تتبع جذور السرطان
دورية Nature
2022-07-31 06:18
بقلم: جيوتي مادهوسودانان
جلس أرنولد كريجشتاين وأعضاء فريقه يراقبون الخلايا السرطانية وهي تنطلق عبر طبق الاستزراع، قاطعةً في بعض الأحيان مسافات تبلغ ثلاثين ضعف طولها في الساعة السابقة لانقسامها. في العادة تكون الخلايا الوحيدة التي يُلاحظ تحرُّكها بمثل هذه السرعة هي بعض الخلايا الجذعية الجنينية أثناء نمو دماغ الجنين، إلا أن الخلايا السرطانية التي جلس الفريق يراقبها كانت مأخوذة من ورم أرومي دبقي، وهو نوع من أورام الدماغ يصعب علاجه، ويرجع ذلك بصفة جزئية إلى انتشاره السريع.
يقول كريجشتاين، الباحث في علم الأعصاب النمائي بجامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو (UCSF)، إن ذلك السلوك يشير إلى أوجه تشابه بين الخلايا السرطانية والخلايا الجذعية التي تلعب دورًا مهمًّا في نمو الأجنة. وأوضح قائلًا: "في كثير من الأحيان، تكون إعادة تنشيط برامج التعبير الجيني المقصورة عادةً على التطور الجنيني جزءًا من الكيفية التي تتحول بها الخلية السليمة إلى خلية سرطانية". ولهذا أراد كريجشتاين البحث في تلك الصلة المزعومة.
قام فريق كريجشتاين، من خلال العمل مع ديفيد رالي، طبيب علاج الأورام بالإشعاع بجامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، بتقسيم عينات الورم الأرومي الدبقي إلى مجموعتين، إحداهما غنية بالخلايا الشبيهة بالجذعية سريعة الحركة، والأخرى تحتوي على خلايا تمايزت إلى نوع أكثر نضجًا من الخلايا السرطانية. زرع الباحثون كل مجموعة من الخلايا بشكل منفصل في أنسجة شبه عضية تشبه أنسجة الدماغ البشري، وهي هياكل بسيطة تحاكي الدماغ، متوقعين رؤية الخلايا الشبيهة بالجذعية هي فقط التي تعيد تكوين الورم الأصلي. ومما أثار دهشتهم أن كلتا المجموعتين أعادتا إنتاج جميع أنواع الخلايا السرطانية1 ويقول كريجشتاين: "لقد بدأنا بالخلايا التي كان منها في الغالب نوع واحد فقط في كل مجموعة، وانتهى بنا الأمر بمجموعة شديدة التباين، لكنْ كيف حدث ذلك؟ لا يزال الأمر غامضًا جدًّا".
منذ تسعينيات القرن الماضي، اشتبه الباحثون في أن السر وراء عودة ظهور المرض، وانتشار السرطان (أو النَّقيلة)، ومقاومة العلاجات، يكمن في الخلايا الجذعية الموجودة في الأورام السرطانية، لكنْ على ما يبدو أنّ الخلايا الجذعية السرطانية لا يمكن توصيفها، إذ إنّ تلك الخلايا لا تحمل علامات جزيئية محددة، وقد لا توجد في جميع الأورام، كما إنها، وهو ما يبعث على الإحباط الشديد، لا ترتبط بشكل كبير بمدى شراسة المرض، أو نتائج العلاج.
يقول لويس فيرميولين، الباحث في الخلايا الجذعية بالمراكز الطبية التابعة لجامعة أمستردام: "في بعض أنواع السرطان، تعمل جميع الخلايا تقريبًا كخلايا جذعية، وفي أنواع أخرى يكون هناك تسلسل هرمي واضح للخلايا الجذعية والخلايا السرطانية الأكثر تمايزًا. يتلخص النقاش الدائر في الواقع في السؤالين التاليين: كم عدد الخلايا الجذعية في نوع معين من السرطانات؟ وهل هي دائمًا نفس الخلايا؟"
للإجابة عن السؤالين، يسعى علماء بيولوجيا السرطان إلى توسيع نطاق مجموعة الأدوات التي يستخدمونها، فبالإضافة إلى أساليب الاستزراع المُحسَّنة، مثل الأنسجة شبه العضية التي استخدمها فريق كريجشتاين، يستغل الباحثون حاليًّا أساليب مستمدة من علم الأحياء النمائي، ومن بينها أسلوب تتبُّع السلالات، وهو من الأساليب الشائعة لتعقب كيفية نمو الخلايا الجنينية، وتمايزها إلى أنسجة بالغة. وبإمكان الباحثين أيضًا من خلال هذا النهج أن يكشفوا كيف يمكن لخلية سرطانية واحدة أن تعيد تشكيل التنوع الجيني الملاحَظ في الورم الأصلي الذي تنتمي إليه تلك الخلية. ويعكف علماء بيولوجيا السرطان حاليًّا على دمج هذا النهج مع الأساليب القائمة على خلية مفردة، لتكوين صورة أوضح تُبَيِّن ما إذا كانت الخلايا الجذعية السرطانية تُحفِّز حدوث المرض، أم لا، وكيفية حدوث ذلك.
