صحة القانون وطاعته بين القوة والحق
شبكة النبأ
2024-06-04 05:45
بقلم: هارولد ج. لاسكي
الفكرة الفلسفية للدولة تمدنا بمقياس نستطيع أن نقيس به ما تفضح عنه الدول من سلوك، أما صلاحية هذا السلوك فنجعله أمرًا علينا أن نقرره بالرغم من قصوره، وإذا تغاضينا عن الميدان الشكلي المحض فإننا لا نجد هناك أي التزام يقضي بطاعة الدولة الحقيقية. إن الطاعة تعتبر بمثابة حكم تصدره على ما تقوم به من عمل، وعلاوة على ذلك، فإن هذا الحكم لا يعتبر حكمًا يستطيع كل مواطن أن يصدره على نفس الفروض سواء منها المبنية على أساس عقلي أم الفروض المبنية على أساس عاطفي.
إن ما يقرره سيكون نتيجة للمكان الذي يشغله في الدولة وعلاقة هذا المكان بالنسبة لنظرته فيما يجب عليه أن يحققه، وربما أخطأ الصواب في اتخاذه هذه النظرة، ولكن ليس هناك بديل لما يتخذه من عمل على أساس يتمشى مع العقل والمنطق على ضوء ما لديه من يقين.
تقوم على هذا الموقف نظرة في القانون تعتبر مضامينها ذات أهمية؛ إذ إنها تنظر إلى صحة القانون على أنه لا يمت إلى مصدره بصلة. إن القانون يصبح قانونًا عندما يدخل في نطاق التطبيق والتنفيذ، فهو يتخذ صفة القانون عندما يُوافَق عليه، ولكن ليس معنى ذلك أن كل قانون مقبول يعتبر قانونًا صحيحًا؛ إذ يمكن قبول القانون عن طريق القوة التي تسانده وتقف دائمًا وراءه.
وينبغي لنا أن نميز بين ثلاثة معانٍ مختلفة حيث تستخدم فكرة القانون، فهناك المعنى الشرعي، وهو معنى شكلي، لا أكثر من أنه إعلان عن الإرادة لتنفيذ بعض القرارات المعينة. ويعتمد اعتمادًا كليًّا على السلطة ذات السيادة، وهناك المعنى السياسي حيث تثبت صحة هذا الإعلان، وذلك عن طريق قبول هؤلاء الذين سيطبق عليهم. وأخيرًا، فهناك المعنى الأخلاقي حيث يوجب طاعة ذلك القرار؛ لأن وجوب تنفيذ ما يقدمه من اقتراح صحيح من الناحية الأخلاقية.
ومن الواضح أنه في المعنيين الأول والثاني لا يكمن أي واجب للطاعة في أعماق المواطن، وستطالب فئة قليلة من الناس بحماسة أن المعنى الشرعي يجب أن يتعادل مع المعنى الأخلاقي. وترى مثلًا أنه لا يستطيع أي فرد من أتباع الكويكراز (وهي طائفة الأصحاب التي أسسها جورج فوكس ١٦٤٨-١٩٥٠م، وهي تكرس نفسها لمبادئ السلام والبساطة في الملبس والحديث …) أن يسلم بأن الدولة التي أمرت حكومتها المواطنين أن يشنوا حربًا، تستحق لهذا الغرض أن يطيعها المواطنون، كما لا يمكن القول إن الجانبين السياسي والأخلاقي متطابقان، فإن الأوامر التي ألقتها الدولة الهتلرية في ٣٠ يونيو ١٩٣٤م كانت تعتبر بمثابة قانون بمعنى أنها أدخلت في حيز التنفيذ، وقبلت من الشعب الذي حكمته الدولة الهتلرية، بيد أن أغلب الناس الذين يكونون في وضع يسمح لهم بإصدار حكم محايد سينظرون إليها على أنها منافية للنواحي الأخلاقية. إن القوة مهما كانت شديدة لا تخلق الحق، وإن ما يؤديه القانون من عمل له فاعليته لا يزال يترك مسألة الكفاية الأخلاقية دون قرار.
