللغة التعاقب والتداول، وفي الاصطلاح إنابة الإنسان وتوكيله عن الله تعالى في الأرض لعمارتها ولتنفيذ مراده سبحانه وتحقيق مشيئته وإجراء أحكامه، تشريفا له وتعظيما لقدره(15).
ثانياً: أنواع الاستخلاف
1ـ الاستخلاف العام: وهو الذي يكون في مختلف مجالات الحياة الدنيوية. فهي عملية إصلاح شامل وفقا للأمانة التي حملها الإنسان والمشتملة على إخلاص العبادة لله والالتزام بحقوق الناس.
2 ـ الاستخلاف الخاص: ويكون في مجالين:
أ ـ العبادات البدنية: كالصلاة والصوم مثلا.
ب ـ العبادات المالية: بتدبير مواردها وتنميتها وكيفية صرفها، ومعالجة جميع صيغ معاملات الناس المتعددة من عقود عوضية أو تبرعية والتي يحقق تطبيقها تنوعا في الخدمات المالية يؤدي إلى نظام مالي إسلامي متكامل.
فالخلافة في المال في التصور الإسلامي فرع عن أصل الخلافة الموكولة للإنسان في الأرض، ومضمون هذا المبدأ أن المال في جوهره مال الله تعالى وأن الإنسان مجرد موكل على التصرف فيه بمقتضى أمر الله وشروطه.
3 ـ العلاقة بين الاستخلاف في الأرض والاستخلاف في المال: الاستخلاف في المال فرع عن الاستخلاف في الأرض الذي يمثل الأصل
4 ـ القواعد الأساسية لنظرة الإسلام إلى الملكية والحيازة:
أ ـ مفهوم متميز للملكية والحيازة: رفع يد الإنسان وتجريده من التملك الحقيقي واعتباره وكبلا ومستخلفا والمال في حوزته مجرد عارية أو وديعة.
ب ـ مفهوم التصرف المقيد بمقتضى مبدأ الاستخلاف في المال: فالإنسان ليس مطلق الحرية لما في حوزته من المال أو الملك لذلك فهو مدعو للخضوع في كل تصرفاته المالية لشرع الله تعالى، فلا يكسب مالا إلا كما أمره الله تعالى ولا ينفقه إلا فيما يرضيه سبحانه.
ثالثاً: مفهوم المال: هو كل ما يملكه الفرد أو تملكه الجماعة من متاع أو عروض تجارة أو عقار أو حيوان أو نقود.
رابعاً: أهمية المال وقيمته في الحياة الإنساني
1 ـ المال قوام الحياة الإنسانية: فالمال في التصور الإسلامي عماد الحياة الذي تنتظم به شؤونها، وتوجيها لخطر المال وعلو شأنه وصف بأنه (زينة الحياة الدنيا). لذا شرع الإسلام منظومة من الأحكام الضابطة لوجوه كسبه واستثماره والمحققة لحسن تدبيره واستهلاكه.
2 ـ المال شهوة وفتنة: فالإنسان يميل غريزيا للتملك وجمع المال والثروات، وهو شهوة قد تنحرف بالإنسان عن سبيل الاستقامة والاعتدال، لذا حذر الإسلام من فتنته، وربط بينه وبين دوافع الطغيان وحب السيطرة، وأكد على حاجة الإنسان إلى التعبئة الروحية لتهذيب غريزة التملك للحفاظ على توازنه.
3 ـ أوجه الاستخلاف في المال:
أ ـ الارتكاز على تدبير الموارد والنفقات وفق شرع الله تعالى
ب ـ إقرار مبدأ الملكية الخاصة على أساس مبدأ "المال مال الله والإنسان مجرد مستخلف فيه.
ج ـ إقرار الملكية العامة لتحقيق تنمية المجتمع وتقدمه، والتوازن بين أفراده وتغطية التضامن والتكافل الاجتماعيين.
د ـ تشريع قانون الحسبة لاسترداد الحقوق وحفظ الممتلكات وردع الظالمين وتشجيع المستثمرين.
المقصد الثاني: عناصر الاستخلاف الكبرى
لقد أوضح الباري عز وجل قضية الاستخلاف وأشار اليها في موارد كثيرة ونحن نأتي على أوضحها صورة وكما يأتي:
أوّلاً: الإنسان مستخلف
لقد أعلى الإسلام مكانة الإنسان، وجعله مناط المسؤولية والتكليف. وإذا تأملنا في كتاب الله عز وجل نجد أن قصة الخلق كلها تدور حول شخص واحد، جعله الله في الأرض (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)(16) ودعا الملائكة للسجود بين يديه، وسخر له ما في الأرض جميعا، وأعلن كرامته في أكثر من نص، وخصه بالتكليف والشرائع، ووضع على كاهله العبادات والفرائض، وهداه النجدين.. وأناط به مسؤولية العيش في المجتمع؛ فللجماعة على الفرد حقوق عينية وأخرى كفائية: أوجب عليه الزكاة، وحضه على الصدقة، وإغاثة الملهوف، والعمل على نفع الخلق، والتعاون مع الآخرين على البر والتقوى، كما حرم عليه دماء الآخرين وأعراضهم وأموالهم، إلا بحقها.
وإلى جانب هذه الحقوق العينية، قرر الإسلام مجموعة من الحقوق الكفائية، التي تعتبر بحد ذاتها أصلا تشريعيا فريدا في نظرتها للإنسان. بكل هذا تتميز نظرة الإسلام للإنسان على أنه خليفة ومستخلف كما جاء في العديد من الآيات الكريمة:
1 ـ (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض...)(17).
2 ـ (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه...)(18).
3 ـ (هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)(19).
فالإنسان، في الإسلام، خليفة، عليه أن يقوم بمهامه على أساس الاستخلاف، الذي فرضه عليه المستخلف، صاحب الأمر الأول ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين 11، والمستخلف، هو الذي يتصرف في مادة الاستخلاف على أساس ما يقرره المالك الأساسي للحياة والكون.
ثانياً: المال مال الله تعالى
لقد عنيت الشريعة الإسلامية بالمال اهتماما بالغا، ووضعت له نظرية متكاملة تحكم تملكه، واستثماره، وكيفية تكوينه، ورسمت المنهج الذي ينبغي أن يسير فيه؛ فقد ورد في ذكره نصوص متضافرة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، بل إن كثيرا من الآيات قرنت بين النفس والولد والمال. فالمال محبب إلى الناس كحب النفس والولد، ولا يمكن أن يعيش الناس بدونه، ولذلك يحرصون على جمعه واقتنائه، يقول الله عز وجل:
(زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب)(20).