توسيع نطاق الاستزراع
كان الدافع من وراء قرار كريجشتاين ورالي باستخدام الأنسجة شبه العضية هو الافتقار إلى نماذج حيوانية جيدة، إذ يصعب زرع الأورام الأرومية الدبقية في الفئران والجرذان، على سبيل المثال، لكنْ يمكن للأنسجة شبه العضية أيضًا أن توفر بيئات مناسِبة للأنسجة البشرية أكثر مما توفره الخصائص البيولوجية للقوارض، كما أنها سهلة الاستخدام بشكل مدهش، حسبما تقول أبارنا بادوري، وهي باحثة في مرحلة ما بعد الدكتوراة، وعضو سابق في فريق كريجشتاين. يتمكن الباحثون بالنظر من خلال المجهر فحسب من نقل خلايا الورم إلى سطح الأنسجة شبه العضية، ثم ينتظرون لمدة 45 دقيقة تقريبًا حتى تتشكل الأورام. تقول بادوري: "إنها طريقة أسهل بكثير من التجارب التي تُستخدَم فيها الحيوانات".
ومع ذلك، لا يمكن للأنسجة شبه العضية أن تحل محل الحيوانات، إذ إن هياكلها تفتقر إلى الأوعية الدموية، وبالتالي لا يمكنها توضيح كيفية تفاعل الأورام مع الدورة الدموية، كما إنها شديدة التباين، كما تقول بادوري، التي تترأس الآن مختبرها الخاص ببيولوجيا الخلايا الجذعية بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجيليس. تقول بادوري: "ربما نكون في حاجة إلى مزيد من التحسينات في هذا الصدد، لكي نتأكد من أننا نحصل من خلال النهج المتبع على جميع أشكال التنوع التي قد تكون موجودة في أي ورم".
ومما يزيد الأمر صعوبة، كما يقول جيريمي ريتش، عالِم الأورام العصبية في المركز الطبي بجامعة بيتسبرج في بنسلفانيا، أن للأنسجة شبه العضية متطلبات غذائية ونمائية مختلفة عن الخلايا الموجودة في المستزرعات التقليدية، وهو ما يجعل من الصعب استخدامها في الدراسات عالية الإنتاجية. يستخدم الفريق البحثي لريتش الطباعة الحيوية، وهي عملية مشابِهة للطباعة الثلاثية الأبعاد، التي تستخدم الخلايا ووسائط الاستزراع محل المواد الخاملة، لدراسة كيف تسهم الالتهابات وجهاز المناعة في تشكيل سلوك خلايا الورم الأرومي الدبقي. يُعَد الخلل المناعي جزءًا أساسيًّا في العديد من السرطانات، ولكنْ تصعُب دراسته في الأنسجة شبه العضية والنماذج الحيوانية، فالأنسجة شبه العضية لا تمتلك جهازًا مناعيًّا، والنماذج الحيوانية مُصمَّمة لكي تكون ضعيفة مناعيًّا حتى يمكن لخلايا الورم البشرية أن تنمو بداخلها.
