إصلاح النظام السياسي في العراق، تقوية الحكومة وإنهاء المحاصصة
المحور الأول: قطاع النظام السياسي
الهيئة الاستشارية العراقية للإعمار والتطوير
2018-05-29 05:40
ورقة دراسة: د. محمد سعيد الشكرجي
أكد عزوف الكثير من المواطنين عن المشاركة في الانتخابات الأخيرة على حاجة العراق اليوم الى اجراء إصلاحات كبرى في مختلف المجالات لإعمار البلد وتحسين حياة أبنائه، لكن نجاح الإصلاح يعتمد على النظام السياسي لكونه يشكل حالياً العقبة الكبرى أمام انجاحه، بسبب ضعف الحكومة وتأثير قادة الكتل على عملها وعلى أداء مجلس النواب. تشكل هذه الورقة مجرد مساهمة قائمة على معرفتنا بمبادئ النظم الدستورية، بشكل عام، وبعملية بناء الدولة في العراق، بشكل خاص. وقد كتبتها باختصار شديد، ويمكن تفصيلها لاحقاً.
أولا ً: ملاحظات لا بد منها
1- لايشكل النظام الديمقراطي نظاماً مثالياً، بحسب المختصين الغربيين أنفسهم، بل هو أقل الأنظمة سوء وحسب. لكونه يتميز عموماً بقدرته على تصحيح سياساته بفضل انتخاب الحكام وتمتع أفراد المجتمع، بدرجة أو بأخرى، بالحريات الخاصة والعامة في إطار القانون، وبضمنها حريات الرأي والتعبير، ومنها تطورت العلوم وازدهر الاعلام، وحريات والتنظيم والتظاهر، ومنها تطورت النقابات ثم الأحزاب، وحرية التنقل، الخ.
2- في المقابل، تتسبب الدكتاتوريات في كوارث إنسانية في مختلف المجالات، وحتى الأنظمة الثورية تنزلق تدريجياً من "حكم الجماهير" المعلن الى أنظمة جامدة تقبض على السلطة وتوظف الموارد المختلفة لتكريس سيطرة فئة تتداول السلطة فيما بينها.
3- يشير أنصار الأنظمة الثورية الى المظالم والجرائم التي ارتكبت في ظل النظم الديمقراطية، وخصوصاً بحق شعوب المستعمرات. وهذا اشكال صحيح، اذ نشأت الديمقراطية الغربية مع تطور الرأسمالية كنظام انتاجي صناعي "متوحش"، كما يسمى في الغرب، لكن مع ذلك، احتفظ النظام الديمقراطي بقدرته النسبية على تصحيح المسار، بينما تظل الأنظمة الدكتاتورية عصية على التغيير ومنعها لتطور القوى الاجتماعية، مما يؤدي الى تقهقر البلد.
ثانياً: اختيار النظم الديمقراطية، الحكومة القوية أساس كل نظام
خلافاً للفكرة السائدة حالياً في العراق حول علوية مجلس النواب بذريعة أنه يضم ممثلي الشعب، توجهت الدول الديمقراطية الى تقوية الحكومة لتفادي التقلبات السياسية وما يتبعها من اضطرابات اجتماعية واقتصادية. وقد دفع هذا التطور أستاذ القانون الدستوري المعروف في فرنسا والعالم، موريس دوفرجيه، الى تأليف كتاب بعنوان "الملكيات الجمهورية"، سنة 1973، لنقد هذه الظاهرة التي ترسخت مع الزمن.
تتنوع النظم الديمقراطية لأن كلاً منها نشأ في بيئته، فنظام الجمعية مثالي قائم على تبعية الحكومة للجمعية النيابية، لذلك انقرض ولم يبق الا في سويسرا. أما النظام البرلماني، فقد نشأ في إنكلترا ثم في فرنسا، ويستمد تسميته من البرلمان المؤلف عادة من غرفتين. ويقوم على اختيار رئيس الحكومة من قبل البرلمان، مجلس النواب بالتحديد، وعلى التوازن بين رئيس الحكومة والبرلمان وإمكانية كل طرف اسقاط الطرف الآخر، ليرجعا الى الناخبين، وبالتالي يفكر النواب ملياً قبل أي خطوة من هذا النوع.