ويقول سبحانه: (كلا بل لا تكرمون اليتيم، ولا تحاضون على طعام المسكين، وتاكلون التراث أكلا لما، وتحبون المال حبا جما)(21).
فالمال له وظيفة اجتماعية، يجب أن ينتفع به المجتمع، وأن تستفيد منه الكائنات الموجودة، حتى يتحقق التكافل الاجتماعي.
فإذا طغى الإنسان بماله، أو منع حقه، أوحال بين وصول نفعه إلى الخلق، انتقم الله سبحانه منه، ونال عقابه الإلهي، مثل ما حدث مع “قارون” الذي خسف الله به وبداره الأرض.
وباستقراء النصوص الشرعية المتعلقة بالمال، نجد نوعين منها: نصوص تسند ملكية المال إلى الله سبحانه وتعالى، وأخرى تسند ملكيته إلى الناس(22).
وتملك الإنسان للمال مجاز، أي أنه مؤتمن على المال ومستخلف عليه (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه)(23) ويترتب عليه أن الإنسان ملزم بالتقيد بأوامر الله سبحانه في التملك بحسب ما يريده صاحب الملك. والناس على السواء، لهم حق في تملك خيرات الأرض. والملكية الفردية حق ممنوح من الله سبحانه وتعالى، والمال ليس غاية مقصودة لذاتها، وإنما هو وسيلة للانتفاع بالمنافع وتأمين الحاجيات.
ثالثاً: الاعتدال والتوازن
بما أن المال مال الله تعالى، وأن الإنسان مستخلف فيه، فعليه أن يقوم بمهام الاستخلاف ضمن الحدود التي يضعها الإسلام ويقرها.
والتصرف في المال، كيفما كان نوع المال، له ضوابط، فصاحب المال ليس حرا في إنفاقه كما يشاء، بل الضابط والأصل في هذا النوع من التعامل الاعتدال والتوازن: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك، ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا)(24).
(يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد، وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين)(25).
فالإسلام لا يحرم طيبات الحياة، بل يدعو إلى التوازن والاعتدال، ليس في الإنفاق فقط، بل في كل مناحي الحياة، ولهذا نجده ينهى عن كل ما يؤدي إلى المفاسد الفردية والاجتماعية على السواء. فقد حرم الإسلام الترف، والغش، والظلم، كما كره تكدس الثروات في أيدي قليلة في المجتمع لما يؤدي إليه ذلك من إفساد واستغلال، ولذلك يوصي الله تعالى بتجنب ذلك (كي لا يكون دولة بين الأغنياء...)(26)، أما إذا جمع المال بالطرق المشروعة، وأنفق منه بالاعتدال، فهو مصون في يد صاحبه، والمجتمع يحترم هذا النوع من الملكية (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل...)(27).
فالاعتدال والتوازن في جميع مجالات الحياة يسمح باستقرار النظام الاجتماعي، ويحقق البعد عن الغلو والتعسير، ولذلك قال الله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)(28)، كما ذم سبحانه ما خالف الاعتدال فقال: (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين)(29).
وهذه الروح البناءة لا تتوفر لأية منظومة أخرى مستمدة من الأصول الوضعية، وتتجلى الأهمية الكبرى لهذا الأمر في كل ماحض عليها الإسلام، والمراد منها الثواب والقرب من الله تعالى لتحقيق المنافع المشروعة على اختلاف أنواعها وتعدد مجالاتها.
فالمسلم يتنازل طائعاً مختاراً عن أمواله أو عن جزء منها وإعادتها إلى المالك الحقيقي الله تعالى، مما يسهم بفاعلية في تطور المجتمع المتماسك.
المطلب الثاني: السنة
يستدلّ السيد محمد الشيرازي (قده) على مشروعية العمل السياسي(30) من خلال السنة الشريفة بقوله (صلى الله عليه وآله): ((اللهم ارحم خلفائي)).
لقد شاء خالق الأكوان أن يكون ذلك اليتيم القادم من وادٍ غير ذي زرع أعظم عظماء الدنيا بأسرها، وأن يتمكن أتباعه من قلب موازين القوى والأحداث في الخارطة العالمية، ويصدق العقاد حينما يذهب إلى ((أن التاريخ كله متصل ومرهون بعمل محمد صلى الله عليه وآله))(31) فالرسول القائد (صلى الله عليه و آله وسلم) لعب دوراً محورياً في التغيير العام للبشرية من خلال الدعوة التي اختاره الله لها، وبالرغم من كل المهام الصعبة التي أوكلت إليه فهو لم يفكر يوماً بالتخلي عن أداء واجبه، ولم يدر في خلده أبداً الهروب من المواجهة، بل على العكس كان قائداً حكيماً يجيد فن التوقيت كما يجيد فن الصبر والاحتمال وسياسة النفس الطويل، وفوق ذلك كله فهو السياسي المحنك، والقيادي الفذ الذي تدين له البشرية جمعاء.
وهو الوحيد الذي نجح نجاحاً لا نظير له على المستوى الديني والدنيوي، وأنه نشأ في محيط بسيط، بعيد عن الفنون والعلوم، واستطاع في زمن قصير أن يستقطب جميع القبائل العربية في جزيرة العرب، ويجعلها بحكمته وسياسته تدخل في الإسلام عن قناعة وايمان مستعيناً في ذلك ببلاغة القرآن.
هنا، محاولة سريعة لتسليط الضوء على نماذج من سياسة الرسول (صلى الله عليه و آله) الحكيمة عبر سياسته الداخلية والخارجية:
أولاً: السياسة الخارجية
لابد لأي دولة في العالم من التعامل والتعاطي مع الدول المجاورة عبر سياسة خارجية متبناة من قبل القيادة في تلك الدولة، وتتنوع العلاقات الخارجية على التعاون وحسن الجوار وتبادل الزيارات وإبرام الإتفاقيات وتقريب وجهات النظر، وقد تكون العلاقات بين دولة وأخرى تسودها القطيعة والجفاء أحياناً، وصولاً إلى الخصومة والحرب(32).
والرسول باعتباره صاحب الرسالة الإسلامية العالمية كان لزاماً عليه أن يحيط بما يجري حوله في الدول المجاورة، ومعرفة أخبارها وبالتالي دعوتها إلى الإسلام، وفعلاً أثبت الرسول (صلى الله عليه و آله) مقدرته وبراعته في التحرك الخارجي عبر بُعد النظر وتشخيص الصالح من الطالح، والتقدير المناسب للأمور والقدرة الفائقة في عملية الكسب إلى الإسلام.
