صراع درامي بين البيئة والإنسان؟
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2017-04-24 08:44
توصف الدراما بأنها نوع من الصراع المحتدم بين ضدّين، ولا يستوجب الأمر أن ينحصر ذلك بالكائن الحي، فالطبيعة أيضا يمكنها أن تخوض صراعا دراميا ضد أعدائها، وهل للطبيعة من أعداء يا تُرى؟؟، بلى يوجد لها أعداء على الرغم من أن الحياة لا تستقيم ولا تهنأ من دون توافر بيئة مناسبة، فمن هذا الضد بالتحديد؟ الجواب إنه الإنسان، من الغرابة بمكان أن يعبث الإنسان بمهدهِ، فيرتكب كل الأخطاء التي تجعل منه العدو الأول للبيئة!.
على الرغم من أن البيئة بطبيعتها نظيفة، وبكائناتها النباتية والحيوانية متوازنة، ولكن عندما تدخلت يد الإنسان وتمادت في إلحاق الأذى بالطبيعة تحت حجج لا ترقى للإقناع، بدأت البيئة تعاني من انتهاك بشري لا عقلاني، وغالبا ما يفتقر للحكمة، تتصدره وتوجهه وتغذيه حالة الجشع التي تستوطن نفوس البشر، فيصبهم العمى وهم يدخلون في صراع غير متكافئ مع الأحضان التي تحميهم من كل ما يسيء لهم، ذلك أن البيئة هي حاضنة الإنسان ومهده، من حيث السكن والطعام والشراب والملبس والنشاط الاقتصادي وسواه.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يصف البيئة في كتابه القيّم الموسوم بـ (الفقه: البيئة)، على أنها: (مجموعة الظروف والمؤثرات الخارجية والداخلية، فالبيئـة المحيطة بأي كائن مـن إنسان أو حيوان أو نبات تشمل الظروف السلبية والآثار الطبيعية والكيماويـة والصحراوية والبحرية والجوية والنباتية والاجتماعية).
إن المشكلة الأساسية في عبث الإنسان بالبيئة، تكمن في دخوله صراع درامي شامل، ذلك أن البيئة لا تقف عند حد معين، إنها بيئة متنوعة تطول حياة البشرية بكل أشكالها لذا ينبغي أن يُنظر إليها على أنها كل متكامل، لتحقيق السهولة والوضوح في التعامل معها كي يفهم الناس وهم يعيشون فوق المعمورة بأنهم محكومون بقواعد عيش مسالمة لا يصح القفز من فوقها، أو ضربها عرض الحائط.
لأننا كما سبق القول في حالة تغذية هذا النوع من الصراع، فإننا نقوم بتغذية حروب أخرى في مجالات أخرى لا يمكن التخلي عنها، وهل يمكن أن نتخلى عن الصناعة مثلا، أو عن السياسة أو عن الاجتماع؟، كلا يمكننا ذلك، فما على الإنسان إلا أن يدرك طبيعة الأذى الشمولي الذي يمكن أن يلحقه بالبيئة، وهذا سينعكس على حياته أيضا بصورة شامل.
هذا النوع من شمولية البيئة نجده في قول الإمام الشيرازي بالمصدر نفسه: (إذن البيئة وحدة متكاملـة تتجمّع فيها الكثير مـن العلوم التي اكتشفها الإنسان من سياسـة واجتماع واقتصاد وغير ذلك، وكما سبقت الإشارة إليه، فالبيئة ـ بالمعنى الأعم ـ تشمل البيئة الوراثية والبيئة الاجتماعية والبيئة الثقافية والبيئة الاقتصادية والبيئة الطبيعية وغير ذلك).
أثر البيئة وتنوعها في الإنسان
ولغرض توضيح رؤية الإمام الشيرازي للبيئة، وتقسيمه لها الى أنواع تتشابك وتتداخل مع جميع مجالات الحياة، فإننا نلاحظ تركيز سماحته على هذا التنوع والشمولية، حيث يطول السياسة والاقتصاد والثقافة وسواها، وسوف يقودنا هذا الأمر الى البيئة الاجتماعية وأثرها الكبير في الانسان، ونعني بالبيئة الاجتماعية المحيط البشري الذي يتحرك فيه الناس، بدءً من المحيط الأصغر المحيط العائلي، صعودا الى المحيطات الأوسع كمحيط الدراسة أو العمل والرياضة، وتكمن أهمية هذا النوع من البيئة في تدخله الواضح بتوجهات الناس وطبيعة ميولهم وأفكارهم، ومما لا شك فيه أن بيئة الإنسان سوف تنعكس بصورة أو أخرى على شخصيته، فتظهر في فكره وأقواله وأفعاله أيضا.