يطبع ريتش وزملاؤه الهلاميات المائية باستخدام مزيج من أنواع مختلفة من الخلايا والمواد الأولية، مثل حمض الهيالورونيك. وعند طباعة الهلاميات المائية، يشكل وسط النمو المكون من تلك الهلاميات سقالة ثلاثية الأبعاد مزروعة بخلايا يمكن استخدامها كنموذج للورم. وعندما جرَّب ريتش وفريقه ذلك النهج باستخدام خلايا جذعية مأخوذة من ورم أرومي دبقي ممزوجة بمجموعات مختلفة من خلايا عصبية أخرى، لاحظوا أنه في وجود الخلايا المناعية المعروفة باسم الخلايا البلعمية، عبرت خلايا الورم عن جينات مرتبطة بقدرة أكبر على الغزو ومقاومة العقاقير لدى الأشخاص المصابين بالورم الأرومي الدبقي2 اكتشف الباحثون أيضًا أن الخلايا الجذعية المُستزرَعة في وسط أنواع أخرى من الخلايا أخذت تحاكي نفس سلوكها في العالَم الواقعي، ما يشير إلى أن بيئة الأنسجة لها دور بارز في تحديد تمايز الخلايا الجذعية.
وعلى نحو مشابه، وجدت سيلفيا فري، عالمة بيولوجيا الخلايا بمعهد كوري في باريس، أن أنسجة الثدي السليمة لدى الفئران البالغة تحتوي فقط على نسخ متمايزة من الخلايا الجذعية التي لا يمكن أن تتحول إلى أورام، ولكنْ إذا أزيلت تلك الخلايا ذاتها من الأنسجة البالغة، فإنها سريعًا ما تعيد تنشيط قدرتها التعددية، أو ما يُعرَف بالقدرة على التمايز إلى أنواع مختلفة من الخلايا، بما في ذلك الخلايا السرطانية، مما يعزز من قيمة الدور بالغ الأهمية لبيئة الأنسجة في تطور الأورام.
ومن الممكن أن تكون لنماذج الاستزراع الأبسط فائدتها أيضًا في ذلك الموضوع. ففي دراسة4 أُجريت في عام 2018، استخدم فيرميولين وزملاؤه نظامًا يقوم على نموذج بسيط يُسمَّى "المستزرع الكروي"، حيث تُزرع خلايا الورم الخاصة بشخص ما في مزرعة ثلاثية الأبعاد، حرة الحركة في طبق مختبري، بالإضافة إلى طعوم ورمية، يُحصل عليها من خلال زراعة الخلايا السرطانية البشرية في فأر يعاني من نقص المناعة، ثم السماح لتلك الخلايا بأن تنمو في هيئة ورم. كشفت هذه النُهُج أن خلايا سرطان القولون البشرية تصبح أكثر شبهًا بالخلايا الجذعية كلما اقتربت من حافة الورم. وعندما أخذ أفراد الفريق خلايا غير تكاثرية من قلب الورم، وزرعوها على حافته، ظهرت على الخلايا علامات تدل على اكتسابها قدرة تكاثرية. وخلُص المؤلفون إلى أن الخلايا الجذعية لسرطان القولون البشري لا تُعرف بأنماط التعبير الجيني الذاتية فيها، ولكنْ بموقع تلك الخلايا. يقول فيرميولين: "أصابتني دهشة بالغة عندما علمت أن البيئة التي ينمو فيها الورم هي العامل المهيمن الذي يُعرِّف الخلية الجذعية. فتحديد أي الخلايا هي التي تتصرف على غرار الخلايا الجذعية أمر يتغير طوال الوقت حسب موقع تلك الخلايا في الورم".
تتبع المسارات الخلوية
يوضح الرابط المشار إليه آنفًا بين البيئة الخلوية وهوية الخلايا إلى أن الخلايا السرطانية قد تبدو شبيهة بالجذعية في ظل بعض الظروف التجريبية ولكن ليس في جميع الظروف الأخرى، أو أنها قد تُعبِّر عن مجموعات مختلفة من الجينات باختلاف بيئتها المحيطة. كذلك فإن تلك الخلايا تفتقر إلى وجود علامات سطحية عامة، مما يجعل وسمها ودراستها أمرًا أكثر صعوبة. لكن الباحثين قد ابتكروا مجموعة من الاستراتيجيات البديلة لتتبع مسارات الخلايا، كثير منها مستعار من مجموعة الأدوات الخاصة بعلم الأحياء النمائي.