ثانياً: التواصل
من الطبيعي أن يتبنى الأنبياء عملية الاتصالات الخارجية من أجل تبليغ الرسالة بالرغم من ضعف وسائل الاتصال آنذاك، ولم تكن العملية يسيرة أبداً، حيث بادر الرسول (صلى الله عليه وآله) في بادئ الأمر إلى مخاطبة الملوك ورؤساء القبائل، عبر إرساله الموفدين والمندوبين من قبله وهم يحملون رسائله الشفوية والخطية التي كانت رائحة الإسلام تفوح من بين كلماتها.
ولعل أول تلك المراسلات الخارجية للرسول (صلى الله عليه وآله) كانت مع النجاشي، حيث جاء فيها:
((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة، سلام عليك، أحمد الله الذي لا إله إلا هو الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته، ألقاها إلى مريم البتول، الطيبة، الحصينة، فحملت بعيسى، حملته من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده....))(33).
وتلك المناغمة الحكيمة من قبل الرسول (صلى الله عليه وآله) مهّدت الأرضية فيما بعد تماماً إلى اختيار الحبشة لهجرة المسلمين إليها بعد اشتداد الضغط عليهم، حيث أن موقف النجاشي معروف عند سرد أحداث هجرة المسلمين من مكة إلى الحبشة.
ولم تقتصر القائمة التي أعدها الرسول (صلى الله عليه وآله) في التحرك على الصعيد الخارجي وإيصال الدعوة الإسلامية إلى أبعد نقطة على النجاشي فقط، حيث ضمت تلك القائمة هرقل عظيم الروم وأسقف الروم في القسطنطينية، أسقف إيله، وكاتب ملوك العرب والمقوقس عظيم القبط في مصر وكسرى ملك الفرس.
والمصاهرة هي إحدى المحاور التي تحرك عليها الرسول (صلى الله عليه وآله) وهو في طريقه إلى الاتصال بالأقوام والقبائل الأخرى، وقد استطاع الرسول (صلى الله عليه وآله) من خلال تلك العملية أن يختصر الكثير من الوقت وهو يهم بانتقال الدعوة الإسلامية من حيز أمة العرب إلى بقية القوميات والمذاهب الأخرى.
فزواجه من جويرية بنت الحارث (سيدة بني المصطلق)، كان نعمة عظيمة على قومها، حيث كانت النتائج المباشرة لذلك الزواج إطلاق سراح مئات الأسرى من أبناء تلك القبيلة التي وقعوا أسرى بيد المسلمين، كما انشدّوا إلى المسلمين برباط من الصداقة، فدخلوا الإسلام فيما بعد.
أما اليهود فلم ينس الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يكسبهم عن طريق البناء بامرأة من نبيلاتهم، وذلك أعقاب فتح خيبر سنة 7هـ وهي صفية بنت حُييّ (عقيلة بني النضير) التي طالما افتخرت بزواجها من النبي (صلى الله عليه وآله).
فيما وهب الأقباط في مصر إحدى نسائهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فلم يردها الرسول إليهم وتزوجها، وهكذا فتح الرسول (صلى الله عليه وآله) جسراً ممتداً من العلاقات ما بين مصر والجزيرة العربية حتى أن الرسول استوصى بهم حيث قال: ((استوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذمة ورحماً))(34).
هذا وقد مارس الرسول (صلى الله عليه وآله) السياسة بمفاهيم مثالية قد لا يستوعبها الناس آنذاك، مع أنه عاش الواقع ومارس (فن الممكن) فتحالف مع مشركين في حلفه مع خزاعة، وتعاقد مع يهود في الصحيفة، فلم ينقض عهداً ولم يغدر بعدوٍ ولم يتخلّ عن صديق.
ثالثاً: المفاوضات
تمخضت مفاوضات الحديبية عن عقد اتفاقية صلح وهدنة بين المسلمين وقريش تضمنت شروطاً عديدة اتفق عليها الطرفان.
والمتتبع لمجريات أحداث هذا الصلح يلمس وبوضوح مدى المقدرة السياسية في تنظيم ذلك الميثاق وكتابته، حيث استطاع الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يهيئ الأرضية لانتشار الإسلام في المناطق الأخرى فلقد دخلت في الإسلام العديد من القبائل بعد توقيع الصلح وبعد أن أزيل الخوف عنها حيث اعترفت قريش في ميثاق هذا الصلح بالكيان الإسلامي بصورة رسمية مما أعطى المسلمين فرصة في التغلغل في صفوف الأمة من خلال نشاطهم التبليغي ودعوتهم إلى الإسلام.
تلك الجهود التبليغية أثمرت فيما بعد عن فتح مكة بعد عامين من اتفاقية الصلح بعشرة آلاف مسلم بعد أن كان عدد المسلمين عندما قدموا إلى مكة لا يتجاوز الألف وأربعمائة مسلم.
ومن هنا تتجلى فائدة هذا الصلح في توسيع الكيان الإسلامي، حيث يعدّ هذا الصلح خطوة في انتصار الإسلام بما لا يقبل التشكيك والمجادلة. ورغم أن أصواتاً تعالت من بعض صحابة الرسول (صلى الله عليه و آله) تعارض بعض بنود الإتفاقية فيما بعد، إلا أن الرسول آثر الالتزام بعهده، وبهذا فقد أبطل الرسول فصول جميع الدعايات المضادة التي كانت تروج ضده، حيث أثبت للجميع أنه حقاً رجل الإسلام، وداعية خير للبشرية، ومع العلم أن الرسول(صلى الله عليه و آله و)لم يبرم هذه الاتفاقية مع قريش بسبب ضعفه العسكري والمعنوي، فلو كان قاتل قريشاً وقتها فمن حكم المؤكد أن يغلبها وقد صرحت بذلك الآية الكريمة (ولو قاتلكم الذين كفروا لولّوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيراً)(35).
رابعاً: السياسة الداخلية
تسيير أمور البلاد ضمن حدودها، والقضاء على المشاكل الداخلية والعمل على إيجاد مشاريع مستمرة من أجل المصلحة الداخلية للبلاد ترافقها سياسة حكيمة وعقلية راجحة، هذه هي أبرز محاور السياسة الداخلية الناجحة. والسياسة الداخلية التي اتخذها الرسول (صلى الله عليه وآله) في المدينة قادت إلى إيجاد دولة خضعت إلى التطور باستمرار حتى تفوقت على جميع الدول التي عاصرتها في جميع الميادين.
