لماذا تحتاج الديمقراطية أن تصبح رقمية؟
شبكة النبأ
2025-12-20 04:12
تتلاشى الثقة في الديمقراطية، إذ يرى المواطنون بشكل متزايد أن الحكم الذاتي بات بطيئاً، ومتهالكاً، ومفتقراً للشفافية. لقد حان الوقت للمؤسسات الديمقراطية أن تتبنى الثورة التقنية. الحوكمة الرقمية ليست مجرد أداة تكميلية؛ بل هي شريان الحياة للديمقراطية.
في مقاله المعنون "لماذا تحتاج الديمقراطية أن تصبح رقمية" والمنشور في مجلة الديمقراطية، يناقش الباحث (مادهاف دهاكال، وهو باحث دكتوراه في جامعة مانيبال جايبور)، الهند أزمة الثقة المتفاقمة التي تواجهها الأنظمة الديمقراطية حول العالم، حيث باتت الشعوب تنظر إلى مؤسسات الحكم التقليدية على أنها كيانات بطيئة ومتهالكة وتفتقر إلى الشفافية. ينطلق الكاتب من هذه الإشكالية ليطرح "الحوكمة الرقمية" ليس بوصفها مجرد تحديث تقني، بل كضرورة حتمية وشريان حياة لاستعادة شرعية الديمقراطية، مستهلاً طرحه بنموذج إستونيا الرائد التي نجحت في تحويل 99% من خدماتها إلى الإنترنت، مما أثبت أن التكنولوجيا قادرة على رفع الكفاءة، ومحاربة الفساد، واستعادة ثقة المواطنين بشكل عملي وملموس.
يستعرض المقال مفهوم "عجز الحوكمة" العالمي، مشيراً إلى الخسائر المالية الضخمة التي يتكبدها الاقتصاد العالمي بسبب الفساد، ويقارن بين تجارب دولية متنوعة؛ فبينما تتميز الولايات المتحدة بابتكارات تقنية قوية في مجال البيانات المفتوحة رغم تشرذم نظامها المركزي، تقدم الهند نموذجاً ناجحاً في تطبيق الحوكمة على نطاق واسع لخدمة الملايين، في حين تركز أوروبا على الجانب التشريعي وحماية الخصوصية. ويرى الكاتب أن الأدوات الرقمية مثل الأتمتة وسلسلة الكتل (Blockchain) تعد أسلحة فعالة لتقليص البيروقراطية وكشف الاحتيال، محذراً في الوقت ذاته من أن الرقمنة بدون مساءلة ديمقراطية قد تؤدي إلى نتائج عكسية تعزز الإقصاء والمراقبة السلطوية.
يختتم دهاكال رؤيته بخارطة طريق لإنقاذ الديمقراطية في العصر الرقمي، داعياً إلى تبني أنظمة مفتوحة المصدر لضمان الشفافية، والالتزام بمعايير عالمية لحقوق البيانات، ودعم البنية التحتية في الدول النامية. ويشدد في النهاية على أن التحول الرقمي يجب أن يكون قراراً سياسياً يرتكز على الأخلاق والشمولية لضمان عدم ترك أي فئة خلف الركب، محذراً من أن التخلف عن ركب الحوكمة الرقمية يعني المخاطرة بأن تتحكم التكنولوجيا في الشعوب بدلاً من أن تخدمهم.
وفيما يلي ترجمة المقال:
عندما نقلت إستونيا جميع خدماتها الحكومية تقريباً إلى الإنترنت في عام 2001، أصبح بإمكان المواطنين تقديم إقراراتهم الضريبية في ثلاث دقائق، والاطلاع على سجلاتهم الصحية فورياً، والتصويت بأمان من خلال حواسيبهم المحمولة. ونتيجة لذلك، تراجع الفساد، وتحسنت الكفاءة، وازدادت الثقة في الحكومة. هذا ليس حلماً بعيد المنال؛ بل هو واقع نعيشه اليوم. وهو يُظهر ما يحتاجه بقية العالم - بما في ذلك الولايات المتحدة - بشكل عاجل: حوكمة رقمية تضع الشفافية في قلب الديمقراطية.
تواجه الحكومات في جميع أنحاء العالم ضغوطاً متزايدة. فمن أروقة السلطة في واشنطن وبروكسل إلى المجالس القروية في أفريقيا وآسيا، سئم الناس من الغموض، وبطء الخدمات، والفساد المستشري. إن الثقة في المؤسسات العامة تتآكل، والمشاركة المدنية في تراجع، وتواجه الديمقراطيات -حتى في الدول الراسخة- صعوبة في الوفاء بوعودها. في ظل هذه البيئة، لا يحتاج العالم إلى حوكمة أفضل فحسب؛ بل يحتاج إلى حوكمة رقمية منفتحة، وتشاركية، وخاضعة للمساءلة، ومستعدة للمستقبل.