كما نلاحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي حيث يؤكد على أن: (البيئة الاجتماعية هي ممـا تشكل شخصية الإنسان، فإذا كانت هذه البيئة بيئة إيمانية ينشأ الطفل علـى الإيمان، وإذا كانت بيئة منحرفة ينشأ الطفل نشأة منحرفة).
ونظرا لمبدأ الشمولية الذي أشار لها الإمام الشيرازي فإن البيئة الثقافية سوف يكون لها حصة من هذا الصراع ذي الصبغة الدرامية، فهذا النوع من البيئة له تداخل مع منظومة المعرفة ويبدأ هذا الدور منذ مرحلة تشكل الجنين في رحم أمه، من هنا تكمن الأهمية القصوى لنوع الثقافة التي يحصل عليها الإنسان، وربما لهذا السبب تقوم بعض الأمهات بقراءة بعض الصور القرآنية في أذن الرضيع منذ لحظة ولادته حتى ترسخ هذه الكلمات في أعماقه.
وهكذا يكون هنالك مفعولا قويا للبيئة الثقافية على الإنسان في مراحل حياته كافة، والبداية تكون مع الدقائق الأولى لإطلالته على الحياة، حيث تتشكل له شخصية ثقافية ذات سمات خاصة، تأخذ قالبها من حيث النوع والكم ودرجة الجودة والتأثير من طبيعة ثقافة الإنسان نفسه:
وقد أكد الإمام الشيرازي على مثل هذا التأثير الثقافي الكبير للبيئة الثقافية في المخلوق البشري، حيث يترك بصماته في حياة الإنسان منذ أن يفتح عينيه على نور الكون، كما نلاحظ ذلك في قول سماحته: إن (للبيئة الثقافية تأثيرٌ في تنشئة الولد، وقد ذكر علماء النفس تأثير الثقافة على الجنين، فكيف بالوليد، ونقصـد بالبيئة الثقافية المعرفـة والعقائد والعلـم والقانون والأخلاق والعرف والعادة وما أشبه ذلك). وإذا عرفنا أهمية الثقافة في حياة الأمة، الفرد والجماعة، فإننا سوف نفهم أهمية الصراع الدرامي الذي تدخل فيه البيئة كطرف، بعد أن أجبرها الإنسان على ذلك، من خلال العب الذي لا طائل من ورائه سوى تدمير الحياة البشرية لا غير.
الصراع البيئي الاقتصادي الطبيعي
ومثلما تم الحديث عن تأثير البيئة الثقافية، فهنالك التأثير نفسه للبيئة الاقتصادية، حيث يظهر دورها الكبير في بناء الإنسان، ونعني بالاقتصاد مدى قدرة العائلة على توفير الحياة الأفضل لأبنائها، وتوفير مستلزمات التعليم والعناية بالمواهب، بالإضافة الى نوع المأكل والملبس والعيش بصورة عامة، فالطفل عادة ما يتأثر بحالات القصور المادي، ولعل الفقر والعوز من أخطر الآفات الاقتصادية التي تشترك في تدمير حياة الإنسان، وتدفعها الى الانحراف أو المرض ، على العكس من ذلك عندما يكون الأب قادرا على صنع البيئة الملائمة لتطور أبنائه مع توفير الرعاية التامة لمواهبهم وقدراتهم، وحين يحدث العكس فإن الصراع البيئي سوف ينعكس بصورة مباشرة ومعاكسة على حياة الإنسان، حيث الخلل الثقافي والفكري والعقائدي يظهر جليا في مسيرته الطويلة.
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الجانب: (للمشكلات الاقتصادية تأثير كبير فـي البعد التربوي للأطفال، وقـد تؤدي إلى تخلّف عقلي وانحراف نفسي يصيب الأطفال وهم لا ذنب لهم إلاّ أنهم ولدوا في أسرةٍ متهاوية ومنحرفة أخلاقياً).
وحين الولوج في نوع آخر من أنواع البيئة، وصراعها الدرامي مع الإنسان، هذا الكائن الذي لم يحسن حتى هذه اللحظة التعاطي مع الطبيعة ومواردها وما تقدمه له من أسباب الرفعة والتقدم، إلا أنه لا يزال يخطئ في حق البيئة، فقد لا يظن احدنا أن درجة الحرارة يمكن أن تؤثر في طريقة تصرف الإنسان ونوعية تفكيره، وقد نستبعد تدخل طبيعة الطقس في نجاح الإنسان أو فشله في تحقيق أهدافه وطموحاته، لكن عموما ثبت علميا أن طبيعة البيئة تؤثر فعليا على الإنسان شكلا وفكرا وسلوكا، ومن الحري به أن يعتني بالبيئة، ويكف عن الصراع معها، لاسيما أن النتائج تنعكس عليها مباشرة، فهو الخاسر الوحيد في هذه المعركة التي صنعها بنفسه.