خامساً: المؤاخاة
استطاع الرسول (صلى الله عليه وآله) بعد استقراره في المدينة من تكوين نواة أمته من أبطال يسترخصون الحياة في سبيل الله والدين الجديد، ولذلك كان أول ما قام به الرسول(صلى الله عليه وآله) هو تنظيم صفوف المهاجرين والأنصار عبر المؤاخاة.
إن أبرز الدوافع التي تقف وراء طرح الرسول لمشروع التآخي هو أن المسلمين كانوا –وقتها- يواجهون الكثير من المصاعب التي تتطلب التعاون والتعاضد لتذليلها وهكذا أراد النبي (صلى الله عليه وآله) بهذا المشروع أن يسمو بعلاقات هذا الإنسان عن المستوى المصلحي وجعلها علاقة إلهية تصل إلى درجة الأخوة، وقد كرس الرسول من خلال هذا المفهوم أيضاً الوحدة السياسية والمعنوية بين المسلمين، كما قوّى أسسها ودعائمها(36).
ومن الطبيعي أن يهتم الرسول (صلى الله عليه وآله) بالواقع الشعبي لأمته آنذاك، فالدولة –كما هو معلوم- لها ثلاثة أركان، وأحد أهم أركان هذه الدولة هو الشعب) أما الركنان الآخران فهما الأرض والسلطة.
ولهذا بدأ الرسول (صلى الله عليه وآله) بالركن الأول وهو إعداد المسلمين عقائدياً ونفسياً وعسكرياً، فأية دولة لا تقوم على قاعدة شعبية تجعل من المواطنين مجموعة من اللامبالين الذين يتراجعون بالدولة إلى الوراء..
وقد استمر مشروع التآخي الذي طرحه الرسول (صلى الله عليه وآله) في المدينة حتى عزّ الإسلام، واجتمع الشمل بعد أن ذهبت آثار الغربة المملوءة بالوحشة.
المطلب الثالث: العقل
يستدلّ المجدد السيد محمد الشيرازي (قده) على مشروعية الفقه السياسي بدليل العقل، إذ جاء في كلامه ما نصّه: ((حيث أنه دلّ على وجوب تنظيم أمر البشرية عامة، والأمة الاسلامية خاصة، وقبح ترك الناس فوضى لا نظام لها))(37).
فالنظام العام تعبير فقهي مستحدث يراد به: (حالة استقرار أوضاع الناس المختلفة على طبق المصالح الأساسية للأمة ضمن أهدافها الدائمة أو المؤقتة) فيشمل مرحلة ما لو كان الحاكم مسلماً عادلاً أو جائراً أو غير مسلم، وذلك لأن قيام المجتمع بوظيفته يتوقف على درجةٍ من الاستقرار وانتظام الأمور تتيح له تحقيق عدد من الغايات، بما في ذلك سعي المصلحين فيه للانتقال بالدولة إلى مرحلة العدل والصلاح وتطوير المجتمع، فيجب "حفظ" هذا القدر من الاستقرار والنظام العام، لأن "الإخلال" به يسبّب فوضى تربك المجتمع وتقوض مسعاه الطبيعي باتجاه أهدافه.
ويتمثل النظام العام بجميع المؤسسات والمرافق الموضوعة لخدمة الناس والتي تتضمن إيجابيات كبيرة أمام قليل من السلبيات التي يصعب إزالتها، بما في ذلك سلبية كونها جزءاً من نظام سياسي لا ترضى به الحركة الإسلامية الآن؛ وهو بهذا المعنى يشمل جميع مرافق الخدمات العامة، مثل البريد والهاتف والماء والكهرباء والتنظيم المدني والبلديات، كما يشمل المنشآت العامة التي تعود لمختلف الإدارات الحكومية والأهلية، مثل المدارس والمستشفيات والمتاحف وغيرها، كذلك فإنه يشمل جانب الالتزام بمقتضيات الأمن العام والسلم الأهلي، ونمطاً محدداً من العلاقة مع الحاكم وأجهزته، وأموراً أخرى كثيرة يوكل أمر تحديدها لنظر الحاكم الشرعي بالنحو الذي يتحقق فيه التوازن في سلوك الأفراد بين التزامهم بشريعة الإسلام وبين تكيفهم مع مقتضيات الظروف وتقلباتها في ظل نظام غير إسلامي.
ثم إن أي تشريع متعلق بتنظيم حياة الإنسان وسلوكه داخل الجماعة؛ يكون في أصل وضعه؛ وفي تفاصيل مضمونه؛ مبنيا على تحقيق غاية هي المقصود من وضع أي تشريع؛ لا فرق بين أن يكون هذا التشريع قانونا وضعيا أو قانونا سماويا؛ والإسلام كشريعة منظمة لحياة الناس جاء لتحقيق غاية مقصودة وضعت تكاليف الشريعة من أجلها.
فإذا كانت الغاية من خلق الإنسان هي أن يكون خليفة في الأرض خلافة قائمة على العبادة والعمارة؛ فان المقصد العام من الشريعة الإسلامية، التي وضعها الله خطابا تكليفيا له، يدور حول تحقيق غاية الإنسان من الاستخلاف؛ وينتج من هذا أن المقصد الأعلى للشريعة هو تمكين الإنسان من تحقيق ما فيه خيره ومصلحته بتحقيق غاية وجوده؛ وهي الخلافة في الأرض؛ بما يفضي إلى سعادته في الدنيا وفي الآخرة.
ونظرا للطبيعة الاجتماعية والمدنية التي فطر الله عليها الإنسان والتي تدفع إلى ضرورة الاجتماع مع بني جنسه والتعاون فيما بينهم من أجل تلبية احتياجاته ومصالحه التي يعجز عنها بمفرده والتناصر فيما بينهم؛ فان هذا الاجتماع لن يحقق للإنسان الغاية التي خلق من أجلها إلا إذا انتظم مع بني جنسه في مؤسسة اجتماعية لها سلطة قوية تدفع التواثب والتنازع فيما بين الأفراد؛ وتحقق انتظام الجميع في تحصيل المنافع ودفع المفاسد.
