ظاهرة الحاشية وإستغلال السلطة في النظام السياسي
محمد علاء الصافي
2019-10-12 04:55
الحاشية في اللغة تعني الأهل والخاصّة، البطانة "حاشية الرَّجل/الملك".
من خلال قراءة واعية للتاريخ بشكل عام، يمكن أن نستنتج أن الكثير من الوقائع والاحداث حيث تمثل تجارب ذات قيمة خاضتها الأمم متحملة اثارها السلبية والايجابية، وما هي إلا دروس وعبر تقع في سياق "إياك أعني واسمعي يا جارة"؛ فهي موجهة الى الرؤساء والحكام في عصرنا الحاضر.
إن دراسة التاريخ وتسليط الضوء على أحداثه ومشاهدة سياسة الحكام، وحالة المراوغة والدجل والازدواجية لبعضهم في سياستهم، يحثنا على الاعتبار والاتعاظ بها، واختيار الأسلوب الأمثل في مسيرة الامة وحركتها في الحياة.
روي عن النبي (ص) انه قال: (صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت امتي، واذا فسدا فسدت أمتي، قيل ومن هم يا رسول الله؟ قال: الفقهاء والامراء).
من أهم علامات الصلاح في هذين الصنفين تطهير محيط اسرة الحاكم والعالم من النفعيين وذوي الاطماع والمصالح، والعناصر المنسبة لهم من الانتهازيين المنتسبين بالنسب والقرابة كالازواج والابناء وغيرهم من المقربين من الحاكم او العالم.
ان بداية الضعف والتفسخ الذي يدب في النظام، وتفشي ظاهرة الانحراف والسقوط عند الحاكم إنما تنشأ فيما لو أجاز لأسرته وذويه الدخول في السياسة والاقتراب من أجهزة الحكم؛ ثم إسناد الوظائف الحكومية والمناصب في الدولة لهم، وخصهم بها دون غيرهم ممن يمتلك الكفاءة والقدرة في تحمل المسؤولية، مما يقود الى استيلائهم بعد ذلك على مقاليد الحكم وانفرادهم بالسيطرة على مقدرّات الامة، واخذهم بزمام الأمور حتى يجردوا الحاكم من أي قدرة وإرادة في مواجهة الاحداث، فيتحول الى لعبة يتراماها الصبيان يملون عليه رغباتهم، يعزلون من يشاءون ويعطون ويمنعون من يشاءون، وهو في ذلك كله خاضع لهم كالميت بيد غاسله!.
هذا اشد أنواع الظلم بحق عامة الناس، لأن الحواشي في ذلك يرون لأنفسهم حقاً على الامة وانهم بعيدون عن أن تنالهم أيدي العدالة والعقوبة على تصرفاتهم وافعالهم غير الشرعية، ومن خلال ذلك تراهم يظهرون للناس بأن أي اعتراض أو رفض لهم لن يلاقي آذاناً صاغية وإنما سيعرضهم لأقسى العقوبات وأبشع الممارسات.
الحاكم الذي جاء بمفرده الى سدة وإدارة الدولة، تحوّل بين عشية وضحاها الى دكتاتورية وطبقة مستبدة مسلّطة على رقاب الناس لأنه جاء بحاشيته كلها الى الحكم وصارت أجهزة الدولة "مافيا" يديرها هؤلاء، حيث يستحوذ كل واحد منهم على مركز مهم في الدولة، وخاصة ما يتعلق بحياة ومستقبل الناس ولذلك نرى كلما ازدادت ظاهرة الاستبداد والحواشي في نظام ما ازدادت احتمالية سقوطه وسقوط الامة من بعده بشكل لا يقبل الشك.
لقد وضع الامام علي (ع) لهذه الظاهرة علاجا ونهى الاخرين عن التخلق بها، فكان هذا العلاج موجه الى ذات الحاكم ونفسه، لأن الحاكم او أي مسؤول في إدارة البلاد إن لم تمنعه نفسه عن التعدي على أموال وحقوق الناس فلن يقدر على سد الأبواب امام ذويه ومعاونيه في المسؤولية ومنعهم من اختلاس أموال الناس والسرقة إذا ما سنحت لهم الفرصة بذلك.
لذا قال الامام في وصيته لمالك الاشتر (ثمّ إنّ للوالي خاصّة وبطانة فيهم استئثار وتطاول، وقلّة إنصاف في معاملة، فاحسم مادّة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال ولا تقطعنّ لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعة. ولا يطمعنّ منك في اعتقاد عقدة تضرّ بمن يليها من النّاس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك، وعيبه عليك في الدّنيا والآخرة).
ولأنه مارس هذه الوصايا على نفسه أولاً، كان من المستحيل على المقربين منه ان يتجرأوا على القيام بأفعال غير مشروعة أو أساليب ملتوية لتحقيق غاية في انفسهم، وقد خاطب اهل الكوفة بقوله (يا اهل الكوفة، دخلت بلادكم بأشمالي هذه ورحلتي وراحلتي ها هي؛ فإن خرجت من بلادكم بغير ما دخلت فأنني من الخائنين).
ورغم ذلك أن الحاكم مهما بلغ من الصلاح والورع ربما يقع تحت تأثير حاشيته وذويه، فينقاد لاستغلال النفوذ والموقع في السلطة للحصوص على المنافع والامتيازات غير المشروعة على حساب الاخرين، مما يتنافى مع المصلحة العامة. لذلك يجب على المسؤول ان يرى المنصب امانة في عنقه ويقف امام التحديات الكثيرة التي قد يرتكبها بعض النفعيين والانتهازيين، من ذوي النفوذ والاقرباء وحاشيتهم في السلطة.
لقد حلّت بالبلاد الإسلامية بعد استشهاد الامام علي (ع) الكوارث والويلات، وعادت الطائفية والعصبية الجاهلية البغيضة الى الحكم وساد التمييز العنصري بمختلف اشكاله في الإدارة السياسية الحاكمة، وقد دلّت الشواهد والقرائن التاريخية على أن توزيع الثروة واستغلال النفوذ في السلطة إنما كان قائماً على أساس العلاقات الشخصية دون الخضوع للقوانين والقرارات التي تصب في اطار النظام، وخاصة فترة حكم بني أمية الذين لم يكن لهم نظير في تاريخ الحكم الإسلامي في استخدامهم لأساليب الخداع والزيف والتضليل، وانتقلت بعد ذلك الى أجيال لاحقة ليومنا هذا.
حركة الامام الحسين عليه السلام جاءت بالأساس لرفض هذه السلوكيات الجائرة وإرجاع الحقوق المسلوبة للناس دون تمييز، لذلك هي ثورة بكل المقاييس ضد المحسوبية والطبقية والتفضيل في العطاء ونهب بيت المال والتلاعب بمقدرات الامة وتسيّد الفاسدين والحواشي على رقاب الناس ممن لم تكن فيهم الكفاءة، وكان لهم تاريخ حافل بالجرائم ضد الناس، وكان صدى ثورته مؤثرا ضد أي سلطة مستبدة فاسدة وبقيت محركا اساسيا لكل رفض وقيام ضد السلطة في كل زمان ومكان.