الاسلام السياسي بين الدولة والسلطة.. البحث عن الاستقرار

قراءة على ضوء أفكار الامام الشيرازي

محمد علي جواد تقي

2015-08-01 10:52

عُقدت آمال كبيرة وعريضة خلال عقود من القرن الماضي، على بديل للأنظمة الديكتاتورية والقمعية في البلاد الاسلامية، لأنها استهدفت حرية الشعوب في عقيدتها وجوانب عديدة من حياتها، مثل العمل والسكن وحتى التفكير بالحاضر والمستقبل، مما جعلها تضع ثقتها في "التجربة الاسلامية" في الحكم، على أمل التعويض عما لحق بها من حرمان وتبعية وتخلف ومختلف ترسبات العهود الاستعمارية.

ولابد من الاشارة الى مسألة محورية في الحديث عن إسقاطات "الاسلام السياسي" في اكثر من بلد اسلامي، وهي وجود الفواصل في الرؤية والتفكير والغاية، بين الإسلاميين وبين عامة الناس الذين يحملون العقيدة والايمان ويطالبون بحقوق بسيطة في العيش الكريم، فيما النخبة التي تعد نفسها الوصي والمحامي عن الدين والقيم في المجتمع، كانت تتجاوز في تفكيرها وتنظيرها الوضع الانساني، وتتطلع الى الحكم والسلطة على أمل تطبيق أفضل للإسلام، حسب اعتقادها وتصوراتها. وهذا ما أوقعها في إشكالية خطيرة ماتزال تتخبط فيها، وتمثل أحد عوامل عدم الاستقرار في البلاد الاسلامية التي يحكمها "الاسلام السياسي"، وهي تفضيل مفاهيم سياسية نابعة من التراث الاسلامي، مثل الطاعة لولي الأمر على مفاهيم اخرى هي ايضاً على صلة بالنظام الاسلامي، مثل "المواطنة"، الامر الذي أفرز واقعاً يقدّس الايديولوجية على الحقوق الانسانية التي طالما رعتها الشريعة والسيرة المطهرة في صدر الاسلام. والنتيجة كانت ما نراه في بلادنا من حالة عدم استقرار سياسي واجتماعي، حيث المواطن يبحث عن حقوقه وعن لقمة عيشه، فيما السلطة في ظل "الاسلام السياسي" تبحث عن حقوقها في السلطة والحكم.

الاسلام يفضّل الدولة على السلطة

لو اردنا دليلاً قاطعاً على هذا، يكفينا المثال الرائع الذي ضربه لنا أمير المؤمنين، عليه السلام، بقوله، في كلام طويل: "...والله، لو أعطيت الأقاليم السبع على أن أسلب نملة جلبة شعير ما فعلت". إذن؛ فالمسألة؛ حقوق وواجبات وليست سلطات، وقد قالها عالياً، عليه السلام: "أكون لكم وزيراً خير لكم من أن أكون أميراً". وهذا وغيره، ما يكفي من دليل على أن الاهتمام ببناء الدولة ورعاية خصوصياتها، هو الذي يضمن حقوق الناس، كما يضمن تحقيق طموحاتهم واهدافهم واهداف البلد والامة برمتها، في مقابل السلطة التي تحقق اهدافاً خاصة لفئة معينة، مهما حملت من افكار دينية.

وخير من يعرّف الدولة في مقابل السلطة، سماحة الامام السيد محمد الشيرازي في كتابه "الفقه السياسة" بأن "الدولة من أكبر المؤسسات السياسية التي تعمل داخل البلاد، مثل الاحزاب والمنظمات السياسية"، ثم يوضح بالقول: "صحيح؛ ان الضغوط تتوجه الى المؤسسة الكبرى من المؤسسات الصغيرة، اذ لكل حزب ومنظمة وجماعة سياسية وسيلة ضغط على الدولة توجب احياناً منع الدولة عن المسيرة التي تريدها، إلا ان هذا من باب الضغط، لا من باب القرار...".

والى جانب هذا المؤلف القيّم، يشير الامام الراحل، في غير مؤلف، الى اهتمام الاسلام بمفهوم "الدولة" في الحكم، وليس السلطة، لسبب منطقي واضح؛ لما تشتمل عليه الدولة من مؤسسات دستورية مثل البرلمان والاحزاب والقضاء، ومؤسسات خدمية وانتاجية وغيرها، كلها تصبّ طاقاتها في مصلحة المواطن (الانسان). حيث جاء في نفس الكتاب: "على الدولة تحرّي الغرض الصالح لحفظ مصالح الامة والتقدم بها الى الامام، وجعل القوة وسيلة للعدل والمساواة في موضعها...".

وعندما يفقد المواطن حقوقه وتضيع المعايير الصحيحة وتختزل الدولة ومؤسساتها في جزء بسيط تحت اسم "رئاسة الجمهورية" أو "رئاسة الوزراء" أو "القائد العام للقوات المسلحة" وغير ذلك من المسميات، فان اول الافرازات؛ حالة اللااستقرار في معظم جوانب الحياة، فاذا لم تكن هنالك أزمة ما وراء الحدود، او حرب يخوضها البلد، فان اكثر من أزمة ربما تكون أمضّ من الحرب داخل البلد، عندما تستفحل النزعة السلطوية وتتغلب على مسيرة الاقتصاد والانتاج، وعلى مستوى الخدمات والتعليم والامن وغيرها.