ومن ثم فإن الهدف الأسمى من إرسال الرسل وإنزال الكتب هو حفظ نظام الجماعة وإرساء قواعد العدل بما يحمي الإنسان(38) ويصون كرامته ويدفع عنه الظلم والعدوان ويجنبه الفوضى والفلتان، وقد ارتكز الحكماء في استدلالهم على ضرورة بعثة الأنبياء على هذا المبدأ، أعني حفظ النظام ولكن رغم الاستدلال المنطقي على استهداف التشريع الإسلامي لحفظ نظام المجتمع إلا أن ذلك غير ظاهر عند الفقهاء القدامى؛ مما دفع بعض العلماء المعاصرين إلى الاهتمام بحفظ النظام كمقصد مستقل من مقاصد الشريعة الإسلامية على مستوى الأمة
لما كان الإسلام من الأديان الاجتماعية فان انتظام أمر المجتمع وسيلة ضرورية لقيام الإنسان بمهمة الخلافة التي كلفه الشارع الحكيم القيام بها؛ فميزة الدين الإسلامي أن التكليف فيه تكليف جماعي؛ حيث توجد فيه خطابات موجهة للأفراد؛ وخطابات أخرى موجهة للجماعة؛ وهي ما يعرف فقهيا بالواجبات الكفائية التي يتوقف وجودها على وجود سلطة نظامية تسهر على القيام بها؛ وقد عبر الإمام الغزالي عن هذا الترابط ما بين الدين والتنظيم السياسي أيما تعبير مما يدل على تألق فقهه السياسي حيث يقول: "الدين والملك توأمان؛ والدين أصل والسلطان حارس؛ وما لا أصل له فمهدوم؛ وما لا حارس له فظائع والى هذه النتيجة تقرر أن السلطة السياسية ضرورة من ضرورات الدين وأنها أي (الإمامة) أصل مقطوع به لا يفتقر في صحته وملاءمته لتصرفات الشارع إلى شاهد، باعتبارها وسيلة ضرورية لحماية المصلحة العامة متمثلة في إقامة أمة قوية مرهوبة الجانب مطمئنة البال، وهذا يستلزم من ولاة الأمور سن قوانين وإقامة جهاز تنفيذي يوكل إليه حمل الناس بالرغبة والرهبة على رعاية مصالح الأمة، ويترتب على ذلك الاعتراف بالأمة ككيان مستقل ومتميز له خصائصه ومقوماته وتنظيماته التي تستوجب إفرادها بمقاصد تخصها من جانب إيجادها ومن جانب ما يحفظها؛ على نحو ما يعرف في القانون بفكرة الشخصية المعنوية أو الاعتبارية ذات الذمة المالية المستقلة.
ثم إن السيد الشيرازي (قده) يستدلّ على مشروعية الفقه السياسي بالإجماع كدليل رابع ومن طالع المسائل الشرعية يجد العديد من المسائل الاجتماعية التي تراعى لدليل الإجماع.
المبحث الثالث: أركان العمل السياسي عند السيد محمد الشيرازي
المطلب الأوّل: العدالة
جعل الإسلام منهاجاً دقيقاً للحياة يشتمل جميع جوانبها، ولايشذ عنها شاذ، فهو يقرر: برامج للفرد.. ودساتير للعائلة.. ومناهج للمجتمع.. إلى جنب أنه يقرر للروح أنظمة.. وللجسم قوانين..
ثم يربط الجميع برابط عام يكون بمثابة الروح للقوانين والمقاييس.. وهو تقوى الله الذي يعلم السر والعلن، والظاهر والباطن.. يجازي بالإحسان حسناً، وبالإساءة سيئاً.
وبذلك يستتب النظام.. وتتسق الأمور.. في إطار عام من السكينة والراحة، والهدوء والرفاه.. فينقلب المجتمع من الجحيم الذي لا يطاق إلى جنة نعيم، يضرب الأمن والسعادة أطنابه على الأفراد والجماعات(39).
وتخيم الراحة والرفاه على كل ذي روح.. وفي مثل هذا الظرف فقط ينمو كل شيء نموَّه المقدر له، ويكتمل كماله اللائق به.. فتزدهر الحياة المادية وتستقيم الملكات الروحية.. في ظل الحق والعدل.
والإسلام في عهده الطويل الذي كان قابضاً بزمام الحكم طيلة ثلاثة عشر قرناً بما في ذلك من بعض الخارجين على أنظمته، والدخلاء العاملين بوحي من أهوائهم وشهواتهم الرخيصة.. قد أدبنا ما لم يسبق له في التاريخ نظير..
أما هذا العصر: عصر القتل والجهل.. والسجن والظلم.. والمرض والفقر.. «القرن العشرين» فيكفي أقل نظر إليه، ثم مقايسته بالعصر الإسلامي، كي يعلم الفرق الواضح.. والبون الشاسع، ويعرف إلى أي مهوى تردت البشرية في ظل الأنظمة المسماة بالديمقراطية!!. والحكومات الدستورية.. إذ أزيح الإسلام عن الحكم واستبد به الغرب المادي.. والشرق الملحد.
ومن السمات البارزة للإسلام، والخطوط العريضة التي وضعها للرفاه والسعادة: هي (العدالة) و(المساواة) اللتان يتحلى بهما هذا الدين، في كل جانب من جوانبه، وناحية من نواحيه: ناحية السلطة والقضاء.. والعائلة والأسرة.. والمعاملة والمعاشرة.. وأخيراً: المجتمع كله.
وها نحن نقدم طرفاً من العدالة والمساواة الإسلاميتين في هذا الكتاب، إيضاحاً للحقيقة.. وتنويراً للمجتمع.. حتى يعرفوا كم خسر العالم من إزاحة الإسلام عن الحكم، لعل أن يندموا على ما فرطوا، ويعملوا لأن تكون كلمة الإسلام هي السائدة، وبها يرجع ما فاتهم من خيرات إلى عالم الوجود، وبذلك يكونوا قد قدموا إلى البشرية خير الدنيا، وسعادة الآخرة.
ولا أراني بحاجة إلى المقارنات، بين العدالة الإسلامية، وبين العدالة المسماة بالديمقراطية! (إن كانت فيها عدالة) التي تظللنا اليوم..
إذ كلنا يعرف هذا العدالة المزعومة، ولا يحتاج إلى أكثر من أن يرى العدالة الإسلامية، كما أن من في الظلمة لا يحتاج ـ لعرفانه الحقيقة ـ إلى أكثر من أن يفتح له نافذة من الضياء، كي يدرك ما يعيش فيه من الظلمة والعمى(40).