ولا يمكن للمقدرة الرسمية أو السلطة السياسية أن تخولا حقًّا عادلًا للطاعة، ولكن ما هي النواحي التي بقيت لنا؟ إنه الإصرار على القول بأن القانون لكي يثبت صحته من الناحية الأخلاقية يجب أن يطابق ما تتطلبه مجموعة الحقوق التي تقوم الدولة بتحقيق أهدافها. وطالما كان القانون بمثابة أمر يسعى إلى التحكم فيما أفصح عنه من سلوك، ينبغي أن أصدر حكمي على هذا التطابق على أنه مقياس للكفاية الأخلاقية. إن جذور القانون الصحيح تتأصل في أعماق الفرد، وأستطيع أن أضفي على القانون فاعليته القانونية بما يبديه ضميري من موافقة ما يؤديه من عمل.
فإذا قيل: إن مثل هذه النظرة عندما تبرر الرفض على الطاعة تفتح الباب للفوضى؛ فإن الرد على ذلك هو أن الاتهام صحيح، إلا أن هذا الاتهام ليس خطيرًا. ونجد الطريق المؤدي إلى الفوضى في الدول أمامنا دائمًا؛ لأن الأفراد لا يبدو استعدادهم للاعتراف بفرض سلطة غير مشروطة، ولكن إذا قيل إن ضمير الفرد ربما تعرض لمواطن الزلل كضمائر هؤلاء الذين يحكمون الدولة؛ فإن الإجابة هي أنه بينما يكون هذا صحيحًا نجد أن المواطن الذي يركز اعتقاده على أساس أنه ربما يقع في الخطأ سيتخلى عن أن يكون مواطنًا بالمرة.
وليست هناك طريقة تجعل الدولة تسعى إلى تحقيق أهداف العمل المناط إليها إلا الإدراك من أن الأفراد سيرفضون طاعة أوامرها حيث ينظرون إليها على أنها انتهاك لهذا العمل. ها هي الحقيقة التي رآها بيركليس عندما أخبر المواطنين في أثينا أن سر الحرية يكمن في الشجاعة، فإذا لم تدفعهم فراستهم إلى العمل -حتى عندما تحيد هذه الفراسة عن الصواب- فسيصبحون لا أكثر من مجرد أفراد سلبيين يقومون بتلقي الأوامر التي لا يكترثون بصفتها الأخلاقية. وعندما يتخذون هذا الموقف يقومون بهدم الأسس التي تقوم عليها الدولة، والسبب في ذلك هو تخليهم عن كونهم كائنات أخلاقية، وهم يقرنون الحقيقة والعدالة والحق، يقرنونها آليًّا بالقوة المادية، ومثل هؤلاء الأفراد لا يستطيعون بمرور الأيام الإبداع في شيء، وعندما يقوم أي فرد بالتخلي عن حكم أخلاقي معناه أنه يزج بنفسه في طبقة العبيد.
لقد قيل: إن الفرد لا حول ولا قوة، وأن تأثيره على حكمه يبدد طاقته ويفت من عضده، إلا أن هناك ردين على وجهة النظر هذه. فالالتزام الأخلاقي ليس بأقل من أمر اضطراري؛ لأنه ربما انتهى أمره إلى الفشل. ومعنى أنك تتخذ قانون الجهد أنك توافق على النظرة التي تذهب إلى أن العدالة هي إرادة الأقوى، وهي مذهب يعارضه تاريخ البشرية بأجمعه، ويعتبر الدخول في مناقشة عجز الفرد لا أساس له من الصحة، إنه عاجز عندما تهمل إحساساته ويفشل في إثارة استجابة أي من المواطنين، ويجب عليه أن يتذكر دائمًا أن التغيير الذي يطرأ على الأحداث ربما يجعل من السهل في فترة أخرى ان تتجاوب إحساساته مع إحساسات الآخرين. ولقد بدا العقم على وجه المسيحيين الأوائل بالنسبة لجيلهم عندما تحدوا عظمة روما وجلالها، إلا أن صلابتهم وثباتهم قهرا العالم الغربي.
ولقد بدت معارضة لوثر ومقاومته ضربًا من ضروب الجنون، في نظر الكنيسة التي تذكرت انبثاقها وما اقترن به من نجاح، من شدائد الثورة الكنيسية، ولكن شجاعته غيرت وجه العالم، تاريخ العالم.
