فخ الحكم الرشيد
بروجيكت سنديكيت
2015-06-28 02:24
جومو كوامي سوندارام، مايكل كلارك
روما ــ إن نجاح التنمية وتحسن أساليب الحكم والإدارة يسيران جنباً إلى جنب عادة. ولكن خلافاً للاعتقاد الشائع، هناك قِلة من الأدلة التي قد تشير إلى أن النجاح في تنفيذ إصلاحات الحوكمة يؤدي بالضرورة إلى تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة وأكثر سرعة. بل قد يكون العكس تماماً هو الصحيح.
الواقع أن التركيز على الحكم الرشيد كان نابعاً من الجهود الحثيثة التي بذلت لاستعادة النمو المستدام أثناء أزمة الديون في البلدان النامية في ثمانينيات القرن العشرين. فبدلاً من إعادة تقييم النهج السائد في التعامل مع السياسة الاقتصادية، توجهت مؤسسات التنمية الدولية نحو الأهداف السهلة: حكومات البلدان النامية. وأصبح تقديم النصيحة والمشورة لهذه الحكومات حول الكيفية التي ينبغي لها أن تؤدي بها وظيفتها مهنة جديدة لهذه المؤسسات، والتي سرعان ما عملت على تطوير أساليب "فنية" جديدة لإصلاح الحكم.
فباستخدام أكثر من مائة مؤشر، قدم البنك الدولي مؤشراً مركباً للحكم الرشيد، استناداً إلى تصورات تتعلق بالمساءلة، والاستقرار السياسي وغياب العنف، وفعالية الحكومة، والجودة التنظيمية، وسيادة القانون، ومستويات الفساد. ومن خلال ادعاء التوصل إلى ارتباط قوي بين مؤشرات الحكم والأداء الاقتصادي، عمل البنك الدولي على تغذية الأمل في العثور على المفتاح إلى التقدم الاقتصادي.
كانت الحجة معيبة منذ البداية. ذلك أن المؤشرات المستخدمة لم تكن منسجمة مع التاريخ، كما فشلت في تقدير التحديات والظروف التي يعيشها كل بلد على حدة، وكانت التحليلات الإحصائية عبر البلدان تعاني من التحيز في الاختيار، فضلاً عن تجاهلها لأشكال الارتباط بين مجموعة واسعة من العوامل المتغيرة. ونتيجة لهذا، وقع البنك الدولي في فخ المبالغة الشديدة في تقدير تأثير إصلاح الحكم على النمو الاقتصادي.
لا شك أن الحكم الذي يتسم بالفعالية والشرعية والاستجابة يعود بفوائد لا حصر لها، وخاصة عندما يقارن بالبديل: الحكم غير الفعّال، والمحسوبية، والفساد. ولكن التركيز على إصلاح الحكم لم يثبت ذلك القدر من الفعالية التي وَعَد بها في تعزيز التنمية.
بل إن هذا النهج الذي يركز على الحكم ربما تسبب فعلياً في تقويض جهود التنمية. فقد سمح للمؤسسات الدولية بادئ ذيب بدء بتجنب الاعتراف بأوجه القصور التي تعيب العقيدة التنموية الجديدة التي سادت طيلة العقدين الأخيرين من القرن العشرين، عندما خسرت أميركا اللاتينية أكثر من عشر سنوات، وبلدان جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا أكثر من ربع قرن من الزمان، من التقدم الاقتصادي والاجتماعي.
كما تسبب هذا النهج في تعقيد عمل الحكومات دون داع. فبعد أن أصبحت إصلاحات الحكم الرشيد شرطاً للمساعدات الدولية، تنتهي الحال بحكومات البلدان النامية غالباً إلى محاكاة توقعات المانحين، بدلاً من معالجة القضايا الأكثر إلحاحاً بالنسبة لمواطنيها. والواقع أن مثل هذه الإصلاحات قد تؤدي حتى إلى تقويض الحقوق التقليدية والالتزامات العرفية المعمول بها بين المجتمعات على مدى أجيال عديدة.
وعلاوة على ذلك، تتسم الإصلاحات المطلوبة باتساع المدى إلى الحد الذي يجعل تنفيذها عادة بعيداً عن متناول أغلب البلدان النامية. ونتيجة لهذا، فإن حلول الحكم الرشيد تميل إلى الانصراف عن جهود التنمية الأكثر فعالية.
ومن مشاكل إصلاحات الحكم أيضاً أنها برغم حيادها الرسمي كثيراً ما تحابي مصالح خاصة بعينها، والعواقب دوماً جائرة للغاية. ففي بعض الحالات، أدت الإصلاحات التي تسعى إلى إلغاء المركزية وتستهدف انتقال السلطة إلى تمكين صعود عملاء سياسيين محليين أقوياء.