فالعدل هو المقياس العام الذي يلف في إطاره الكون: من المجرة إلى الذرة.. ومن المادة إلى الروح.. ومن الحياة إلى الموت.. ومن الضياء إلى الظلمة.. ومن الدفء إلى البرد.. قال الإمام الصادق (عليه السلام) لمفضل: ((جهلوا الأسباب والمعاني في الخلقة، وقصرت أفهامهم عن تأمل الصواب والحكمة، في ما ذرأ الباري جل قدسه وبرأ من صنوف خلقه في البر والبحر والسهل والوعر، فخرجوا لقصر علومهم إلى الجحود… وادعوا أن كونها بالإهمال، لا صنعة فيها ولا تقدير.. فهم في ضلالهم وعماهم وتحيرهم بمنزلة عميان دخلوا داراً، قد بنيت أتقن بناء وأحسنه، وفرشت بأحسن الفرش وأفخره، وأعد فيها ضروب الأطعمة والأشربة، والملابس والمآدب، التي يحتاج إليها لا يستغني عنها، ووضع كل شيء من ذلك موضعه، على صواب من التقدير وحكمة من التدبير، فجعلوا يترددون فيها يميناً وشمالاً، ويطوفون بيوتها إقبالاً وإدباراً، محجوبة أبصارهم عنها، لا يبصرون بنية الدار، وما أعد فيها، وربما عثر بعضهم بالشيء الذي قد وضع موضعه، وأعد للحاجة إليه، وهو جاهل بالمعنى فيه، ولما أعد، ولماذا جعل كذلك، فتذمر وتسخط وذم الدار وبانيها، فهذا حال هذا الصنف في إنكارهم ما أنكروا من أمر الخلقة، وثبات الصنعة، فإنهم لما غربت أذهانهم عن معرفة الأسباب والعلل في الأشياء، صاروا يجولون في هذا العالم، حيارى ولا يفهمون ما هو عليه من إتقان خلقته، وحسن صنعته، وصواب تهيئته، وربما وقف بعضهم على الشيء لجهل سببه، والإرب فيه، فيسرع إلى ذمه ووصفه بالإحالة والخطأ...))(41).
وعلى ضوء هذا المعنى العام من العدل، يضع الإسلام خطوط المساواة بين الأفراد والمجتمعات فليست المساواة في نظر الإسلام بالمعنى الذي يحلو لبعض الناس التشدق به، من توزيع الثروات.. واستواء الأفراد ـ مهما افترقوا في العمل والعلم وسائر الميزات ـ أمام القانون.
إنه الجور الواضح، فكيف يساوى بين العالم القدير الذي تشع من أنوار علمه المدن والأرياف، وبين الجاهل الذي لا يساهم في ترقية الحياة شيء، وهكذا.. قل: بين الطبيب والمهندس والفقيه... وبين غيرهم ممن لا طائل في وجودهم؟
إذاً: فالمساواة في نظر الإسلام مساواة عادلة، لا مساواة عمياء.. مساواة تراعي الحقوق المايزة.. فهي مساواة في جهة التساوي وتمايز في جهة الاختلاف، فلا تمايز بلا مبرر، ولا تساوي مــن غير استواء، وعلى هذه القاعدة قسم الإسلام الحقوق والواجبات.. على الــرجل والمرأة والغني والفقير والملك والسوقة والكبير والصغير والشريف والوضيع والأفراد والجماعات.
وهناك علاقة حميدة بين المواطنة والعدالة السياسية في المجتمع، فحين تتحقق العدالة السياسية في المجتمع وتزول عوامل التمييز والإقصاء والتهميش يتعمق مفهوم المواطنة في نفوس وعقول وأبناء المجتمع، أما إذا تم تغييب العدالة وساد الاستبداد وبرزت المظاهر السوداء في المجتمع فإن مفهوم المواطنة يُعتبر في هذه الحالة بمثابة خدعة وتزييف لواقع الإنسان في مجتمعه. لذا؛ فإن مساحة المواطنة في أي مجتمع تتحدد بمقدار معطيات العدالة السياسية في المجتمع. يعني أن المواطنة الحقيقية تحتاج إلى مقدار معين من العدالة، العدالة التي تستوعب جميع فئات المجتمع، ولا تكون هذه العدالة رمزية الشكل والوجود بقدر ما تكون ثوابت وأسس للنظام السياسي ومن ضمن حقائقه.
وهنا تكمن دور الدولة ومؤسساتها في بناء حياة وطنية وسياسية للمجتمع وأبنائه تستند على العدالة، الحياة التي تعتمد على مشاركة جميع المواطنين في مشاريع الدولة وخططها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومساواة في الحصول على مكتسبات الدولة السياسية والاقتصادية، وهذا ما سيعمل على استمرار التواصل بين الدولة وأبنائها لتحقيق هذه الأهداف.
وقد يُسأل لماذا العدالة؟ ولماذا هي أساسية لتحقيق مبدأ المواطنة في المجتمع؟ إن العدل هو أحد أسماء الخالق عز وجلَّ (العادل)، وهو روح الإسلام وجوهره (وإذا حكمتم بين الناس فاحكموا بالعدل)، وهو الهدف الرئيسي من أهداف الأنظمة التشريعية والقانونية من دساتير وطنية، وقوانين وأنظمة ومواثيق وعهود دولية، في الوقت الذي تناهض فيه جميع الديانات السماوية والأنظمة المدنية باختلافها الظلم والاستبداد واستبداله بمفهوم العدالة. ومن ضمن الجوانب التي يجب أن يتحقق فيها العدل (الجانب السياسي).
ويتحقق العدل فيه عندما يتم ترجمة مفاهيمه وأبعاده ومبادئه داخل المجتمع وبدون استثناء وعدم سلب هذا الحق من أي شخص أو فئة، حتى مع أصحاب الاختلاف الفكري والسياسي سواء الديني أو السياسي أو العقائدي، ويجب أن لا يكون هذا الاختلاف مدعاة إلى التفرقة والتشتت وإلى سلب هذا الحق من هؤلاء أو غيرهم من أفراد المجتمع . حيث إن حق الاختلاف واجب، وكثيراً ما تتضح الرؤى وتنسجم الأفكار عندما تتم مناقشتها على طاولة الحوار وتبادل الآراء، حيث تستبين حينها الحقائق أكثر، وتزداد تعمقاً في المفاهيم.
إذاً؛ من العدالة أن أختلف مع الآخر، ومن العدالة أن يَستمع صاحب أي رأي إلى الرأي الآخر وأكثر من رأي، وهذا ما يُميز بين مجتمع وآخر، فبعض المجتمعات يكون الرأي الآخر جريمة يُعاقب عليها قانون الدولة، مما يعمل على سلب حقوق الرأي الآخر في التعبير عن رأيه وفكره، فهنا تتحقق عدالة القوة والهيمنة المجتمعية ضد مَن لا يملكون القوة، فتكون هنا العلاقة بين الرأي الآخر والسالب له علاقة تضادية، يؤدي بموجبها غياب الكثير من السمات المجتمعية من ديمقراطية وحرية وعدالة، وبهذه الطريقة تلغي الدولة حالة التنوع السياسي والاجتماعي في المجتمع.