والتاريخ يضرب لنا كثيرًا من هذه الأمثلة، وإن الفرد الذي يحتج على القانون الذي يعتبره لا يتمشى مع العدل أو القسطاس ولا يقف وحده، وهناك من يؤيده أكثر مما يتصور وهو يعمل في نطاق عقلي حيث تجد الخبرة قد وجدت صداها عند الآخرين، كما أن الإيماءة التي يقوم بها ربما أيقظت الآخرين وجعلتهم يتفهمون التزاماتهم، ولن يتطرق الشك إل عقل أي فرد ينظر إلى التاريخ من أن المطالبات بحق الانتخاب اللائي قاومن القانون لمدة ثماني سنوات قد أيقظن الحكومة البريطانية لأن تدرك أن دعواهن جد خطيرة، حتى إنها غيرت نظرتها تجاه هذه الدعاوى، كما أنه لن يتطرق الشك إلى أي فرد في أن إرادة لينين التي لا تلين كانت محور نجاح الثورة البلشفية عام ١٩١٧م.
وإن ما يبدو لي من تضمين لا مفر منه في هذا المضمار، وهو أنه يجب علينا أن نكافح من أجل الفلسفة التي نؤمن بها.
ومقابل هذه النظرة نجد اعتبارين في كل منهما عامل يعتد به من القوة، فلقد قيل إن مقاومة الحكومة وتحديها معناه إضعاف سلطة القانون، ومعنى أنك تقوم بذلك أنك فتحت الأبواب للفوضى لكي تسود وتعم.
إن ذلك الشعور بالخطر هو الذي جعل ت. ﻫ جرين الذي أباح الحق في الثورة، كما لجأ أخيرًا أن يصر على أنه يجب علينا أن ندنو من الدولة في وجل وخوف. ومن الأهمية أن ندرك أن احترام القانون يجب أن يعني دائمًا الاحترام لما يقوم به القانون من عمل. وإذا أصدر الفرد -سواء أكان بمفرده أم مع آخرين- حكمه على ما يؤديه القانون على أنه غير محتمل حدوثه من الناحية الأخلاقية يجب عليه أن يؤثر في أساس حكمه. ولكن إذا قررت غير ذلك فمعناه أن الواجب الأسمى الملقى على كاهل الفرد هو حفظ النظام دون النظر إلى صفة النظام المراد حفظه. وإني لا أجد أن هذا الدليل يتمشى مع فكرة الفرد ككائن أخلاقي.
ولقد قيل: إن هذه النظرة تبيح الحق لأية مذاهب أن تساند نفسها عن طريق القوة إذا استطاعت، وأن على الأفراد التصريح بأن هناك اعتقادًا راسخًا قد دفعهم إلى ذلك حتى يجدوا المبرر لاستخدام العنف؛ لكي يحققوا أهدافهم. ويعتبر مثل هذا الموقف بمثابة ناحية هدامة للأسس التي تقوم عليها الرفاهية الاجتماعية.
غير أن الرد على ذلك هو عدم وجود أي مذهب مهما كان هدامًا؛ لكي يحض على استخدام القوة ما لم يكن متأصِّلًا في خضم من الضيم، ولا يجد وسيلة أخرى للعلاج، فربما آمنا أن الثورة البلشفية كانت ثورة اتسمت بنوازع الشر، بيد أنه من الواضح أن الأحوال السابقة للدولة الروسية هي التي تبين لنا أسسها والطرق التي اتبعتها. وربما نذهب مع الشيوعيين إلى أن هتلر لم يكن أكثر من مجرد عميل للرأسمالية في ألمانيا، ولكن من الواضح أيضًا أن النصر الذي أحرزه قد بُني على أشلاء الملايين من الألمان الذين لم يجدوا في عادات جمهورية فيمار الألمانية إنصافًا كافيًا. وتنطوي الحقيقة على أن الأفراد بوجه عام قد تعودوا على التسليم بأن خروجهم على قواعد السلوك السياسي العادي يعتبر دائمًا دليلًا على مرض عضال ينخر في عظام الدولة، وكما قال بيرك: إنهم لا يبدون أي اهتمام في اختلال النظام واضطرابه.
وعندما يحيدون عن الصواب يعتبرون هذا خطأ منهم، لا جريمة لهم، ولا داعي إلى أن نناقش أن المذهب الذي يحصن نفسه يتسم بالحكمة أو الصواب لمجرد قيامه بذلك، ولكن يجب أن نناقش على أساس الحقائق أنه لا يوجد أي مذهب استطاع أن يحصن نفسه جيدًا ما لم يقم بمهاجمة الحكومة، وأنها قد مُنيت بالفشل في معالجتها للشدائد التي تعبر عنها بطريقة معقولة.
