هل بالإمكان إبعاد المجتمع عن الاضطرابات السياسية؟

قراءة في محاضرة صوتية لسماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره-

محمد علي جواد تقي

2017-05-06 07:00

ثلاثة اشياء تفضي الى استقرار المجتمع وتماسكه، وتجعل المجتمع مصوناً من هبوب الرياح الانقلابية عليه، الحرية، الكفاءة، المعيشة، من الواضح أن الكفاءة اذا وصلت الى مراكز العمل تكون سبباً لنمو الوعي وهو بدوره يفضي الى الرسوخ والثبات.

أولاً: الكفاءة

فاذا جئت بانسان كفءٍ للبناء، قطعاً سيقدم لك بناءً حسناً، او جئت بانسان كفءٍ للإدارة، فلاشك أنه سيدير ادارة حسنة، وهكذا... فان وجود أي شخص كفء في أي شأن من شؤون الحياة، فانه يدير عمله مع أقل قدر من النقص والخلل المتوقع، وهذا يتمثل في أبسط موظف في الدولة الى أكبر موظف، كأن يكون رئيس الوزراء او رئيس الجمهورية، وحتى إمام الجامع في الحي السكني.

ثانياً: الحريات

هذه الحريات هي التي تأتي بالكفاءات الى البلد، أما اذا ساد الارهاب والكبت، فان الكفاءات تختفي ايضاً، بمعنى؛ أن التاجر لن يتمكن من المتاجرة بحرية مع مراعاة حدود الإجحاف –بطبيعة الحال- في ظل التنافس الشريف والحر بين الافراد، أما اذا كان الخوف من السفر ومن البناء ومن الإقامة ومن الكلمة ومن الكتابة ومن الحركة ومن السكون، فلن تظهر الكفاءات.

ثالثاً: توفير المعيشة

وعن هذا الاساس الثالث يقول الصحابي الجليل؛ أبو ذر الغفاري: "عجبت للفقراء لا يخرجون الى الاغنياء بسيوفهم"، وهذا رد الفعل يُعد طبيعياً، فاذا لا يملك الانسان الفقير، ماءً، او خبزاً، او مسكناً، او ملبساً، أو زوجة، أو حرية، أو أي شيء من الاحتياجات الفردية او الاجتماعية، فهذا من شأنه توليد الضغط، و في الأغلب؛ يؤدي الضغط المتواصل الى الانفجار.

فاذا توفر لدى الانسان مستوى كريم من المعيشة، فانه سيضمن الاستقرار لنفسه وأسرته ومجتمعه.

وفي مقابل هذه الأسس الثلاثة المسببة لاستقرار المجتمعات ، فان نقيضها يتسبب بدوره، باهتزازها بل وسقوطها وانهيارها بفعل الانقالابات العسكرية والاضطرابات السياسية من تظاهرات احتجاجية وغيرها.

استقرار المجتمع قبل استقرار الدولة

الانسان مفطور على الأنس والسكون والوئام، وما يساعده على تعزيز هذه الفطرة في النفس؛ موهبة العقل ثم الإرادة، فالأصل التكويني في حياته؛ الاستقرار وليس الاضطراب، وقد بشرت بهذه الحقيقة آيات عدّة في الكتاب المجيد تصور لنا مدى الانسجام البديع بين هذه الحالة وبين تكوين الانسان من جهة، وبين العالم الخارجي المحيط به، وجاء السكون والاستقرار بعنوان "الآية" أو الدلالة والبرهان على عظمة خلق الله –تعالى- ففي سورة يونس جاء قوله عن علاقة السكون بالطبيعة: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً...}، أما في سورة القصص فقد جاء قوله: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، أما في سورة الروم، فقد عدّ القرآن الكريم علّة خلق المرأة الى جانب الرجل، هو توفير السكون والاستقرار للرجل ومن ثمّ للأسرة والمجتمع بأسره: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.