تطور هذا النظام، منذ منتصف القرن العشرين، مع توجه بريطانيا العظمى الى تقوية موقع رئيس الوزراء إزاء البرلمان وساعد على ذلك تطور ظاهرة الأحزاب السياسية. فنواب الحزب الفائز في الانتخابات، يتبعون رئيس الحزب وهو، في نفس الوقت، رئيس الوزراء. إضافة الى ذلك، تم تقوية دور الحكومة في عمل مجلس العموم وتعقيد عملية اسقاطها من قبل نفس المجلس. أما فرنسا، فقد تبنّت، في استفتاء سنة 1962، انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من قبل الشعب لتقوية موقعه كرئيس للسلطة التنفيذية في مواجهة البرلمان.
أما النظام الرئاسي، فقد ابتكره الأمريكان، أواخر القرن الثامن عشر، ويقوم على الفصل الواضح بين السلطات، اذ لا وجود فيه لإسقاط الحكومة ولا لحل المجلس النيابي، ويمسك رئيس الجمهورية، في هذا النظام، بعموم السلطة التنفيذية ويتمتع بصلاحيات واسعة جداً.
النظام المركزي والنظام الفيدرالي: إضافة الى النظام الرئاسي، ابتكر واضعو الدستور الأمريكي النظام الفيدرالي الذي أسس لحكومة مركزية تحكم في مجالات الاقتصاد والمالية والسياسة الخارجية والدفاعية في عموم البلد الى جانب حكومات محلية منتخبة تتمتع بسلطات محددة دستوريا.
ثالثاً: النظام الديمقراطي العراقي
الاشكال الكبير: تكمن المشكلة الكبرى في العراق في غياب البيئة الديمقراطية لعدم ترسّخ الثقافة المشتركة وضعف الهوية الوطنية وهشاشة الاقتصاد (الريعي)، وما يتبع ذلك من ضعف البلد أمام التدخلات الخارجية. وقد أدت ممارسات الطبقة السياسية الى تفاقم هذه المشكلة والى تراجع التيار الديمقراطي، و"إعادة تأهيل" الدكتاتورية لدى الكثيرين!!
وبهدف تحسين أداء النظام السياسي الحالي، نوجز أهم نقاط ضعفه كما يلي:
1- اختلاط المفاهيم وقد عبّر واضعو الدستور أنفسهم عن الخلط بين الأنظمة الديمقراطية وعدم الإحاطة بمفهوم الفصل بين السلطات واستقلالية القضاء، كما سنرى، كما دلّت الحملة الانتخابية الأخيرة على الخلط السائد بين وظائف مجلس النواب والمجالس البلدية!!
2- دولة اتحادية دون مجلس اتحادي! مع التأكيد على اتحادية الدولة (المادة 1)، ترك الدستور (المادة 65) أمر مجلس الاتحاد الذي يمثل المناطق الى سلطة أدنى، مجلس النواب، ولا زلنا ننتظر منذ 13 عاماً! إضافة الى ذلك، اتسم الدستور بالتخبط فيما يخص العلاقة بين المركز الفيدرالي والمناطق، مما مهّد لتدهور علاقة المركز بالإقليم وبالمحافظات أيضاً.
3- الحكومة الضعيفة دستورياً! نص الدستور (المادة 1) أن "نظام الحكم.. نيابي (برلماني)"، ولكن أصحاب التوجه التوافقي حَوّلوا رئيس الجمهورية من أعلى رمز للدولة الى مشارك في السلطة التنفيذية. وأضعفوا رئيس الحكومة إزاء مجلس النواب أيضاً، اذ مكّنواَ الأخير من التصويت على اسقاطه، بينما هو عاجز عن حل المجلس الا بموافقة رئيس الجمهورية!!
4- المحاصصة والوحدة الوطنية: مهّد الدستور اذن للمحاصصة رغم أنه عامل العراقيين كمواطنين وحسب. لذلك يمكن القول أن قادة الكتل السياسية ربما كانوا متفقين، على تبني نظام المحاصصة، عند كتابة الدستور، لتقاسم السلطة فيما بينهم. وتسبب ذلك في:
1/ نشر أجواء التنازع والتعصب ثم تغلغل التطرف والإرهاب، وما يعنيه ذلك من تهديد لوحدة البلاد.
2/ اضعاف أكبر للحكومة ولمؤسسات الدولة.
3/ تقوية الفساد بفعل تواطؤ الكتل على حماية ممثليها.
4/ انتاج طبقة سياسية "طفيلية"، من مختلف القوى المتحاصصة بفعل استمرار تشارك الكتل الكبرى في امتيازات السلطة.
5/ ساهم أفراد هذه الطبقة في ضرب النظام الديمقراطي في أهم مفاصله، الفصل بين السلطات والتناوب على الحكم، إضافة الى تخريب فكرة الانتخابات بسبب رفضهم لنتائجها وتشكيكهم بنزاهتها، فمن المطالبة بإعادة عمليات العد والفرز الى التشكيك بالنظام الإلكتروني، وحتى قبل اجراء انتخابات 2018...