استخدمت فري وفريقها البحثي سلالة من الفئران تسمى "كونفيتي" Confetti بهدف دراسة الخلايا الجذعية في الغدد الثديية الجنينية. وقد سُميت تلك السلالة بهذا الاسم، وهي كلمة إنجليزية تطلق على قصاصات الورق الملوَّنة، لأن الخلايا يمكنها التعبير عن أربع مُرشدات فلورية مختلفة. عندما حقن الباحثون الحيوانات بمادة كيميائية لتحفيز التعبير عن البروتين المُرشِد في أوقات مختلفة أثناء النمو، حدث تنشيط للبروتينات في مواقع مختلفة. وباستخدام الفحص المجهري الفلوري، تمكن الفريق فيما بعد من معرفة أين انتهى المطاف بالخلايا ذات السلالات المختلفة في الأنسجة البالغة. استخدم فيرميولين وزملاؤه نهجًا مشابهًا قائمًا على الإشارات الفلورية لفهم الكيفية التي تتحكم بها البيئة في الخلايا الجذعية لسرطان القولون في دراسات استزراع الخلايا.
تُعَد الرموز الشريطية الجينية خيارًا آخر لتعقب الخلايا عندما تتبنى طفرات، وتنقسم إلى مجموعات فرعية مختلفة. يمنح هذا النهج كل مجموعة من الخلايا رمزًا شريطيًّا جينيًّا ثابتًا، وبانقسام الخلايا، تتطور الرموز الشريطية. ومن خلال وضع تسلسل لجميع الرموز الشريطية الخاصة بالخلايا، ومقارنتها، يمكن للباحثين حينئذٍ معرفة كيفية ارتباط الخلايا المختلفة ببعضها بعضًا، ومدى إسهام كل منها في نمو الورم.
هناك أشكال مختلفة من هذا النهج كانت قد اعتمدت على رموز شريطية ثابتة تحملها الفيروسات البطيئة، التي استُخدمت كوسيلة لإدراج التسلسلات عشوائيًّا في مجموعة من الخلايا. أما الآن، فإن أداة التحرير الجيني "كريسبر" CRISPER تعمل على تحسين تلك العملية.
في عملية تتبع السلالات القائمة على استخدام أداة "كريسبر"، يُدخِل الباحثون مصفوفة من تسلسلات "كريسبر" المُستهدَفة في جينومات الخلايا. ومن ثم، يلِج إنزيم "كاس9" إلى تلك المستهدفات بشكل دوري ليقطعها، مما يحفز بدء عمليات إصلاح الحمض النووي، ويُخلِّف وراءه ندبة جينية تعمل كمُعرِّف فريد للخلية ونسلها. وعلى عكس الرموز الشريطية للفيروسات البطيئة، يُنشئ هذا النظام رموزًا شريطية فريدة بطريقة ديناميكية، ربما في كل مرة تنقسم فيها الخلايا، مما يتيح للباحثين إمكانية الربط بين الخلايا المختلفة ونسلها6. يقول ألكسندر فان أوديناردين، عالِم بيولوجيا الخلايا الجذعية في معهد هوبريخت في مدينة أوترخت الهولندية: "تتراكم التغيرات بمرور الوقت. ويختلف الأمر تمامًا عن الرموز الشريطية للفيروسات البطيئة التي استُخدمت في السابق".
ثمة نهج آخر يقرن التسلسل الخاص ببروتين فلوري بمقطع متكرر من الحمض النووي، وهو تكرار طويل لقواعد السيتوزين والأدينين التي تعتبرها الخلايا بمثابة مشكلة. مع انقسام الخلايا، فإنها بشكل دوري "تُصلِح" هذا التسلسل المتكرر عن طريق قصِّه، مما يؤدي في النهاية إلى وضع التسلسل الخاص بالبروتين الفلوري في موقع من الجينوم يمكن التعبير عنه. يقول فيرميولين إن عملية الإصلاح تلك تحدث مرة واحدة من بين كل عشرة آلاف خلية، أو نحو ذلك، مما يبعث توهجًا جينيًّا صغيرًا يمكن رؤيته تحت المجهر. تكمن الميزة، كما يقول فيرميولين، في أن هذا النوع من الوسم الفلوري لا يتطلب مادة كيميائية لتنشيطه، ويقول: "إنها طريقة لتتبع السلالات لا تمس الخلية على الإطلاق".