أما المجتمع الذي يعيش حالة من التنوع في الأفكار والمرجعيات السياسية يمكنه تكوين مجتمع متنوع أصيل، مجتمع ديمقراطي يعترف بحق الاختلاف في الرأي، مجتمع يؤكد في أبجدياته وقوانينه على المساواة في كل شيء، مجتمع يتناغم فيه الأفراد مع دولتهم في حياتهم السياسية والاقتصادية والمجتمعية، لا تضاد بينهم ولا اختلاف يجمعهم، يعيشون بعيداً عن الاستبداد تحت خيمة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات. إذن الدولة لها خيار واحد لا أكثر، وخيارها الوحيد هو وحدة وتماسك الجبهة الداخلية، المواطنون والدولة يكونون معاً في خندق واحد، وهذا سيتحقق عندما تكون قدرتنا جميعاً على احترامنا الفكري والسياسي والعقائدي والديني لبعضنا البعض(42).
إن كافة الأديان السماوية والقوانين المدنية بأشكالها المتعددة تأمر بالعدل بين الناس والإحسان إليهم، الناس جميعاً، باختلاف دياناتهم ومذاهبهم، باختلاف أطيافهم السياسية والمجتمعية، وأعراقهم وقومياتهم، وترفض الأديان فرض الرؤية السياسية والمذهبية على الآخرين. وفي المجتمع العادل يُمارس جميع المواطنين مواطنتهم الحقة، ممارسة حريتهم الدينية والمذهبية، ممارسة الأنشطة الفكرية والسياسية التي تعمل على توحيد الوطن وشعبه في مناخ ديمقراطي تتحقق فيه الأهداف الوطنية والسياسية والاقتصادية والدينية لجميع المواطنين بدون استثناء.
وتحقيق العدالة الإنسانية والديمقراطية المجتمعية هو من أهم أدوار الدولة المدنية كما هو دورها في حماية البلاد والناس وتسيير شؤونها السياسية والاقتصادية. إن العدالة السياسية يجب أن تحقق المواطنة الحقة: - المواطنة التي تؤدي إلى مشاركة جميع أفراد المجتمع في تسيير شؤون البلاد السياسية والاقتصادية وفقاً لكفاءاتهم وطاقاتهم وقدرتهم، لكونهم يعيشون جميعاً في وطن واحد وهو وطنٌ للجميع. - المواطنة التي تؤدي إلى نشر المشاريع التنموية والخدمية في كل مناطق البلاد بحسب حاجة سكانها إلى هذه المشاريع. - المواطنة التي تراعي فيه الدولة جميع مواطنيها رعاية عادلة، رعاية سياسية واجتماعية وخدمية ودينية، وهذا جزء أصيل من أدوار الدولة المدنية. - المواطنة التي يحصل بموجبها المواطنون على حقوقهم ويؤدون بكل إخلاص واجباتهم تجاه دولتهم ومجتمعهم، ويجب أن لا يُقابل المطالبة الدائمة بالحقوق الإهمال المقصود بالواجبات. - المواطنة التي تعمل على احتضان كل طاقات أفراد المجتمع بدون تحيز أو تمييز(43).
وليس من العدالة أن تتم ممارسة التمييز والتهميش لأفراد المجتمع، وهو أمر يناهض مبدأ ديمقراطية الدولة المدنية، بينما الدولة هي مؤسسة راعية للجميع باختلافاتهم الأصولية والعرقية أو منابتهم الأيديولوجية والمذهبية. - المواطنة التي تؤسس علاقة إيجابية بين الدولة ومواطنيها، فالعلاقة الإيجابية هي أساس النجاح لكل المشاريع المجتمعية من سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية، وأن يكون سلوك الدولة وشعبها منسجماً ومتوافقاً مع هذه العلاقة الإيجابية. - المواطنة التي تحقق لجميع المواطنين تكافؤ الفرص في جميع المجالات، وإزالة جميع المعوقات التي لا تنسجم مع ضوابط المواطنة المتساوية. والالتزام بالضوابط التي تبلور تكافؤ الفرص في كافة المجالات المختلفة. - المواطنة التي تمارس إعلاماً وطنياً، يكون مفتوحاً لكل القوى السياسية والاجتماعية الوطنية والقومية والحقوقية والمهنية، ويستوعب طاقات جميع المواطنين.
المطلب الثاني: الحرية
الحرية ليست كلمة تلقى على عواهنها من دون أن ينظر إلى مصاديقها، هل هي رفيعة كرفعة المفهوم الذي يجمعها وإننا سنتناول أدناه بعضاً مما أورده أحد مفكري عصرنا البارزين الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (قده) متكلماً على الحرية من زاويا شتى(44).
فالإنسان حر في أن ينتخب مرجع تقليده، وهو حر في أن ينتخب رئيس دولته، وهو حر في أن ينتخب نواب مجلسه، وهو حر في أن ينتخب إمام جماعته، وهو حر في أن ينتخب قاضيه، وهو حر في أن يسافر، ويبني ويزرع، ويتاجر ويكتسب ويسبق إلى الحاجات ويستملك الأراضي، ولا يقف الإمام عند هذا الحد بل يمضي في ذكر ما سوى ذلك، ويمنع من مصادرة الحريات الأساسية التي جاء بها الإسلام وجعلها من أوليات حياة الإنسان من مثل حرية السفر والإقامة، والتعبير عن الرأي، وغير ذلك من النشاطات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية وغيرها، إلا في المحرمات الشرعية، ويستنبط ذلك كله من الحديث الشريف ((الناس مسلطون على أموالهم))(45) ومن القاعدة الفقهية وعلى أنفسهم، فإذا أمعنا النظر في هذا الكلام وجدنا أنه يستوعب الحاجات الطبيعية للإنسان والكمالات التي ينشدها والتي هي موارد الحرية، وبالنظر إلى تمكن الإنسان منها يقال أنه حر من القيود التي تحول بينه وبينها.