وهذا واضح كل الوضوح في تاريخ أغلب الثورات. وما من شك في أن الطالب الذي يدرس الحروب الأهلية الإنجليزية والثورات التي قامت بها فرنسا وروسيا سيرى تلك الجهود التي اتسمت بالصبر، والتي قام بها الأفراد العاديون لانتظار الإصلاح قبل اتجاههم إلى نواحي العنف.
ونجد أنه ليس من المحتمل في أي مجتمع من المجتمعات حدوث أي عنف إذا انتشر الاعتقاد على نطاق واسع أن الدولة تحاول أن تقوم بتنفيذ التزاماتها.
ويسود العنف عندما تدفع الحقائق الأفراد إلى الاعتقاد بأن ما يقوله الحكام لا يوثق به، وربما وقعوا فريسة الخطأ حينذاك، وهناك من مناسبات عدة في التاريخ عندما أطيح بحكومات كان أفرادها يكافحون كفاحًا مريرًا للتغلب على الصعاب التي لم يستطيعوا التغلب عليها، كما أن هناك مناسبات أخرى عندما تكون الأهداف التي سعى إليها الأفراد الذين قاوموا الدولة لا يمكن تحقيقها في داخل نطاق المؤسسات الراهنة، وأن الإطاحة بالدكتور براتنج لمثل للنوع الأول، أما تاريخ الثورة الفرنسية فهو واضح للنوع الثاني.
أما استخدام العنف - وليس ذلك نادرًا - للتغلب على القانون فهو نتيجة لتصارع القيم التي لا يمكن تلاقيها في نقطة واحدة، ولكن ماذا هو الموقف الذي سيكون عليها عندما تثار هذه المسألة؟ لن يدعي أحد بساطة هذه المشكلة، ونرى مثلًا أن القول الذي يذهب إلى أن الواجب المُلقى على عاتق الأقلية التي حرمت من قيمها هو أن يصبحوا أغلبية ليس ردًّا على ذلك؛ ولذلك يقومون باستخدام النواحي الدستورية لنيل السلطة عن طريق الإغراء، ولكننا نجد أنه ربما لا توجد هذه النواحي الدستورية.
وليس هناك فائدة ترجى من قولنا لأي مواطن في الدكتاتوريات الأوربية: إنه يجب استخدام طرق الإغراء السلمية للحصول على وجهات نظر قد قُبلت من قبل؛ لأننا نجد بداهة أن الحق في استخدام تلك الطرق من الناحية القانونية قد خلى عنها، وليس هناك من بديل سوى القيام بالثورة إذا رأى أنه عن ذلك الطريق يمكن تحقيق أهدافه، بيد أن الرجل الاشتراكي في ألمانيا لا يمكن أن نطلب منه أن يرنو إلى تغيير ألمانيا الهتلرية بالطرق السلمية.
ولقد قيل: إن الموقف يختلف في دولة تتخذ طابع الديمقراطية الدستورية. وعلى أية حال فإن الحرية لتوجيه النقد مكفولة، وإن القرار قد يتخذ عن عمد بالنسبة لهؤلاء الذين يختلفون عن حكومات اليوم، لأن يحلوا محلها إذا استطاعوا استمالة أغلبية المواطنين حتى يصوتوا في جانبهم، وتمكين الحقيقة في مثل هذه النظرة.
وعلى العموم فمن المستحيل الصفح عن استخدام العنف في الميدان السياسي إلا إذا اعتبر سلاحًا نلجأ إليه أخيرًا. ويجب أن تستنفد جميع التصرفات التي يمكن القيام بها قبل اللجوء إلى العنف، ومن الأهمية أن ندرك أنه في الدول الديمقراطية الدستورية نجد أن الاعتماد على الإغراء بوسائل معقولة يعتبر وظيفة لبعض النواحي على أساس أن الأقلية المسئولة بتنفيذ كل شيء. على أن ذلك يجب أن يدخل في الاعتبار، وأول هذه النواحي هو تخويل الحق في توقع ما تؤديه مؤسسات الدولة من أعمال، فتلك المؤسسات ينبغي أن يتعادل وزنها ووقعها على جميع الأطراف التي تتكون منها المعادلة السياسية.