ولعل ابرز مثال على ذلك، النموذج التركي، حيث استبشر الشعب التركي بجميع شرائحه وتوجهاته الاسلامية وغير الاسلامية بالبرنامج الاقتصادي الذي طرحه حزب العدالة والتنمية الذي يعد من تجارب "الاسلام السياسي" في المنطقة، فقد تحدثت الارقام عن قفزات هائلة للاقتصاد التركي خلال حوالي عقد من الزمن، بحيث باتت الارقام تتحدث عن وصول قيمة الصادرات التركية عام 2013، الى (152) مليار دولار. وحسب صندوق النقد الدولي، فان تركيا تمكنت من الوصول الى المرتبة الـ (17) على قائمة أقوى الاقتصاديات في العالم. كل هذا وغيره تمّ في عهد زعيم حزب العدالة والتنمية، ورئيس الحكومة، ثم رئيس الجمهورية ذو الصلاحيات الواسعة، رجب طيب أردوغان.

ويقول خبراء في الاقتصاد، إن اردوغان إنما نجح في القفز بتركيا الى هذا المستوى المتطور عندما "قرر بيع كل شيء في تركيا للمستثمرين الاجانب بعد تطبيقه نظام الخصخصة"، وهذا ما جذب المستثمرين الفارين من الازمة المالية التي ضربت الغرب والولايات المتحدة عام 2009. ويشير الخبراء الى السياسات الاقتصادية التي اتبعها اردوغان جعل تركيا ترزح تحت ديون خارجية هائلة بلغت (388) مليار دولار. وما قام به اردوغان من مشاريع تنموية ذات طابع دعائي مثل المطار الجديد او الجسور وناطحات السحاب وغيرها، فيما يشهد المواطن التركي القيمة الباهظة للاستفادة من هذه الناطحات، يراد منه كسب الشارع التركي وضمه الى طموحاته وتطلعاته السياسية الى ما وراء الحدود، وهذا ما تجلّى في مساندته ووقوفه المثير للجدل، الى جانب "داعش"، ربما ظنّاً منه، دعم تجربة جديدة لـ "الاسلام السياسي" في سوريا والعراق. لذا نلاحظه يتسرع في قطع الوعود الكبيرة، مثل أن يكون عام 2023، عندما تحل الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية، العام الذي تصبح فيه تركيا من بين أعظم اقتصاديات العالم. وهذا الوعد الجماهيري الجاذب، يذكرنا بوعد آخر قطعه في احدى خطاباته في بداية الازمة السورية، عندما قال: "ما هي إلا اسابيع ونصلي في الجامع الأموي بدمشق..."!

والمحصلة؛ فان تركيا في ظل "أردوغان" التي كانت تتصور انها تقود المنطقة وتصدّر نموذجها "الإسلامي"، فانها اليوم تخضع لتأثيرات الاوضاع السياسية والامنية المتلاحقة في المرتفعات الجبلية في كردستان وفي سوريا وفي ايران، على مجمل أوضاعها الداخلية.

من يوفر الاستقرار؟

فيما مضى من الزمن كان الكثير يتصورون أن الامن والاستقرار، يوفره الحاكم الأوحد، والسلطة القوية في البلد، فالجميع آمنون في بيوتهم وفي الاسواق والاماكن العامة، وفي الطرق الخارجية وغيرها. بينما ثبت العكس تماماً في الانظمة الديكتاتورية، لانها توفر الأمن والاستقرار بالقدر الذي يضمن لها حياة أطول، فالشعب آمن ومستقر ما توفر الامن والاستقرار للقصر الجمهوري او مقر الزعيم ومؤسساته الامنية. وهذا ينسحب على تجربة "الاسلام السياسي" الذي يبني مجده على قمة السلطة والهيمنة، وليس من خلال مؤسسات الدولة وأركانها، فهي التي تضمن الاستقرار والامن للشعب والبلد برمته. فاذا كانت السلطة وزعيمها تدعي إحلال الأمن والاستقرار بقوة السلاح والمال والمخابرات، فكيف تتمكن الدولة من توفير ذلك للمواطنين؟

الامام الشيرازي يشرح الكيفية في كتابه "السبيل الى إنهاض المسلمين" بأن "الاستقرار داخلي وخارجي؛ أما الداخلي فلا يحصل إلا برضى الناس عن الدولة، وذلك لا يكون إلا بكون الدولة حرة ذات انتخابات حقيقية لاصورية، وحريات مكفولة، وبذلك لا تتشكل جماعات الاغتيال والاحزاب السرية المناهضة للدولة...". كما يشير سماحته الى أن السياسة العادلة في الدولة هي الكفيلة بأن توفر المناعة القوية أمام التحديات الخارجية.

من هنا نفهم؛ أن الرغبة الجامحة للإسلام السياسي في امتطاء صهوة السلطة والحكم، هي التي تقود البلاد والعباد الى حيث الأزمات السياسية والاقتصادية والتورط بمشاكل داخلية عديدة لا بداية لها ولانهاية، لان كل شيء قائم على الايديولوجيا الحزبية او الشخصية "الكارزمية" ذات الوعود المعسولة والشعارات التعبوية التي تجعل الناس يعيشون يومهم، وليس التطلع الى آفاق المستقبل.

ذات صلة

مصائر الظالمينترامب يصدم العالم.. صنعنا التاريخفوز ترامب.. فرح إسرائيلي وحذر إيراني وآمال فلسطينيةالنظامُ التربوي وإشكاليَّةُ الإصلاح والتجديدالتأثير البريطاني على شخصية الفرد العراقي