الفساد وانهيار المنظومة القيمية

عادل الصويري

2016-05-18 11:00

شكلت ظاهرة الفساد المالي والإداري أيقونة مخيفة تشي بتصدع أو ربما انهيار منظومات القيم الأخلاقية والمجتمعية حتى رغم تباينه واختلافه من مكان لآخر، لكنه يتحد اتجاه مصادرة الاستحقاقات الإنسانية حين ينشئ له مافيات فئوية وحزبية تفتح المجال أمام تنافس غير مشروع قبل أن يتحول إلى ثقافة وسلوك ينتشران كالنار في الهشيم ويجعل الحديث عنه وعن آثاره ضرباً من الترف النقدي والتنظيري مالم ترافق عملية الكتابة والبحث جهود حقيقية تشخص المسببات وتعمل على وضع الحلول والمعالجات لاستئصاله .

وفي كل المراحل الزمنية كان الفساد سبباً لنشاط الحركات المعارضة سياسياً أو نشوط الحركات الاحتجاجية التي تأخذ طابع التمرد المدعوم على مستوى القطعات العسكرية ضد الحكومات التي شيدت أمجادها وامبراطورياتها على حساب استحقاقات الأفراد ؛ لذلك نلحظ أن أن هذه الحكومات تلجأ دائماً إلى تحصين نفسها عبر الإيغال بنهب الخيرات مستبقة بذلك أية حركات احتجاجية قد تطيح بها فيكون فسادها - عند هذه النقطة - مضاعفاً .

والكثير من الدراسات المختصة أولت الفساد اهتماماً كبيراً وناقشته من الجوانب القانونية والاقتصادية والسياسية أجمعت على أنه ظاهرة مستمرة لايكاد يخلو مجتمع أو نظام من وجودها وآثارها .

ولعل أهم مراحل تطور الفساد هو الخلط بين القيم الأخلاقية والأنظمة السياسية بحيث تسود النظرة على كل من يخالف هذه الأنظمة بأنه خارج على السائد الاجتماعي المتبع ، وقد أسس لهذا الخلط بعض الاتجاهات الدينية المنحرفة عن المسار الصحيح ، ولسنا بصدد مناقشة هذه الاتجاهات في هذه السطور .

وحتى في المجتمعات الإسلامية ، نجد للفساد حضوراً نتيجة التباين بين الواقع والمنهج ، أو بتعبير أدق الانفصام الكبير بين النظرية وآليات تطبيقها . وفي موضوعة قدم الفساد النالي والإداري نورد بعض المعلومات :

1/ قام فريق تنقيبات أثرية هولندي بالتنقيب في موقع أثري اسمه (داكا) في سورية على ألواح لبعض الكتابات المسمارية تقترب حالياً من مفهوم الأرشفة الإدارية والرقابية تكشف عن حالات قبول الرشا من قبل الموظفين العاملين في البلاط الملكي الآشوري .

2/ عثر على لوح محفوظ عن الحضارة الهندية يعود تأريخه إلى 300 سنة قبل الميلاد كتبت عليه عبارة ( يستحيل على المرء أن لايذوق عسلاً أو سمّاً امتد اليه لسانه ) ، والعبارة واضحة المقاصد ولاتحتاج لجهد تأويلي .

المنظومة المجتمعية/

حدد علماء الإجتماع الفساد بانتهاك القواعد المتعلقة بالسلوك القويم ، هذا الإنتهاك في حالة حصوله سيؤدي إلى حالة تتفسخ فيها كل القيم والأعراف بسبب غياب الإتزان والإستقامة للشخص الذي ينتهك هذه القواعد ، أو الشخص الذي يخرق القوانين - الموظف مثلاً - ويستبدلها بآليات عائلية أو عشائرية أو حزبية جاعلاً من الموقع الوظيفي مطية يركبها لأجل المتاجرة الفاسدة وهي (رابحة) بالنسبة له ولنمط تفكيره على مستوى الأفق الزمني المرحلي . ومن الطبيعي أن تكون هناك ردات فعل ستزيد من تعقيدات الوضع الإجتماعي حيث إشاعة الجريمة والتطرف الفكري وغياب المهنية والتلكؤ في أداء المهام الوظيفية وغيرها من أشكال تشويه البنية المغذية للإحتقان المجتمعي .

الواقع العراقي /

وليس العراق بمعزل عن محيطه المتأثر بالفساد ، خصوصاً في ظرفه الحالي الذي أنتج نظاماً ورث من الخراب السياسي والاقتصادي والاجتماعي الشيء الكثير من سلفه البعثي بحيث أصبح بحاجة إلى ثورة تنموية شاملة على كافة الأصعدة ، وهذه التنمية لانعتقد أنها حالياً ستصمد أمام طوفان الفساد الهائل الذي يجتاح البلاد ويكاد يبتلع أخضرها ويابسها على السواء.