وهذا التعادل نفسه حتى في الدولة التي تبلغ من الحرية مبلغ بريطانيا لا يمكن أن يحقق نفعًا ما. فمجلس اللوردات يعد آلة صماء في يد حزب واحد في الدولة، وأنه يمارس سلطته عن قصد؛ ليسخر من إرادة معارضيه حتى عندما تكون لهم أغلبية في المنتخبين، ولكن إذا قيل: إن مجلس اللوردات سيرضخ دائمًا عندما تعرف إرادة المنتخبين (وذلك بعد انتخاب عام مثلًا تميز بالصراع حول مسألة خاصة) فإن الرد سيكون بالتأكيد، حتى ولو كانت ذلك هي الحال فهو يخضع حزبًا واحدًا في الدولة لنقائص كثيرة لا يتصف بها الحزب المنافس له.
وإن النتيجة التي ستنجم من جراء هذه النقائص هي فشل المجهود الذي يبذله الحزب الذي نال أغلبية في الانتخابات؛ وذلك بسبب الإمكانيات الفنية التي يضحِّي في ظلها بأن تكون أغراضه لها فاعليتها.
وليس ذلك هو كل شيء، فمن المهم أن عمل مؤسسات الدولة لا ينبغي أن يدخله أي تحيز، ومن المهم أيضًا أن يكون هؤلاء الذين يقومون بإدارتها قادرين على معرفة افتراض أن المبادئ التي تقوم عليها الديمقراطية الدستورية ستسترعى انتباه معارضيهم. ومن اليسير التدليل على أن هذا الافتراض له ما يبرره على أنه يعتبر قاعدة ثابتة لا تتغير تقريبًا. ونستطيع أن نقول: إنه في أي مجتمع من المجتمعات التي تعودت على هذه المبادئ نجد أن التخلي عن هذه المبادئ، ويحق لنا أن نقول بشيء من التأكيد: إن الخروج على هذه المبادئ في مجتمع طال العهد على تعوده إياها سوف يكون أقل احتمالًا مما يتيسر في مجتمع آخر هو حديث عهد بهذه المبادئ، ولكن ذلك يعتبر تعميمًا معقولًا، حتى إنها ستلفت الأنظار عندما تكون المصالح التي تعتبرها نخبة من الأقلية، سواء أكان ذلك خطأ أم صوابًا، أساسية لا تتعرض للخطر. وهذا هو ما تضمنته أزمة الستر في بريطانيا في ربيع عام ١٩١٤م، وهو ما تضمنه موقف المستخدمين الأمريكيين مثل مستر فورد وما تضمنه موقف رجال صناعة الصلب بالنسبة لذلك النص في قانون الإنعاش الصناعي القومي الذي يضمن للعامل الحق في اختياره بحرية تامة الهيئات التي عن طريقها سيتمثل في استقرار النواحي الاقتصادية، فإذا لم تتأكد أي حكومة في الديمقراطية الدستورية من أن القرارات التي ستتخذها ستلقى الاحترام الخليق بها؛ فإن الفرد سيكون على يقين من أن الافتراضات التي بُني عليها هذا النظام لن تلبث طويلًا.
ونستخلص من هذا أن ذلك يؤدي إلى الالتزام وهو واجب على حكومات مثل هذه الدول، والذي لا يستشيط غضب الإحساسات الأساسية للأقلية الهامة، وهناك قيود مفروضة على حقوق الأغلبية التي يمارس ممثلوها السلطة ذات السيادة، وأن هذا من البديهات المسلم بها، ولكنها ليست ذات معنى عميق؛ إذ يستطيع كل شخص أن يرى أنه إذا قام أي ملك في البرلمان وحال دون ممارسة اعتناق الديانة الكاثوليكية، فعندئذ سيقوم هؤلاء الذين اعتنقوه بانتهاك القانون بدلًا من طاعته، وإذا أعلن الملك أن النقابات تعتبر بمثابة هيئات غير شرعية؛ فإنها ستقوم بالمقاومة بدلًا من الرضوخ. وما من شك في أنه لا يوجد أي فرد يرى أن الحق القانوني في ممارسة سلطات السيادة يخوِّل للحق الأخلاقي أن يقوم بعمل ما يشاء.