فاذا كان هذا الانسان باحثاً عن السكون والاستقرار، فإذن؛ سيبحث عن السبل المؤدية الى ذلك في داخل نفسه، وما اذا كان يقدر على ذلك، ولكن قبل ان يفكر في الامر او يكتشف السبيل، تسبقه جهات اخرى في الواقع الخارجي مؤشرة الى ذلك بأن الاستقرار يأتي من خلال اجراءات سياسية و أخرى أمنية، بمعنى أن هذا الاستقرار يُقدم الى الانسان؛ الفرد والمجتمع سلعة جاهزة ولا دخل هو بصناعتها، وهذا ما درجت عليه الأنظمة السياسية في بلادنا، بيد أن شخصاً مثل الامام الشيرازي الراحل – طاب ثراه- فطن الى وجود دور أساس للمجتمع في توفير استقراره بنفسه عندما تكون كفاءاته وحرياته ومعيشته حاضرة وفاعلة في الساحة، وتكون لها كلمة الفصل.

ولعل سماحة الامام الشيرازي في هذا المقطع الصوتي ينبّه الى ان الشعوب بامكانها الاستغناء عن التظاهرات الاحتجاجية وحتى الثورات والانقلابات المكلفة التي تستهدف التخلص من الفساد والطبقية وكبت الحريات وغيرها من المطالب المعروفة الاخرى، بمعنى أن من يطالب بالتغييرات السياسية في بعض الانظمة المتصدّعة، عليه أولاً؛ التحقق من اسباب التصدّع الموجود في بناء الدولة والمجتمع، وهو ما يؤشر اليه سماحته ويضع اليد على الجرح، وما أكثر الثورات والانقلابات التي انطلقت لمحاربة فساد هذا الديكتاتور او ظلم ذلك النظام، ولم تلبث أن تقضي فترة وجيزة على انتصارها، حتى يشهد الناس نمو وانتشار نفس الفساد والظلم ومطادرة الحريات في ظل أجواء جديدة ربما تكون "الديمقراطية" واحدة منها.

وإذن؛ فان الذي يفكر بالاستقرار السياسي عليه أن يفكر بالاستقرار الاجتماعي أولاً، فهو القاعدة التي يقوم عليها النظام السياسي المأمول، بيد أن عديد الحركات التي انطلقت لتغيير الانظمة السياسية في البلاد الاسلامية طيلة القرن الماضي، تجاهلت هذه القاعدة الحضارية وركزت نظرها صوب قمة السلطة، فبقيت ظواهر الفقر والفساد والتبعية والصنمية وغيرها تستريح في مفاصل المجتمع، فتظهر حالما تجد الاجواء المناسبة التي توفرها دائماً السياسات الترقيعية والفاشلة للأنظمة السياسية المتمخضة من الثورات والانقلابات.

وعندما تستفحل ظواهر الفساد والفقر والطبقية وخنق الحريات في بلد يفترض ان يكون ثورياً ونهضوياً، فمعناه عودة الديكتاتورية بثوب جديد وذهاب التضحيات الجسيمة أدراج الرياح، والسبب في أن القائمين على التغيير كانوا يفتقدون للرؤية الحضارية فتجاهلوا كفاءات المجتمع وحقوقه من حرية وعدالة وعيش كريم، واستغلوا مشاعره المتوترة من النتائج الطبيعية لفقدان الحرية والعدالة وغيرها، كما لو أن مهمة الشعوب اللجوء الى الشوارع باستمرار للاحتجاج والاصطدام بالشرطة وخوض الاضطرابات وحتى مساعدة الاحزاب السياسية المسببة لهذا الاضطراب، في تحقيق مصالحها بالوصول الى ما تريد من مكاسب وامتيازات.

ذات صلة

التقية المداراتيّةأثر التعداد السكاني على حقوق المواطنينبناء النظرية الدينية النقديةأهمية التعداد العام للسكان في داخل وخارج العراقالأيديولوجية الجندرية في عقيدة فرويد