وبهذه الحرية يجمع الخصال التي يحتاج إليها الإنسان حتى يكون لحياته معنى كي يفهم من قول الإمام جعفر (عليه السلام) ((خمس خصال من لم يكن فيه شيء منها لم يكن فيه كثير مستمتع، أولها الوفاء، والثانية التدبير والثالثة الحياء والرابعة حسن الخلق والخامسة وهي تجمع هذه الخصال الحرية))(46).
وإذ ذكرنا على وجه الإجمال أبواب الحرية، فلتناول بشيء من التفصيل ما ذكره الإمام الراحل من الحريات الأساسية.
يلزم الإمام السيد محمد الشيرازي (قدس سره) النظام الإسلامي أن يوفر للناس الأجواء الحرة التي تتيح لكل إنسان الوصول إلى العلم والحكم والمال بحيث تكون هذه الأمور الثلاثة مثلها مثل الماء والهواء والنور والسبل إليها مفتوح مثل السبل إلى هذه، فهذه الحريات تمكن كل إنسان من الصعود في قومه، وبلوغ الإنسان درجات عالية من الكمال أمر حاضر دوماً في ذهنه (قده) يضاف إلى ذلك حرصه كمرجع ديني على دفع المفاسد من الصراع الذي يتولد من قمع الحريات، وهذا كله منسجم أشد الأنسجام مع توكيد الإسلام على أن الناس جميعاً نظراء في الخلق كما عن أمير المؤمنين علي (ع) فمن هذا كله يتضح لنا أن كلام سماحة الإمام الشيرازي عن الحرية الشخصية هو نتيجة منطقية لتفكير فهمي ومنهج فكري متناسق، فهو يحرم استعباد الفرد واستغلال طاقاته وما يتفرع عن ذلك من تحريم تجربة الأدوية الطبية عليه، أو أخذ المال منه بالإكراه أو سجنه وما شابه ذلك مما يتنافى مع الحرية الإنسانية التي منحها الله تعالى للإنسان، وتتمة لذلك فهو يشدد على أهمية حصول الإنسان على حرية التعبير عن رأيه في صورة تكوين الأحزاب، بل التظاهر أيضاً.
والحريات الشخصية التي ذكرنا ليست وقفاً على المسلمين دون غيرهم. فأهل الأديان والمذاهب جميعاً أحرار في التمسك بأديانهم وفي التعبد على وفق شرائعها، وفي أن يعملوا بما هو جائز عندهم وما ألزموا به أنفسهم فمثلاً لا يمنع أهل الكتاب من شرب الخمر في بيوتهم.
وهذا الكلام على الحرية للفرد يستتبع الكلام على الحرية للجماعة، أن الفكر الشيرازي يتبنى تبنياً قاطعاً مسألة الحرية والاستقلال للدولة في اختياراتها، ومنهجها في السيطرة على شؤونها ومواردها وعلاقاتها مع الدول الأخرى، وإذ يتناول في كلامه الدولة الإسلامية فإنه يعد الحرية والاستقلال شعارات نابعان من تعاليم العقيدة وتراث المقاومة للاحتلال الأجنبي، فمن جهة العقيدة نجد أقوالاً مثل قول الإمام علي (عليه السلام) ((لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً))(47) تبعث في الإنسان جذوة التمرد على القهر والاستعمار ومن الجهة الأخرى، تبين التجارب المريرة التي مرت بها الشعوب ومنها الشعب المسلم أن الخضوع للأجنبي لن يجلب له إلا الويلات والقهر، وإن النضال ضروري حتى تعيش الأمة حرة كريمة في أرضها.
وتعزيزاً للحرية والاستقلال وانطلاقاً من قواعد علم السياسة ومقولاته من أن الحرية والاستقلال لا يأخذان مجالهما الحقيقي إلا بالتضامن بين الدول المتجاورة الواقعة في منطقة التنافس الدولي فإن الفكر الشيرازي يدعو باستمرار إلى الوحدة الإسلامية، ويعضد ذلك بالدعوة إلى مناهضة الاستعمار والتبعية بأشكالها جميعاً.
لكن العبودية.. بالاسترقاق والتبعية بالفتح العسكري ليستا الصورتين الوحيدتين للعبودية والتبعية، فانبهار مجتمع ما بمجتمع آخر واتخاذه مثلاً يتبعه إتباعاً أعمى هو صورة أخرى للتبعية.
المطلب الثالث: المساواة
لقد شرع الاسلام مبدأ المساواة، ونشر ظلاله في ربوع المجتمع الاسلامي بأسلوب مثالي فريد، لم تستطع تحقيقه سائر الشرائع والمبادئ. فأفراد المجتمع ذكوراً وإناثاً، بيضاً وسوداً، عرباً وعجماً، أشرافاً وسوقة، أغنياء وفقراء. كلهم في شرعة الاسلام سواسية كأسنان المشط، لا يتفاضلون الا بالتقوى والعمل الصالح(48).
1 ـ التسوية في الخلق
(يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند اللّه اتقاكم)(49).
والقوانين الاسلامية والفرائض الشرعية نافذة عليهم جميعاً دون تمايز وتفريق بين الأجناس والطبقات. وما انفك النبي صلى اللّه عليه وآله عن تركيز مبدأ المساواة وتصعيده حتى استطاع تطويره والتسامي به الى المؤاخاة الروحية بين المؤمنين.
2 ـ مبدأ الاخوة
(انما المؤمنون اخوة)(50) حسبك في ذلك أن الملوك كانوا يحسبون أنهم فوق مستوى البشر، ويترفعون عنهم في ابراج عاجية يطلون منها زهواً وكبراً على الناس.
3 ـ الاشتراك في الأحكام
(قل انما انا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد)(51).
لذلك كان هو صلى اللّه عليه وآله، وذريته الاطهار: المثل الاعلى في تطبيق مبدأ المساواة والدعوة اليه قولاً وعملاً.
قال صلى اللّه عليه وآله: ((إن اللّه تبارك وتعالى قد اذهب بالاسلام نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها، ألا إن الناس من آدم، وآدم من تراب، واكرمهم عند اللّه اتقاهم))(52).
ويحدثنا الرواة: ((انه صلى اللّه عليه وآله كان في سفر فأمر باصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول اللّه عليّ ذبحها، وقال آخر عليّ سلخها، وقال آخر عليّ طبخها، فقال صلى اللّه عليه وآله: وعليّ جمع الحطب. فقالوا يا رسول اللّه نحن نكفيك، فقال: قد علمت انكم تكفوني، ولكن اكره ان اتميز عليكم، فإن اللّه يكره من عبده ان يراه متميزاً بين أصحابه وقام فجمع الحطب))(53).
...............................