ولكن ليس معنى وجود قيود مفروضة على حقوق الأغلبية أننا قمنا بتعريف هذه القيود، وهذا هو جوهر المشكلة ولبُّها، ولا نستطيع الدخول في مناقشة حامية نذهب فيها إلى أنه لا توجد أية حكومة يخول لها الحق في اتخاذ أي قرار ربما يدفع الأقلية التي لها أهميتها إلى الهياج، ولقد استشاطت أقلية الرأي الأمريكي غضبًا من القرار الذي اتخذ لإلغاء العبودية.
ولقد اعتقدت أقلية لها أهميتها أن قانون الإصلاح الصادر عام ١٨٣٢م كان مدعاة للهياج والغضب، ولكن يجب ألا نحاول أن نجد المبرر لاتخاذ قرار يبطله على هذا الأساس، وأن الأقلية الهامة في بريطانيا تعتقد أن «وسائل الاختبار» فيما يتعلق بالتأمين على البطالة تعتبر بمثابة هجوم، غير أن هذا الهجوم لا يبرر إبطالها، ويكاد يوجد عمل اجتماعي واحد نافع له ضخامته، وله أثر مضاد لمصلحة هامة لا تعتبرها الأقلية التي تأثرت بها في وقت أو آخر مدعاة للغضب والهجوم، وحامت الشبهات على مراسم الوفاة التي فرضها سير وليم هاركورت وندد بالضرائب المفروضة على الأرض والتي فرضها مستر لويد جورج.
فهل لنا أن نقول: إن النقطة التي تتضح فيها قيود حكم الأغلبية قد حددت معالمها عندما تكافح الأقلية، وتناضل بدلًا من أن تذعن وترضخ؟ إلا أن هذا يثير مشكلات عدة، وهل يعني الكفاح صدامًا حقيقيًّا في الشوارع، أو أنه يكفي أن نقوم ببعض المحاولات كإضراب عام حيث يمكن العنف في النفوس؟ ولكن من المستحيل إدارة الحكومة القائمة على النظام على أساس أن الأغلبية يجب ألا تستخدم سلطتها عندما تهدد الأقلية بالمقاومة، ونرى مثلًا أنه في موقف أيرلندا عام ١٩١٤م كانت إدارة الحكومة مهددة بالتوقف؛ إذ هدد المتطرفون في الستر بالكفاح إذا دخل قانون الحكم الذاتي حيز التنفيذ، وهدد الوطنيون الأيرلنديون بالوقوف في وجه الحكومة إذا سحبت هذا القانون.
وإن الحل الذي توصل إليه سكويث، والذي يقضي بتنفيذ هذا القانون ولكن أُوقف عمله، تمخض عنه نجاح المتطرفين في الستر نجاحًا تامًّا.
وما من شك في وجود ملابسات عندما يكون من الحكمة أن تقوم الحكومة بالتراضي والوصول إلى نقطة البناء بدلًا من محاولتها الإبقاء على هيبتها دون النظر إلى الثمن الذي يدفع نظير ذلك. ويعتبر اتخاذ لينين للسياسة الاقتصادية الجديدة عام ١٩٢١م مثلًا قديمًا لإذعان مبدأ يتسم بالحكمة في وقت عصيب، ولكنه ليس مثلًا يتخذ قاعدة عامة؛ لأنه سيستحيل على الحكومة الحصول على أغلبية ثابتة، إذ إن الحكومة التي تقاوم تجدها مضطرة طالما تشعر -وكلها ثقة- أن الرأي العام يساندها أن تقابل هذه المقاومة؛ إذ إن النظرية الأولى للديمقراطية الدستورية يمكن أن تطيحها بعض الطرق التي يجيزها القانون؛ ولذلك فإن قيود حكم الأغلبية لا يمكن تحديدها بالدقة، إلا أنها تقوم على الفراسة والتبصر وبُعد النظر، لا على المقاييس الصحيحة عما تكون عليه بعض المواقف المعينة، ونجد بالتأكيد أن الحكومة التي تقدر أهميتها يجب أن تتذكر دائمًا أن أي رضوخ لما يتمخض عن المصلحة من ضجيج سيحول بينها وبين قدرتها على الوقوف على مقاييس جد هامة.