في زمن النظام البعثي السابق ، كانت المركزية القوية سنداً وظهيراً للفساد كونها محمية بأقوى مؤسستين في الدولة وهي الحزب الحاكم وأجهزة الأمن والمخابرات ؛ لذلك كان الفساد الأكبر حصرياً على عائلة صدام حسين ومقربيه ومن هم في دائرتهم من المتزلفين إذا ماأخذنا بنظر الإعتبار أن تشكيل الدولة العراقية كان مرتبكاً أصلاً بسبب استغلال أقلية مجتمعية على المناصب العليا في البلاد وإدارتها على أنها إقطاعية مملوكة لهذه الأقلية قبل أن تتحول إلى إقطاعية عائلية مخلصة .

وقد فصلت بعض الصحف العالمية أشكال الفساد التي رافقت حقبة نظام صدام حسين بالشمل التالي :

1/ بلغت ثروة صدام حسين 40 مليار دولار .

2/ شركاته وعقاراته منذ حرب الخليج أنفق عليها أكثر من بليوني دولار في بناء 48 قصراً جهزت حماماتها بحنفيات مطلية بالذهب .

3/ عدي صدام حسين كان مهرباً للنفط وسارقاً لشركات النقل العامة والسيارات .

4/ حسين كامل حسن صهر صدام قبل أن يقوم الأخير بقتله بعد خلاف شهير ، كان يسيطر على البساتين والنزارع في بغداد وخارجها .

كما اتخذت المؤسسة العسكرية شكلاً فاسداً سمحت به السلطات كما في حالة السلب والنهب الشهيرة التي رافقت غزو الكويت ، أو ابتزاز الجنود بالرشا بهدف وضعهم في مواقع آمنة أو من أجل الحصول على إجازات .

وكان للحصار الإقتصادي الذي فرض على العراق عام 1991 من قبل الولايات المتحدة الأميركية أثره في تنامي الفساد ليشمل بسطوته الجانبين القضائي والتربوي لينخر جسد الدولة العراقية اقتصادياً واجتماعياً في الوقت الذي كان النظام السياسي يتداعى حتى سقوطه في التاسع من نيسان عام 2003 مخلفاً تبعات وتراكمات هائلة من الفساد المالي والإداري رسخت في الذاكرة التدوينية لتلك الفترة الزمنية من الواقع العراقي .

القميص الديمقراطي/

مع التغيير الذي حصل في العراق بإسقاط نظام صدام حسين عبر ترسانة عسكرية أمريكية وبعض الحلفاء ، ارتدى الفساد قميصاً بزخارف ديمقراطية ، وبدا كأنه زياً موحداً للكثير من مفاصل الدولة العراقية حيث أقدمت أميركا في مرحلة ماقبل تشكيل أول حكومة عراقية منتخبة بتعيين بعض الأشخاص الأمريكيين من غير الأكفاء وأوكلت لهم مهمة إدارة المؤسسات الحكومية ، وبدورهم قاموا بتحويل هذه المؤسسات إلى شركات للسمسرة والتجارة الرابحة والمزدهرة بهدر المال العراقي الذي وجدوا أنفسهم مسلطين عليه وعلى مقدراته .

وحتى مع وجود الانتخابات التي يختار الشعب فيها ممثليه الذين ينتجون حكومة وطنية ، لم تختف مظاهر الفساد بعد أن رسخت التجربة الجديدة مبدأ المحاصصة البغيض بذريعة تمثيل مكونات الشعب المتعددة بإدارة البلاد ، وراح السياسيون الممثلون لهذه المكونات الإثنية والعرقية والمذهبية يتسابقون في نهب خيرات البلد وبأساليب متعددة متحصنين بالمثل الشعبي الدارج ( شيّلني واشيلك ) بعد أن غاب الدور الرقابي البرلماني وتلاشى في دخان هيمنة زعماء الكتل والأحزاب الصاعدة بالآليات التي خاطت لهم القميص الديمقراطي الفضفاض .

هل من علاج ؟/

قد يبدو هذا التساؤل ساذجاً مع المعطيات التي ذكرناها في السطور السابقة ، وليس تشاؤماً القول أن لاعلاج لهذه الظاهرة المخيفة والمستفحلة على المدى المنظور حتى مع استعراض أشكال وطرق مكافحة الفساد التي زخرت بها الدراسات والبحوث المعمقة .

فلو سلمنا مثلاً بدور وسائل الإعلام على تنويعاتها ، فإننا سنصطدم بحقيقة مؤلمة تتلخص بملكية الكثير من وسائل الإعلام العراقية لسياسيين مشاركين في إدارة البلاد فضلاً عن حصص وأسهم لسياسيين في وسائل الإعلام العربية ، لذلك صارت لنا وسائل إعلامية مؤدلجة تنقل وجهة نظر أحادية أو وجهة النظر القريبة المتماهية مع أحاديتها .

وهناك وسائل إعلام غير متحزبة يمكن تقسيمها إلى مؤيدة ومعارضة ، وهذه الوسائل لاتعرض سوى وجهة النظر الخاصة بها أيضاً ، فوسائل الإعلام التابعة للدولة سابحة في خيال الدولة المثالية ، بينما نجد في المقابل وسائل الإعلام المعارضة تحاول نسف كل شيء من شأنه أن يعطي ضوء أمل مهما بدا ذلك الضوء ضئيلاً ، وفي الحالتين النؤيدة والمعارضة تغيب الموضوعية والمهنية بشكل تام .

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا