الترف والبذخ لا يبني دولةً مدنية

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

شبكة النبأ

2017-03-27 08:25

البناء بأنواعه ليس أمرا سهلا أو هيّنا، فهو يحتاج الى الجدية والعمل المتأني المدروس، والمواظبة ومواجهة أقسى الظروف بإرادة حكيمة، وهناك شرط آخر يتعلق بأهمية حياة الزهد من أجل مواصلة المسؤولين لبناء الدولة، فالترف كما يوصَف هو منهج حياة يميز الذوات المشبعة بالأنانية والبحث عن لذائد الحياة، على حساب الفقراء وغيرهم، والترف غالبا ما يرافق حياة الملوك والسلاطين وذويهم، وكذلك الأغنياء والمتنعمين بالثروات بطرق الاستحواذ، لذا فإن حياة الترف غالبا ما يكون مدعاة للسخط لاسيما اذا تم بناءها من حقوق الغير، وهذا ما يحدث عادة في الدول التي لا تعترف بالقيم السليمة.

ولعلنا نحفل بتاريخ صارخ في ترف القادة والحكام والأمراء والملوك، منذ حقب بعيدة، حيث الجواري والغلمان والأطيان وكل مظاهر الترف ترافق السلاطين بداية من العهد الأموي، مرورا بما يليه، على خلاف حكومتي الرسول (ص) والإمام (علي) حيث كان الزهد طريقهما السديد في إدارة السلطة والدولة، ومن دواعي الأسف أن البعض من قادة الإسلام في الراهن السياسي يشكلون النموذج الجائر والمؤلم في مجال القادة المترفين، فهم لا يضعون مصالح الإسلام والمسلمين في صدارة اهتمامهم كما يتوجب عليهم ذلك، إنما السلطة والقوة والنفوذ ديدنهم، لأن هذه العوامل تشكل مصدرا دائما لترفهم وذويهم، وحتى هذه المرحلة لا يزال المسلمون يعانون من بعض الأنظمة السياسية والأحزاب والمنظمات والشخصيات القيادية التي لا تعترف بالزهد إلا من حيث الإدّعاء، أما التطبيق فإن البذخ هو الأسلوب الوحيد لهم في إدارة السلطة والدولة والمال العام.

يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (الصياغة الجديدة) حول هذا الموضوع: هناك (مجموعة من قادة الأحزاب والمنـــظمات الإسلامية يسلكون سبيل البذخ والترف، بسكنى القصور، وامتطاء السيارات الفارهة، والتزوج بالفتيات الجميلات ذوات المكانة المرموقة، وتهيئة وسائل العيش المريحة، وبذلك ينفصلون عن عامة الشعب، حيث إن من طبيعة الناس عدم الاعتراف بقادة يسكنون الأبراج العاجية ويرفلون في النعيم ثم يتكلمون باسم الفقراء والمساكين وباسم الإسلام والمسلمين).

شواهد قاطعة على ترف القادة

ربما يقول أحدهم أو بعضهم أن هنالك مبالغة في أقوالنا هذه، وإن القادة المسلمين لا يبذخون ولا يفرطون بأموال شعوبهم، بيد أن واقع الحال في سلوكهم وذويهم في التعاطي مع المال العام يؤكد بأنهم يتصرفون بترف غير مبرر على حساب الشرائح الأخرى وهي صاحبة الحق في الثروات والأموال، وإذا اعترض احدهم أو طلب إسنادا لمثل هذه الأقوال والآراء، فإن شراء القصور الفارهة واليخوت وسواها في الكثير من عواصم الدول الغربية وغيرها دليلنا على آرائنا وأقوالنا هذه، فنحن لا نأتي بشيء من عندنا، إنما هنالك أمور موثقة بالأرقام تثبت ما ذهبنا إليه، بالإضافة الى مظاهر البذخ المستمر خصوصا ما يتعلق بالمقامرات السرية والمعلنة في موائد وقاعات القمار وغيرها، حيث يهدر بعض قادة المسلمين والعرب وذووهم ملايين الدولارات في صالات القمار، فضلا عن التورط بالدعارة وما شابه، بالإضافة الى البذخ في الملابس والطعام وما شابه.

وقد يحاول بعضهم إخفاء ما يدل على تورطه في البذخ وهدر أموال الأمة، ولكن حتى لو تحرّز بعضهم في هذا المجال لكي لا يفضح أمره، فإنه يمارس الاستحواذ داخل بلاده فتراه يشتري ما يشاء ويبذخ كيفما يشاء، ويعيش هو وذويه في بحبوحة من المال العام، في وقت تتضور ملايين المسلمين جوعا وفقرا، نتيجة للسياسة الاقتصادية المتخلفة، وضياع فرص البناء السليم بالجهل والقمع ومحاصرة الكفاءات.