توفر الحوكمة الرقمية فرصة ليس فقط لرقمنة المهام البيروقراطية، بل أيضاً لإعادة تشكيل من يمسك بزمام السلطة وكيفية ممارستها. عندما تُصمم الأنظمة الرقمية مع وضع الشفافية والشمولية والأخلاق في الاعتبار، يمكنها الحد من الفساد، وتمكين المواطنين، واستعادة الثقة في المؤسسات الديمقراطية. هذا أكثر من مجرد تحديث تقني؛ إنه ضرورة أخلاقية وسياسية. في الوقت الذي تكافح فيه المؤسسات من أجل الحفاظ على شرعيتها ويزدهر الفساد في البيئات المعقدة، قد يكون استخدام التكنولوجيا في الحكم هو أفضل طريق للمضي قدماً.
أزمة الحوكمة العالمية
نحن نشهد اليوم ما يصفه العديد من العلماء بـ "عجز الحوكمة". يشير المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن أكثر من 3.6 تريليون دولار أمريكي تضيع بسبب الفساد كل عام. وهذا المبلغ أكبر من الناتج المحلي الإجمالي لدول بأكملها مثل البرازيل أو المملكة المتحدة. كما أن التصور العام للجمهور يبدو قاتماً؛ حيث وجد استطلاع أجراه مركز "بيو" للأبحاث عام 2022 أن أكثر من 60% من المشاركين من 24 دولة يعتقدون أن حكوماتهم لا تخدم سوى فئة قليلة ذات امتيازات. في العديد من البلدان، أصبح الفساد والروتين البيروقراطي هو القاعدة. ويتجه المواطنون في الديمقراطيات المتقدمة بشكل متزايد نحو الحركات الشعبوية، وغالباً ما يكون ذلك مدفوعاً بالاعتقاد بأن الديمقراطية تفشل في تلبية احتياجاتهم.
ولكن بينما تكافح المؤسسات التقليدية، تنمو المنصات الرقمية بسرعة. فالذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، وسلسلة الكتل (Blockchain)، والأنظمة البيومترية تعمل على تغيير من يملك السلطة وكيفية ممارستها. وفي كثير من الأحيان، تكرر الخوارزميات التحيزات، وتضع شركات التكنولوجيا الكبرى مصالحها فوق مصلحة الجمهور، وتزحف المراقبة إلى حيث تكون الحقوق غير واضحة. إذا لم نتخذ إجراءً الآن، فإن الرقمنة ستؤدي إلى تفاقم عدم المساواة بدلاً من إصلاحها.
ما هي الحوكمة الرقمية؟
الحوكمة الرقمية لا تتعلق فقط بالمواقع الإلكترونية أو تطبيقات الهاتف المحمول أو الخدمات عبر الإنترنت. إنها تشير إلى النظام الأوسع الذي تستخدم فيه الحكومات التقنيات الرقمية. ويشمل ذلك أنظمة البيانات، والهويات الرقمية، ولوحات المعلومات الفورية، ومنصات التكنولوجيا المدنية. تساعد هذه الأدوات في إشراك المواطنين، وتقديم الخدمات، واتخاذ القرارات، وضمان المساءلة. وكما أكد البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فإن الحوكمة الرقمية تتعلق بأكثر من مجرد الكفاءة. يجب علينا بناؤها وفقاً لأربعة مبادئ: الشفافية، والمشاركة، والرقابة، وحقوق الإنسان.
تشمل الحوكمة الرقمية: الحكومة الإلكترونية (التي تركز على تقديم الخدمات العامة)، والزراعة الإلكترونية (التي توفر معلومات السوق في الوقت الفعلي للمزارعين)، والتعليم الإلكتروني (الذي يتضمن منصات التعلم الرقمي)، والصحة الإلكترونية (بما في ذلك التطبيب عن بعد والوصفات الطبية الرقمية)، وغيرها. بالإضافة إلى ذلك، تكشف النظم البيئية للبيانات المفتوحة عن سوء استخدام الأموال. يغطي هذا النهج قطاعات مختلفة ويضع المواطنين في مركز الحكم. الحوكمة الرقمية هي سلطة تُمارس من خلال الكود والبيانات، وهي تحول المواطنين من مُلتمسين (طالبي خدمة) إلى مدققين.
إستونيا: الديمقراطية عبر التصميم
لا تتجلى هذه الرؤية في أي مكان بوضوح كما هو الحال في إستونيا. منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أنشأت إستونيا الدولة الرقمية الأكثر تقدماً في العالم. أكثر من 99% من خدماتها العامة -بما في ذلك التصويت والضرائب والرعاية الصحية- متاحة عبر الإنترنت. تسمح منصة "X-Road" الخاصة بالبلاد بتبادل آمن للبيانات بين الوكالات؛ مما يضمن جمع البيانات مرة واحدة فقط ويحسن الكفاءة.