5- الفوضى النيابية بفعل الامتيازات المادية والتغّيب والانسحابات لضرب النصاب، والتدخل في عمل الحكومة كالتوسط للمواطنين، مما تسبب بفتح أحد أهم أبواب الفساد.
6- السلطة القضائية المطلقة! تبنى الدستور الاستقلالية الكاملة للسلطة القضائية، اذ منعت (المادة 88) أي سلطة ليس من التدخل في القضاء وحسب، بل "في شؤون العدالة" بصورة مطلقة، بينما منح دستور الولايات المتحدة رئيس الجمهورية صلاحية تعيين قضاة المحكمة العليا. ووضع الدستور الفرنسي، 1958، رئيس الجمهورية على رأس مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل نائباً له! وبرر الفقهاء ذلك بضرورة منع ظواهر "تسلط القضاء".
من جهة أخرى، لم يذكر الدستور العراقي النيابة العامة (الادعاء العام)، الا بشكل عابر.
7- اضطراب علاقات المركز مع الاقليم والمحافظات، وانعكس ذلك في استفحال التشكيك والتنافر بين الطرفين، مما أعطى الانطباع أننا لسنا في بلد اتحادي، بل كونفدرالي مضطرب!!
رابعاً: تعديل الدستور
تستحق التعديلات المقترحة بحثاً مستقلاً، لكن سأذكر أهمها باختصار:
+ تبني دستور جديد: مهدت نقاط الخلل والغموض لاستفحال مظاهر الفساد الإداري والمالي في ظل المحاصصة التوافقية التي نعتبرها "سرطان الديمقراطية العراقية". ولكن تعديل الدستور صعب جداً، لأنه توافقي أيضاً!! (المادة 126- رابعاً) و(المادة 142- رابعاً). لذلك ينبغي التفكير في اعداد دستور جديد لإرساء نظام ديمقراطي سليم وبعيد عن المحاصصة.
أعرض فيما يلي بإيجاز ما أقترحه من تعديلات وتنفع أيضاً في حال كتابة دستور جديد:
+ السيادة الوطنية لا الشعبية: يعني مفهوم السيادة الوطنية أن الرابطة الوطنية هي التي تجمع ممثلي الشعب في مجلس النواب، رغم اهتمام النائب بتظلمات سكان منطقته.
+ استكمال النظام البرلماني الاتحادي: يفرض هذا النظام علينا تأسيس مجلس الاتحاد، ويتألف عادة من ممثلَين اثنين مُنتخَبين عن كل محافظة، لتمثيل المحافظات.
+ إعادة تنظيم علاقة المركز بالإقليم والمحافظات: اجراء التعديلات الضرورية لإعادة تأهيل المركز، فالنظام الاتحادي هو غير النظام الكونفدرالي ولا يعني الفوضى.
يعني هذا الطرح، على سبيل المثال، أن تعدل المواد: (112) أولاً المتعلقة بإدارة النفط والغاز باستبعاد مفردة "مع" واعتماد تعبير "بعد استشارة"، وبقية فقرات المادة بناء على ذلك، ونفس الأمر بالنسبة للمادة (113). أما المادة (114) حول الاختصاصات المشتركة فتصبح "اختصاصات المركز بالتنسيق مع" والمادة (115) ليصبح كل ما لم يُنص عليه في الاختصاصات الحصرية "من صلاحية الحكومة الاتحادية"، وتكون الأولوية لقوانين الحكومة الاتحادية عند الاختلاف بينهما. كذلك ينبغي تفعيل المادة (121- ثالثاً) حول الحصة العادلة باعتبار مواردها وحاجاتها ونسبة السكان فيها". أما المادة (122- ثانياً) حول صلاحيات المحافظات، فتحذف مفردة "الواسعة" وتعدل فقرة خامساً لإخضاع المحافظ ومجلس المحافظة لإشراف الحكومة الاتحادية.
