لماذا يغيب المصلحون أمام الطغاة؟!
قراءة في محاضرة صوتية لسماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره-
محمد علي جواد تقي
2017-05-16 07:38
ان المجتمع الذي يتواجد فيه المصلحون بكثرة، من المستحيل ان ينتج الطغاة، هنالك مقومات لوجود الطغاة في أي بلد اسلامي، أهمها وأبرزها فقدان المصلحين، والمصلح؛ ليس هو ذلك الرجل الذي يخطب ويعظ وينهى عن المنكر، إنما ذلك القادر على التغيير، ومن ثم يقف في وجه الطغاة ويحول دون ظهورهم على الساحة.
والمعادلة الثابتة؛ أن قلّة المصلحين في أي بلد مقابل كثرة المفسدين، النتيجة تكون ولادة الطغاة، إن جمال عبد الناصر، ولد في "مصر أم كلثوم"، وفي "مصر نزيهة المهدي"، وللعلم؛ فان هذه الاخيرة كانت معروفة بالفجور في مصر قبل ظهور شخصية أم كلثوم، وقد كان يأتي الباشوات ويقبلون رجليها! ويحتسون الخمر بخفّها! وهذا يعود الى ما قبل الانقلاب التي جاء بعبد الناصر الى الحكم.
أحد رجال الدين الكبار في مصر، يُبرق الى الملك فاروق بأني "أبرق الى أشرف وأطهر بقعة في الأرض...". وهذا الاخير معروف في التاريخ بالمجون والفسق والفجور، وهذا مصداق قلّة المصلحين وكثرة المفسدين، فيكون من الطبيعي ان يتسلّق المفسد تدريجياً الى قمة الحكم".
المصلح ضمير الأمة
عندما يكون المصلح معنياً بتغيير الواقع من السيئ الى الأحسن، فمعنى أنه يمتلك أدوات هذا التغيير ومواصفات خاصة تؤهله ليكون في طليعة الأمة في مسيرتها نحو تحقيق اهدافها وطموحاتها؛ فهنالك من يمتلك القدرة على التنظيم وآخر مقتدر في الخطابة أو الكتابة ومن هو مبدع في الشعر وهكذا.
والمصلح ليس بالضرورة أن يكون قائداً لثورة جماهيرية وتحررية، إنما يظهر في شكل خطيب او أديب أو مفكر وكاتب، والبلاد الاسلامية زخرت بأسماء لامعة من أمثال هؤلاء طيلة القرن العشرين، وكانوا بين مجتمعاتهم يعيشون محن التخلف والتبعية والاستبداد وغيرها من الظواهر اللاحضارية، وكان نتاج وجودهم؛ عناوين عدّة من الكتب وكم هائل من الافكار والنظريات الى جانب محاولات للتغيير بوسائل سياسية واخرى ثقافية، بيد أن واقع الامة منذ عهد الاستعمار ثم عهد الانظمة الذيلية للاستعمار وحتى أفول هذه الانظمة في نهاية المطاف، بقي على حاله تحت وطأة تلكم الظواهر، فلم يتخلص شعب من الديكتاتورية الحقيقية ولا من التبعية للاجنبي ولم يتحسس طعم الحرية والكرامة كما كان يتسلّى بها من خلال افكار أولئك المصلحين. فما السبب وراء ذلك؟
يمكن الاشارة الى سببين أساس من جملة اسباب:
الاول: اسماء لا تتكرر
واحدة من أهم الاشكاليات المنهجية على حركة كثير من المصلحين؛ وحدانيتهم في التحرك وعدم تحولهم الى تيار فكري وثقافي ثم جماهيري في الساحة، ولا أجدني بحاجة لذكر اسماء مفكرين وكتاب وعلماء أشروا على مواطن الداء في الامة، وراحوا يشكون الحالة ثم من يحمل هذه الحالة من عامة الناس، والبعض راح يلوم الناس على تقاعسهم واستمرائهم للخنوع والاستغلال و"القابلية على الاستعمار" وغيرها مما يمكن عدّه باختصار؛ "تحصيل حاصل"، كما لو أنك تؤشر الى الخطوات غير المنتظمة لرجل أعرج! او تحذر رجل مكفوف البصر من مغبة السقوط في حفرة أمامه.
وهذا بحد ذاته كان احد الاسباب وراء حصول حالة من عدم الانسجام بين جماهير الشعب وبين المصلحين والمفكرين، ففيما كان زعماء البلاد الاسلامية الذين جاءت بهم الدوائر المخابراتية والعسكرية في لندن وواشنطن، وقد نصّبت هذا ملكاً وذاك قائداً عسكرياً وآخر قائد لثورة وهمية، يجوبون الشوارع ويهرول خلفه الناس، ويرفعون صورهم في محلاتهم التجارية وفي داخل بيوتهم ويهتفون بحياتهم ليل نهار، كان رموز الإصلاح يقبعون في غرفهم المظلمة.