إنّ لكل استراتيجية من هذه الاستراتيجيات محاسنها وعيوبها، فعلى سبيل المثال، تكون بعض تسلسلات "كريسبر" أكثر عرضة للتندب من غيرها، مما يؤدي إلى حدوث نوع من التحيز في عملية لا يشوبها أي انحياز من الناحية النظرية. ويتطلب الفحص المجهري والاستراتيجيات القائمة على التسلسل مهارات حاسوبية وتقنية متقدمة. ومع ذلك، توفر الوسوم مقرونة بتسلسل الحمض النووي الريبي أحادي الخلية، أدوات قوية لتحديد أهمية الخلايا الفردية في الورم، نسبةً إلى بعضها البعض.
ويشير فيرميولين إلى أنه "إذا كان الورم مدفوعًا بخلايا جذعية سرطانية، فإن بعض الخلايا الموسومة فقط سوف تتكاثر وتتحول إلى مستنسخات كبيرة، لكنْ في حالة الورم الذي يعتمد على أنواع عديدة من الخلايا، فإن معظم الخلايا يتمدد. وبوضع البيانات في نموذج رياضي، يمكنك حينئذ تحديد إلى أي مدى تتبع أحد أنماط النمو عن نمط آخر".
كشف مزدوج
يمكن لمثل هذه النماذج أن تقدم صورة أكثر اكتمالًا عن كيفية نمو خلايا الورم وتغيُّرها، لكنها في الوقت ذاته تتطلب أيضًا خوارزميات حاسوبية جديدة. فالنماذج المُستخدَمة عادةً لاستنتاج العلاقات التطورية بين الخلايا لا يمكنها التعامل مع الكميات الكبيرة من المعلومات التي تتولد عند دمج مجموعة بيانات خاصة بتتبع السلالات مع مجموعة بيانات مستنبطة من عمليات تسلسل الحمض النووي الريبي أحادي الخلية.
يقول عالِم الوراثة جيه شندور بجامعة واشنطن في سياتل، الذي طورت مجموعته البحثية أحد أنظمة "كريسبر" الأولى لتتبع السلالات وتسلسل الحمض النووي الريبي في الوقت نفسه7 إن تلك المسألة تمثل مشكلة لطالما عانَى منها الباحثون في علم الأحياء النمائي.
عندما يتعلق الأمر بتتبع السلالات في دراسات السرطان، تكون المشكلات الأكبر في الغالب ذات طبيعة تقنية، من عينة استعادة كميات كافية من الرمز الشريطي ومعالجة البيانات المفقودة. وغالبًا ما تتضمن دراسات تتبع السلالات فجوات، يعود مَنشأها إلى أن بعض مجموعات الخلايا تختفي، أو أن كميات تسلسل الرمز الشريطي في العينة تكون صغيرة جدًّا بحيث لا يمكن معالجتها. يقول شندور إن الخوارزميات من الممكن أن تصعب عليها معالجة تلك الفجوات، ولذا فمن الضروري تعظيم إنتاجية واستقرار تسلسل الحمض النووي الريبي الذي يُرمِّز الرمز الشريطي. ويقول عن ذلك: "أنت بحاجة إلى معدلات استرداد عالية نسبيًّا. وإذا وضعت خلايا معينة في بروتوكول معين، فمن المؤكد أنك تريد استعادة جزء كبير نسبيًّا منها".
وفي دراسة نُشرت هذا العام، تعقّب تريفر بيفونا، الباحث في مجال السرطان بجامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، وزملاؤه بشكل متزامن كلًّا من السلالات والتغيرات في التعبير عن الحمض النووي الريبي في خلايا سرطان الرئة المزروعة في الحيوانات. تمكَّن الباحثون من خلال الأداة التي استخدموها، والقائمة على إنزيم "كاس9"، من متابعة الكيفية التي استطاعت بها التغيرات الجينية دفع الخلايا السرطانية إلى زرع أورام في أنسجة بعيدة بشكل آني، وتُعرف عملية انتقال الأورام هذه باسم "النقيلة".
سجل أفراد الفريق بيانات السلالات والتعبير الجيني لأكثر من أربعين ألف خلية من خلايا الفئران من ستة مواقع مختلفة في أجسام الحيوانات، ووجدوا أن الخلايا تنتقل ذهابًا وإيابًا بين حالات وراثية مختلفة عدة مرات، قبل أن تستقر في مسار مختلف.