وإن ما يصدر عن الخبرة التاريخية التي مررنا بها لدرس يستشف منه أن الحكومة تستطيع أن تفرض إرادتها على المواطنين في الديمقراطية الدستورية لمدة طويلة، طالما أن هؤلاء المواطنين متفقون على أهداف الدولة الأساسية، ولكن عندما يحدث أي انشقاق في الرأي يظهر الضعف والوهَن جليًا في الهيئات الدستورية، وفي هذه الملابسات ما ييسر الاندفاع سريعًا نحو النظام الدكتاتوري.
وعلاوة على هذا نجد أن ذلك يسترعى الانتباه في أوقات الضيق الاقتصادي، كما أن هؤلاء الذين يفقدون الكثير من جراء التغييرات التي تطرأ على الحكومة في إجراء مثل هذه التغييرات، وسيقومون بتعميم الفكرة التي تقول: إن مصالحهم الخاصة تتعرض للخطر؛ إذ إن رفاهية المجتمع يتهددها الخطر، وسيندفعون إلى القيام بأعمال تعتبر في نظرهم خير دفاع عن مصالحهم، حتى ولو كان هذا العمل هو الإطاحة بالقانون والنظام.
وسيقومون بذلك بكل إخلاص وتفانٍ، ولن يتطرق الشك إلى إخلاص اللورد كارسون وأتباعه عام ١٩١٤م.
وربما نعتقد أن أعمالهم تتصف بالخطأ من الناحية الأخلاقية، أو أنها لا تتسم بالحكمة من الناحية السياسية، غير أننا لا نصدر دائمًا هذا الحكم على ما يقومون به من أعمال. ويذهب نفر قليل إلى أن مقاومة البرلمان لشارل الأول لا مبرر لها، كما ينكر نفر أقل أن هؤلاء الذين قاوموا جيمس الثاني عام ١٦٨٨م لديهم ما يبرر هذا العمل. كما أن أغلب الفرنسيين يدافعون عن أحداث الثورة الفرنسية، ويستطيع جيلنا أن يتذكر موجبات الرضا الشاملة التي امتدحت الثورة الروسية في مارس عام ١٩١٧م.
ولكن ذلك مدعاة للقول بأن المقاومة كان لها ما يبررها، وطالما لا توجد محكمة نرجع إليها لاتخاذ قرار حاسم حول بعض المشاكل، نجد بالتالي أن القرار لبدء المقاومة قد أصبح في أيدي بعض الأفراد. وكل ما نطلبه منهم هو أن يصدروا حكمهم على أفعالهم بنفس المقاييس الصارمة التي يطبقونها على الحكومة التي يعارضونها.
إن الأثر الذي ينجم عن إصدار بعض الأفراد الحكم على أفعالهم بنفس المقاييس الصارمة التي يطبقونها على الحكومة التي يعارضونها، هذا الأثر على فلسفة القانون أثر مباشر؛ إذ إنه يجعل قيود الأعمال القانونية التي لها فاعليتها تتوقف على موافقة المواطنين، وطبيعي أن هذه الموافقة يحددها عدم المبالاة بالإلزام. ومن الواضح أن هناك ملايين غفيرة من المواطنين في ألمانيا الهتلرية قد طُلب منهم بالقوة تقديم فروض الطاعة، غير أن فلسفة القانون التي لا ندرس المبادئ التي يقوم عليها، وذلك عن طريق الإشارة الدائمة إلى جذورها المتأصلة في عقول هؤلاء الذين طبعتهم نتيجة تطبيقها، لا يمكن أن تتمخض عن نظرية عن الدولة تؤدي عملها، وينبغي أن نؤكد أن القانون الصحيح هو القانون الذي يقدره الأفراد تقديرًا كافيًا لكي ينال موافقتهم، وليس هناك رأي قاطع بشأن الموافقة عليه؛ لأنه يصدر من السلطة ذات السيادة، وليس هناك رأي قاطع يشير إلى أنه يحقق دعائم الحق، كما أن دعواه في الطاعة تستند إلى القرار الذي يتخذه الأفراد حول مشروعية دعوى القانون، والقانون يصبح قانونًا صحيحًا عندما تتمكن السلطة التي خولت له من أن تشبع الاحتياجات التي تصدر عن المؤسسات التي يمثل إرادتها.