نعم؛ ربما نلاحظ عناوين عدّة لمؤلفات هؤلاء تتلاقفها الأيدي ويتابعها الناس في الوقت الحاضر، ولكن؛ بعد مرور جيل او جيلين، وبعد موت أولئك المصلحين وحصول تطورات كبرى في الاوضاع الثقافية والسياسية، فيجد الشباب في تلك الافكار ما يبعث على الدهشة لانها تكشف عن حقائق الشعوب وأحوالها وأحوال الحكام والاستعمار، ولكنها لا تفيدهم في واقعهم الحاضر، مهما آمنوا بها وأثنوا على كاتبها وعلى ما بذله من جهد جبار، لانهم امام استحقاقات جديدة غير تلك التي عاشها آباؤهم وأجدادهم اواسط القرن الماضي.
إن استنساخ الشخصيات والرموز بات سهلاً في الوقت الحاضر، ولكن؛ ليست رموز الإصلاح والتغيير الاجتماعي والسياسي والثقافي، وإنما رموز السينما والرياضة والموضة والإثارات الكاذبة، وإن كان التوجه فكرياً وثقافياً، نجده باتجاه رموز فشلت في تطبيق افكارها في موطنها ومع ابناء شعبها، فيما يحاول البعض استيراده وتجربته في بلادنا.
اذا كان المصلح عبارة عن مدرسة تخرج مصلحين ومفكرين وكتاب، ما استطاع ضابط في الجيش او عدة شبّان متحزبين من الاستيلاء على السلطة والتلاعب بكل سهولة بمقدرات الناس ومصائرهم، وهذا ما كان يرمي اليه سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- منذ انطلاقة حركته الإصلاحية اواسط القرن الماضي، وهو يضع يده بقوة على هذه الاشكالية في مسيرة الإصلاح والتغيير في الامة، لاسيما وأن نزعة الافساد موجودة بالاساس في النفوس، ومن السهل على الحاكم شراء الذمم والضمائر وحتى الدين من بعض الناس، فتتشكل شريحة المفسدين بسرعة اكبر من تشكيل جماعة صغيرة – إن توفرت العزيمة والهمّة- من المصلحين والطامحين للتغيير، والنتيجة تكون اكتساح هؤلاء وصعود نجم الديكتاتورية وتفشي الفساد والانحراف في الامة، لذا كان الامام الشيرازي يدعو دائماً على توسيع نطاق الوعي والثقافة بدءاً من الخطباء والكتاب والعلماء ومن ثم بين الشباب المتعلّم لتوسيع جبهة الإصلاح وتقويتها أمام جبهة الإفساد.
مصلحون برسم البيع!
رغم ما شهدته الامة من ويلات ومحن على يد الحكام في القرن الماضي، بيد انها اكتشفت فيما بعد ان ما عانته فيما مضى من الزمن لا يرقى على النكبات التي تلقتها على يد من سمّوا انفسهم معارضين لأولئك الحكام في سالف الزمان، فأن تتلقى الصفعات داخل زنزانة من سجّان ينفذ أوامر الديكتاتور، مدعاة للفخر لأنك إنما تسجل مواقف بطولية أمام اساليب جبانة، وخدمة لقيم ومبادئ عظيمة، أما أن تتلقى الصدمات المفاجئة ممن قارعوا الديكتاتوريات وقد حلّوا محلهم أو تخلّوا عن رسالتهم وعهدهم، فذاك أدهى وأمرّ.
ان سماحة الامام الشيرازي يتحدث في هذا المقطع الصوتي عن ظهور حكام مثل جمال عبد الناصر في مصر او ممن لم يذكرهم مثل صدام حسين في العراق، وغيرهما، لم يصلا الى قمة السلطة ويستمرا في الحكم ويفعلا ما فعلا من الكوارث الرهيبة، إلا بعد أن باع بعض ممن يطلقون على أنفسهم بالمصلحين، نفسه لقاء مكاسب سياسية وامتيازات وزلفى عند هذا وذاك، لأن الالتصاق بواقع الناس يعني التضحيات الجسام ثم الموت مطارداً او تحت التعذيب، والمثال الأبرز لهذا؛ المفكر الاسلامي الشهيد السيد حسن الشيرازي، الذي مضى في تأدية رسالته في طريق ذات الشوكة وهو يردد مع نفسه دائماً: "لا السجن يرهبني ولا الاعدام"، فلو كان عشرة – مثلاً- مثل الشهيد الشيرازي في العراق آنذاك، هل كان يتمكن حزب البعث من الاطمئنان على بقائه في قمة السلطة؟.
إن القضية لم تنته اليوم؛ انما المعادلة ثابتة، ففي غياب المصلحين في الامة، يظهر المفسدون وبقوة ويشيعوا الفساد والانحراف في اوساط الامة، فاذا كانت ثمة خشية حقيقية على الديمقراطية الوليدة في بلادنا وأجواء الحرية هنا وهناك، ما علينا إلا التحقق من وجود المصلحين وحُسن أدائهم والتزامهم واستقامتهم على الطريق، وبخلاف ذلك لا يلومنّ أحدٌ الناس اذا تحولوا الى ضحايا بيد هذا الحاكم او ذاك تحت عجلات الفساد والفتن السياسية.