يمتلك كل إستوني هوية رقمية توثق هويته وتسمح للمواطنين بمعرفة من قام بالوصول إلى بياناتهم الشخصية. وتعد ميزة الشفافية هذه نادرة، حتى في معظم الديمقراطيات. تجري الانتخابات على جميع المستويات عبر الإنترنت. ويمكن للشركات التسجيل في دقائق. ومع وجود طبقات أمنية ونسخ احتياطية موزعة في "سفارات البيانات" (من مركز بيانات مملوك لإستونيا ومقره لوكسمبورغ)، لم تتعرض إستونيا لأي اختراق معروف لسجلاتها الأساسية وتعافت بسرعة من الهجمات.
لكن ما يجعل إستونيا مختلفة حقاً هو التزامها بالديمقراطية. لم يتم تصميم النظام للكفاءة فحسب، بل تم إنشاؤه لبناء الثقة في حوكمة ما بعد الحقبة السوفيتية. إنه يثبت للعالم أن الحوكمة الرقمية ليست رفاهية؛ بل هي ضرورية لتجديد الديمقراطية.
الولايات المتحدة: الابتكار وسط التشرذم
تُظهر الولايات المتحدة، حتى بدون نموذج مركزي للحوكمة الرقمية، أمثلة قوية على ابتكار التكنولوجيا المدنية وأدوات الشفافية العامة. توفر منصات مثل (Data.gov) و(USASpending.gov) ومكتب أخلاقيات الحكومة وصولاً لا مثيل له إلى بيانات الإنفاق الفيدرالي وجماعات الضغط والأخلاقيات. وتعمل مبادرات مثل (18F) والخدمة الرقمية الأمريكية على تحديث الأنظمة القديمة في مجالات مثل مزايا المحاربين القدامى، والهجرة، والمشتريات.
ومع ذلك، لا يزال النظام الأمريكي مجزأً ومسيساً للغاية. يؤدي غياب القيادة الفيدرالية في الحوكمة الرقمية إلى تفاوت في الوصول واختلافات من ولاية إلى أخرى، خاصة في مجالات مثل الهوية الرقمية، وأنظمة البطالة، والأمن السيبراني للانتخابات. لكي تصل الولايات المتحدة إلى إمكاناتها الكاملة، تحتاج إلى الانتقال من التحسينات الرقمية العشوائية إلى استراتيجية واضحة للحوكمة الرقمية تركز على المواطنين، وليس المستخدمين فقط.
الهند وأوروبا: دروس في النطاق والتنظيم
أظهرت مبادرة "الهند الرقمية" أن الحوكمة الرقمية يمكن أن تنجح على نطاق واسع. تمكّن "ثلاثية JAM" في الهند - (وهي حسابات "جان دهان" المصرفية، والهوية الرقمية "آدهار"، والهواتف المحمولة) - من تحويل المزايا والمستحقات المباشرة لأكثر من 400 مليون شخص. وقد أدى التوثيق البيومتري ولوحات المعلومات الفورية إلى تقليل الفساد بشكل كبير في برامج الرعاية الاجتماعية. كما ساهمت منصات مثل (e-NAM) في الزراعة و(GeM) في المشتريات العامة في تحسين الشفافية وتوفير المليارات للدولة.
أما تركيز أوروبا فكان منصباً على القواعد وحقوق البيانات. يُنظر إلى اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) وقانون الخدمات الرقمية (DSA) كنماذج عالمية للحوكمة الرقمية العادلة. وتقوم مدن مثل برشلونة وهلسنكي باختبار "مشاعات البيانات" المملوكة للمواطنين: وهي بنى تحتية رقمية مشتركة يمتلك فيها المواطنون بشكل جماعي ويديرون ويقررون كيفية مشاركة واستخدام بياناتهم الشخصية. ويستخدم مشروع (AuroraAI) في فنلندا التعلم الآلي لتخصيص الخدمات العامة مع احترام الخصوصية الشخصية. تقدم أوروبا نموذجاً للحوكمة الرقمية قائماً على القيم، يؤكد على الشمول، والحقوق، والسياسات المتسقة عبر القارة.
الأدوات الرقمية في مواجهة الفساد
وفقاً لمبادرة (GovTech) التابعة للبنك الدولي، فإن أحد أقوى استخدامات الحوكمة الرقمية هو في المعركة ضد الفساد. فمن خلال رقمنة سير العمل، وأتمتة الموافقات، ونشر لوحات المعلومات في الوقت الفعلي، وتمكين تدقيق المواطنين، يمكن للحكومات تقليل الروتين، والحد من السلطة التقديرية (المزاجية)، وكشف الاحتيال.