والاستنتاج هنا واضح: فلا ينبغي لأجندة التنمية أن تكون مثقلة بحتميات إصلاح الحكم. وعلى حد تعبير ميرلي جريندل من جامعة هارفارد، ينبغي لنا أن نستهدف "القدر الكافي" من الحكم الرشيد، فنختار عدداً قليلاً من الحتميات من قائمة طويلة من الاحتمالات.
ولكن اختيار التدابير الأكثر أهمية لن يكون سهلا. والواقع أن دعاة إصلاح الحكم نادراً ما أصابوا في تحديد النهج الأكثر فعالية.
ولنتأمل هنا الترويج الذي لا ينقطع للجهود الرامية إلى تعزيز حقوق الملكية. إذ يؤكد الأنصار أنه في غياب الملكية الفردية القابلة للتحويل للموارد الإنتاجية، لن تكون هناك وسائل أو حوافز كافية لملاحقة مبادرات التنمية، وسوف تتعرض الموارد المشتركة ("المشاعات") لفرط الاستغلال والاستخدام على نحو يفتقر إلى الكفاءة.
الواقع أن "مأساة المشاعات" المزعومة ليست واسعة الانتشار أو حتمية، وحقوق الملكية الفردية ليست الأفضل دوما ــ وليست الوحيدة أبدا ــ بين الحلول المؤسسية في التعامل مع المعضلات الاجتماعية. كانت الخبيرة الاقتصادية الراحلة إلينور أوستروم الحائزة على جائزة نوبل قد أوضحت أن المجتمعات البشرية أنشأت عدداً لا يحصى من الحلول المبدعة والدائمة لمجموعة واسعة من المعضلات التي تنطوي على استخدام الموارد المشتركة.
يتمتع موضوع الحكم الرشيد بجاذبية خاصة لدى المنظمات البيروقراطية الضخمة مثل بنوك التنمية المتعددة الأطراف وهيئات الأمم المتحدة، والتي تفضل الحلول غير السياسية لمشاكل سياسية في الأساس. بعبارة أخرى، يشكل الحكم الرشيد حلاً تكنوقراطية ظاهرياً لما يعتبره المانحون وغيرهم من المجموعات ذات النوايا الحسنة سياسات رديئة، وبشكل خاص السياسة السيئة.
وهنا تكمن المشكلة الحقيقية في أجندة الحكم الرشيد: فهي تفترض أن حل أغلب معضلات السياسات والسياسة تكمن في الالتزام بمجموعة من المؤشرات الرسمية المعنية بعملية الحكم. ولكن الخبرة على مدى عقدين من الزمان تشير إلى أن مثل هذه التوجيهات تقدم القليل من الإرشاد العملي لحل مشاكل العالم الحقيقي في مجال التنمية الاقتصادية والتي تتسم بالتعقيد فنياً واجتماعياً وسياسيا.
إن الاعتراف بتحسن الحكم مع تقدم جهود التنمية من شأنه أن يخدم المجتمع الدولي بشكل أفضل من خلال حمله على ملاحقة الإصلاحات التي تعمل بشكل مباشر على دفع عجلة التنمية، بدلاً من تبني أجندة واسعة قد تخلف أثراً ضئيلاً وغير مباشر في أفضل تقدير. ولن يكون هذا النهج العملي في التعامل مع تحسين الحكم جازماً جامداً ولن يتظاهر بالعالمية والشمول. فهو يقوم في الأساس على تحديد وتحليل ومعالجة المعوقات الرئيسية، وربما بشكل متعاقب متسلسل.
الواقع أن العديد من الأهداف الرئيسية على أجندة الحكم الرشيد ــ التمكين، والإدماج، والمشاركة، والنزاهة، والشفافية، والمساءلة ــ يمكن دمجها في حلول قابلة للتطبيق، ليس لأن جهات خارجية تطالب بها، بل لأن الحلول الفعّالة تحتاج إليها. ولابد لمثل هذه الحلول أن تستفيد من الخبرات ذات الصلة، مع إدراك حقيقة مفادها أنها ليست "أفضل الممارسات" بالضرورة.
من الواضح أن السعي الأعمى وراء الحكم الرشيد كان ينفرد بتوجيه جهود التنمية لفترة طويلة للغاية. والآن حان الوقت لكي نعترف بالسبل الكفيلة بتحقيق النجاح ــ ونتجاهل كل ما عدا ذلك.