+ تفعيل النظام البرلماني باتجاه تقوية موقع رئيس الحكومة:
+ رئيس الجمهورية، يجب تحديد دوره الرمزي، وقد سمّاه الدستور الألماني "الرئيس الفيدرالي"، وجعله في باب منفصل وليس كما فعل الدستور العراقي (الفصل الثاني: الفرع الأول- رئيس الجمهورية)، تعديل المادة (60) بحذف تقديم مشاريع القوانين من قبل رئيس الجمهورية، الغاء المادة (61- ثامناً- ب- 1) طلب رئيس الجمهورية سحب الثقة من رئيس الوزراء، الغاء (المادة 66) لأنها خطأ واضح بناء على ما ذكر آنفاً، الغاء الفقرة (ثانياً من المادة 69) حول نواب رئيس الجمهورية وحذف أي ذكر لهذا المنصب في مواد الدستور، المادة (70- أولاً): "يختار" محل "ينتخب"، ونلاحظ أن واضعي الدستور تعمدوا اختيار مفردة الانتخاب لإضفاء الأهمية على هذا المنصب، بينما استخدموا مفردة "اختيار" لنائب الرئيس. (المادة 73) أولاً: يحل تعبير "يؤدي المهام" محل "يتولى الصلاحيات.
حول موقع رئيس الوزراء:
- تعديل المادة 78 بتبني تسمية رئيس الوزراء، فهو الرئيس الفعلي للوزراء.
- تعديل (المادة 76)، لتحديد الكتلة الأعلى "قبل الانتخابات" لرفع الغموض.
- تعديل علاقة الحكومة بالبرلمان وتثبيت دور الحكومة في وضع جدول الأعمال.
- تعديل (المادة – أولاً 64) للنص على قدرة رئيس الوزراء على حل مجلس النواب.
- الغاء المادة (61- ثامناً- ب- 1) حول إمكانية رئيس الجمهورية طلب سحب الثقة!!
- المادة 80 تحل عبارة "يمارس رئيس الوزراء" محل يمارس مجلس الوزراء!، ثم الفقرة أولاً: تَصبح "رئاسة الحكومة وتوجيه الوزراء" محل "الاشراف على...".
- الغاء المادة 81- أولاً، لا يمكن أن يقوم رئيس الجمهورية، مقام رئيس الوزراء.
ترشيد الانتخابات وعمل مجلس النواب:
- إعادة تشكيل المفوضية المستقلة للانتخابات على أسس مهنية بحتة واستبعاد أي ممارسة للمحاصصة في تشكيله.
- تعديل النظام الانتخابي بهدف تمثيل أفضل للناخبين وبساطة احتساب المقاعد، وذلك بتبني نظام الدوائر على أساس الفوز بمقعد واحد للفائز الأول في كل دائرة.
- الحملة الانتخابية مسؤولية الدولة وعلى نفقتها، فهي تؤمّن المساواة بين المرشحين وتمنع فوضى الملصقات (البوسترات) خارج منصات محددة.
- التشجيع على تماسك الكتل وانهاء حالة "القفز بين القوائم" بمنع النواب ترك ائتلافاتهم الا بعد 12 شهراً من بداية الدورة واشعار رئاسة المجلس خطياً مع ذكر التبريرات.
- تحديد وترشيد الترشيح لعضوية مجلس النواب، لعدم تكرار ما حصل في الانتخابات الأخيرة وتشديد الشروط، بإضافة التجربة المهنية الى الشهادة مثلاً لتكون احداهما على الأقل مرتبطة بعمل مجلس النواب، (كالسياسة، الاقتصاد، الإدارة، القانون).
- تعديل المادة (49) لتصبح "بنسبة مقعد واحد لكل مائتي ألف نسمة، لتخفيض عدد أعضاء مجلس النواب الى النصف، وذلك لزيادة الفعالية وخفض المصاريف.
- تعديل المادة (63) لوضع حصانة النواب في اطارها الصحيح باقتصارها على تصريحات النواب ونشاطهم في اطار عملهم داخل مجلس النواب وليس خارجه.
- تطبيق عقوبة الغرامات عن كل غياب والطرد بعد حد أقصى من الغيابات وتحديد الغيابات المرضية فالمجلس ليس مكاناً لتمتع المرضى بالرواتب بدون مزاولة العمل.
- تعديل (المادة 59) بالغاء مبدأ النصاب الضروري لعقد الجلسات، فالنظم الديمقراطية تفترض حضور النواب، علماً بأن أي غياب يخضع لتغريم النائب، كما ذكرنا.
- استقلال السلطة القضائية
- تعديل المادة 88 بحذف عبارة، "أو في شؤون العدالة" وذلك لمنع "تسلط القضاء"!
- استحداث مادة أو أكثر للتفصيل في عمل النيابة العامة (الادعاء العام).
هذه أهم التعديلات المقترحة، ما عدا الشكلية كترتيب السلطات وتبويب المواد وحذف عبارة "وينظم بقانون" أينما وجدت، (حيث تنطبق مبدئياً على كل المواد)...
* الدكتور محمد سعيد الشكرجي، باحث أكاديمي وسفير سابق
...................................