في مولدوفا، قلل نظام الترخيص الإلكتروني من الوقت المستغرق لإصدار التصاريح وقلص فرص الرشوة. وفي نيجيريا، استُخدمت بوابة عامة لمراقبة تمويل الإغاثة من كوفيد-19. وفي البرازيل، يتم اختبار تقنية "سلسلة الكتل" (Blockchain) لجعل سجلات الأراضي أكثر أماناً. في كل حالة، تعمل الحوكمة الرقمية على تغيير ديناميكيات السلطة، وليس مجرد تحديث العمليات.
لكن الحوكمة الرقمية تنطوي أيضاً على مخاطر. فالأنظمة سيئة التصميم يمكن أن تستبعد الفقراء، أو تزيد من التحيزات، أو تسمح بمراقبة الدولة. ويمكن أن يستمر الفساد عندما تظل الخوارزميات سرية، أو يكون التدقيق ضعيفاً، أو يتم التلاعب بعمليات الشراء. يُظهر بحث حديث من جامعة نيويورك وجامعة تارتو (إستونيا) أن الرقمنة بدون مساءلة ديمقراطية قد تؤدي إلى سيطرة تكنوقراطية بدلاً من تمكين المواطنين.
الطريق إلى الأمام: بناء حوكمة رقمية خاضعة للمساءلة
لحماية الديمقراطية في العصر الرقمي، يجب أن نركز على خمسة مجالات رئيسية:
أولاً: لتعزيز الشفافية وقابلية التدقيق وثقة الجمهور، يجب أن تكون المنصات "مفتوحة المصدر" هي المعيار في الأنظمة العامة. تُظهر منصة (X-Road) في إستونيا كيف يمكن للبنية التحتية الرقمية الشفافة أن تمكّن المواطنين وتعزز الثقة في الحوكمة الرقمية.
ثانياً: يجب على الدول تبني معايير رقمية عالمية متجذرة في القيم الديمقراطية. يوفر "الميثاق الرقمي العالمي" المقترح من الأمم المتحدة فرصة عظيمة للدول للاتحاد حول حقوق البيانات، ومساءلة الخوارزميات، والحوكمة الأخلاقية.
ثالثاً: تحتاج البلدان منخفضة الدخل إلى تحسين قدراتها الرقمية. تفتقر العديد من الحكومات إلى البنية التحتية اللازمة لإنشاء أنظمة رقمية موثوقة. يجب على المنظمات الدولية دعم الحوكمة الرقمية الآمنة والشاملة في الجنوب العالمي.
رابعاً: يعد استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل أخلاقي أمراً ضرورياً، خاصة في اتخاذ القرارات العامة. يجب على الحكومات التأكد من أن أنظمة الذكاء الاصطناعي عادلة، وشفافة، ومسؤولة، ويجب أن تبتعد عن التحيز والضرر عند تقديم الخدمات.
خامساً: يجب أن تقود الشمولية جميع الإصلاحات الرقمية. يجب ألا يترك التحول الرقمي أحداً خلف الركب. ينبغي ضمان الوصول إلى الإنترنت والخدمات والمهارات الرقمية للجميع، بما في ذلك سكان الريف، والمهمشين، والفئات المحرومة.
معاً، يمكن لهذه الخطوات أن تساعد في بناء نموذج للحوكمة الرقمية يحمي حقوق الإنسان، ويشجع المسؤولية، ويعزز الديمقراطية. الحوكمة الرقمية ليست مجرد حل تقني؛ إنها قرار سياسي. إنها تتطلب مهندسي برمجيات وعلماء بيانات، جنباً إلى جنب مع التفكير الإبداعي والالتزام بالديمقراطية. يجب أن يكون التركيز على الكفاءة، والإنصاف، والمساءلة، والكرامة الإنسانية.
في عالم يفقد فيه الناس الثقة في الحكومة وتتصاعد فيه الاستبدادية، يصبح العمل ضرورياً. نحن بحاجة إلى إنشاء أنظمة تمكّن المواطنين بدلاً من مجرد رقمنة العمليات. إستونيا تشق الطريق. والولايات المتحدة تقوم بابتكارات وتحسينات. وأوروبا تضع اللوائح المناسبة. والهند توسع نطاق وصولها إلى المزيد من المواطنين. لقد حان الوقت الآن للانتقال من المشاريع المعزولة إلى إطار عالمي للديمقراطية الرقمية. إذا لم نحكم رقمياً، فإننا نجازف بأن تحكمنا الرقمنة، بلا خيار، أو صوت، أو عدالة.