من أجل تحليل هذه البيانات الضخمة، طوَّر الباحثان المعاونان لبيفونا، وهما: عالِم الأحياء جوناثان وايزمان بمعهد وايتهيد في كامبريدج بولاية ماساتشوستس، وعالِم الحاسب نير يوسف بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، مجموعة من الأدوات، أطلقا عليها اسم "كاسيوبيا" Cassiopeia، من شأنها أن تساعد على إعادة بناء السلالات على أساس بيانات الرموز الشريطية المتولدة من أداة "كريسبر-كاس9". وقد جعل هذان الباحثان وغيرهما أدواتهم التحليلية متاحة للباحثين الآخرين بدون مقابل (انظر: go.nature.com/2ptezwd).
أما بادوري، فكثيرًا ما تلجأ إلى مجموعة أدوات تسمى "سوراه"10 Seurat، طَوّرها عالِم الإحصاء راؤول ساتيا وعالمة الأحياء الحاسوبية أفيف ريجيف عندما كانا في معهد برود، التابع لجامعة هارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في كامبريدج بولاية ماساتشوستس. تتيح أدوات "سوراه" لبادوري تحليل التغيرات في التعبير الجيني والتباينات في عدد النسخ الخاصة بجين معين في الخلايا المفردة، في نفس الوقت.
وبغض النظر عن مجموعة الأدوات التي يختارها الباحثون، توصي بادوري بأن يعتمد الأشخاص المستجدون في مثل هذه التحليلات على الدروس التعليمية المتاحة، وأنْ يعملوا من خلال الدورات التدريبية التي يقدمها مطورو الخوارزميات. أما أولئك الباحثون الذين طوروا برمجيات تحليلية بأنفسهم، مثل فيرميولين وغيره، فعادةً ما يتعاون هؤلاء مع علماء الإحصاء الحيوي للقيام بتلك المهمة.
ومع ذلك، ما تزال ثمَّة حاجة إلى تطوير أدوات أفضل، كما يقول شندور. ويضيف قائلًا: "مع نمو عدد الخلايا في الشجرة التطورية، يتضاعف عدد الترتيبات الممكنة أضعافًا كثيرة. سوف نحتاج إلى أدوات أكثر ثراءً، قبل أن نتمكن من إدراك إمكانات هذا الجانب بالكامل من البحث والتقصي".
الأمر لا يزال معقدًا
إن تسليط عدسة علم الأحياء النمائي على مشكلة الخلايا الجذعية السرطانية قد كشف عن عديد من القوى المُركَّبة الدافعة لمرض السرطان، والكم الهائل من المسارات التي تسلكها الخلايا نحو تكوين الورم. يقول ريتش: "إن النظر إلى السرطان من منظور الخلايا الجذعية قد أسهَم بالفعل في تغيير قدرتنا على فهم ذلك المرض".
لا يزال المجال يفتقر إلى تعريف دقيق للخلية الجذعية السرطانية، لكن هذه الدرجة من الوضوح قد لا تكون ضرورية. ومن الممكن أن يكون إدراك أهمية الخصائص الشبيهة بالخلايا الجذعية في الأورام، والكيفية التي من خلالها يمكن للبيئات الميكروية المحيطة بالخلايا أن تدفع تلك الخلايا نحو اكتساب تلك السمات، أمرًا كافيًا للوصول إلى علاجات جديدة.
هناك بعض السمات المميزة للخلايا السرطانية والأنسجة الجنينية، مثل الانتشار السريع الملاحظ في الخلايا الجذعية للورم الأرومي الدبقي، أو تعدد القدرات الذي يميز الخلايا الجذعية لسرطان الثدي. ويمكن أن يؤدي غياب مثل هذه السمات في الأنسجة السليمة البالغة إلى أنْ تصبح مُستهدَفات مثالية للعقاقير، لأن العلاجات التي تمنع هذه السلوكيات في الخلايا السرطانية من شأنها ألا تؤذي الخلايا السليمة. ولعل منع هذه السلوكيات - سواء أبدتها خلايا يمكن تعريفها بالخلايا الجذعية السرطانية، أم لا – يمثل الهدف النهائي لهذه الجهود البحثية.
يقول ريتش: "حتى الآن، لم نحقق نجاحًا كبيرًا في الجانب العلاجي على أرض الواقع، ومن ثم إذا استهدفنا الخلايا الجذعية السرطانية، فإننا يمكن أن نرى تحسنًا في فرص المرضى للنجاة. هذه هي الحلقة الوحيدة المفقودة".