وهكذا نجد مثل هؤلاء القادة يضعون أسسا واضحة للفشل في بناء الدولة المدنية القادرة على منح فرص التقدم بشكل متساو بين الجميع، من خلال تفضيل الحكام لأنفسهم وذويهم، مبتعدين بذلك عن النماذج القيادية العظيمة في الحلقات المشرقة من التأريخ الإسلامي، أولئك القادة العظام الذين كانوا يتميزون بالزهد الراسخ على حساب رغبات الذات لصالح العدد الأكبر من الناس، كما حدث في حكومة الإمام علي (ع).

علما أن صنف الحكام غير الزاهدين، هم أكثر القادة كلاما عن الزهد، وأقوالا رنانة في الحرص على أموال المسلمين، فما يُلاحظ على مثل هؤلاء القادة، أنهم يتحدثون باسم الدين ويحاولون تسويق ما يرد في كلماتهم على المسلمين، وهم بذلك يسلكون منهج الخداع الذي لا يمكن أن يستمر طويلا، فسرعان ما يتم كشفهم من لدن الجماهير الواسعة التي لا يمكن خداعها، لأنها تلاحظ وتراقب التباين بين أقوال القادة المترفين وبين سلوكهم القائم في أرض الواقع، حيث لا يمكن إخفاء الآثار الواضحة للبذخ وحياة الترف التي ينعمون بها هم وعائلاتهم وذووهم، كل لك يحدث تجاوزا على المال العام تحت غطاء الدين، حيث يسعى بعضهم لزج الدين في هذه المعمعة، كما يجري في العراق اليوم بسبب فساد بعض المسؤولين في الحكومات الفاسدة.

فقد قال الإمام الشيرازي حول هذه الظاهرة المؤسفة:

(إن من يتكلم باسم الدين لا بد وأن يكون مثل الرسول -صلّى الله عليه وآله- وخلفائه الطاهرين -عليهم السلام- في السلوك والعمل، فإذا رأى الناس رؤساء المنظمات والأحزاب والجمعيات الإسلامية يسلكون خلاف سلوكهم عرفوا أنهم ليسوا من الإسلام في شيء فانفضوا من حولهم، ويسبب ذلك فشلهم).

حالات فساد تضرب أسس الدولة

لذلك لا يصح أن يعيش القادة على حساب الجماهير ولا يجوز لهم السعي وراء الترف متناسين الفوائد الجمة لحياة الزهد والبساطة، كذلك ثمة مشكلات جانبية ترافق حالات الفساد الذي يحدث لبعض القادة والمسؤولين، فإذا انشغل قادة المسلمين بالترف الشخصي والعائلي وبترف البطانة والحاشية، ستُركن قضية بناء الدولة المعاصرة جانبا، وستنشغل المنظمات والأحزاب والجمعيات الإسلامية بأمور جانبية لا تصب في صالح عموم الناس وهو أمر يقود الى عزلة القادة والمنظمات من لدن الجماهير، وهو ما يحدث اليوم في الأوساط الجماهيرية بالعراق على سبيل المثال، حيث يتداول عموم الناس فشل القادة في إدارة شؤون الدولة بصورة سليمة خصوصا ما يتعلق بالأموال وزهد الحكام.

يرى الإمام الشيرازي حول هذا الجانب عدة أسباب حيث يقول سماحته: (من أسباب تخلف المسلمين وعدم تمكن المنظمات والأحزاب والجمعيات الإسلامية من النهضة ومن الوصول إلى الحكم -عدم الجماهيرية-). فالجماهير لابد أنها تكتشف مدى جدية قادتهم على بناء دولتهم بما يتماشى مع متطلبات العصر من خلال الأفعال وليس الأقوال، وذلك برفع المستوى التعليمي والثقافي والإنتاجي للدولة، وهو ما يصب في روافد البناء السليم للمجتمع الحديث المنتج، وهذا لا يمكن أن يتم مع وجود القادة الباحثين عن الترف وديمومة السلطة، بعيدا عن أسلوب الزهد الحقيقي.

لذلك يقول الإمام الشيرازي في هذا المجال: (نحن نرى أن القائدَين العظيمَين رسول الله -صلّى الله عليه وآله- وعلي بن أبي طالب -عليه السلام- وسائر الأئمة -عليهم السلام- كانوا يعيشون عيشة متواضعة زاهدة قانعة، بما في هذه الكلمات من معنى).

خلاصة القول أننا كمسلمين نمتلك إرثا تاريخيا عظيما في السياسة وإدارة الدولة، لابد أن يستفيد قادتنا من تلك التجارب العظيمة، وسلوك الشخصيات القيادية التي تركت بصمتها الخالدة، كما هو الحال في الحكومتين اللتين مر ذكرهما، حيث انتفى الفقر تماما، مع زهد القائد الأعلى، مع استمرارية في بناء الدولة التي تمكنت من حماية حقوق الناس بلا تمييز وهو ما ينبغي أن يتنبّه له القادة المسلمون في عصرنا الراهن ويبتعدون عن كل مظاهر الترف والبذخ وهدر ثروات المسلمين.

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا