الغنيمة بين اللغة والشرع: عموم الدلالة وأثرها على أحكام الخمس

الحلقة الثانية

صباح الصافي

2025-11-09 03:43

في هذه الحلقة، نواصل رحلتنا مع الشَّاب الذي يسعى لفهم أعمق لمعنى الخمس وكيفية تطبيقه. بعد أن ناقشنا في الحلقة السَّابقة مسائل أساسيَّة حول الخمس، نغوص الآن في معنى كلمة (ما غنمتم) في القرآن الكريم، ونتوقف عند التَّساؤل المهم: هل الغنيمة مقصورة على غنائم الحرب فقط، أم تشمل جميع المكاسب التي يظفر بها الإنسان في حياته؟

 ستأخذنا هذه الحلقة في تحليل لغوي دقيق للكلمة، مستعرضين أقوال أعلام اللغة والمفسرين من الفريقينِ، وننظر في استدلالات العلماء الإماميَّة والقرآنيَّة والسنَّة النَّبويَّة. وهدفنا هو توضيح كيف أنَّ اللغة والشَّرع يكمِّلان بعضهما، وأنَّ فهم العموم اللغوي للغنيمة يمكِّننا من إدراك حكم الخمس على نحو أوسع وأدق، بما يشمل جميع المكاسب الحقيقيَّة للمؤمن، من دون حصرها في غنائم الحرب فقط.

الشَّاب (مبتسمًا): السَّلام عليكم يا سيِّدي، البارحة كنت مع مجموعة من الأصدقاء، وبعضهم من مذاهب أخرى. تحدَّثنا عن مسألة إباحة الخمس، وشرحت لهم ما تعلمته منك، فأُعجبوا كثيرًا بالإجابات، ثمَّ حمَّلوني مجموعة من الأسئلة لتجيبني عنها.

(يميل قليلًا للأمام): ومن بين أسئلتهم قالوا: إنَّ آية الخمس هي الآية الوحيدة التي ذكرت حكم الخمس ومصرفه ومتعلقه؛ ولكنها تختص -كما يرون- بغنائم الحرب فقط. وقد استدلُّوا على ذلك بوجوه عدَّة...

العالم (بهدوء): وعليكم السَّلام ورحمة اله وبركاته يابني: وما هي وجوه استدلالهم؟

الشَّاب (رافعًا يده قليلًا): قالوا: أوَّلًا، إنَّ لفظة "الغنيمة" تختص بغنائم الحرب، إمَّا وضعًا كما قال بعضهم، أو بالنَّقل الشَّرعي أو العرفي كما ذهب إليه القرطبي والرَّازي وصاحب تفسير المنار.

وثانيًا، قالوا: إنَّ السِّياق يؤيّد ذلك؛ لأنَّ الآية وردت وسط آيات الجهاد ومحاربة المشركين، فالسِّياق قرينة على التَّخصيص.

وثالثًا، قالوا: إنَّ هناك اتِّفاقًا بين علماء الجمهور -كالقرطبي وابن رشد وغيرهما- على هذا المعنى.

(بتأمل): وأنا تذكَّرت أنَّك شرحت لي سابقًا أنَّ الغنيمة لا تقتصر على غنائم الحرب؛ لكن لم أجد أمثلة كافية أقدِّمها لهم.

الشَّاب (بفضول): سيِّدي، هل هناك أدلة إضافية تؤكِّد أنَّ معنى كلمة (ما غنمتم) أوسع من غنائم الحرب؟

العالم (مبتسمًا بثقة): نعم يا بني، دعنا نرى الأدلة الجديدة في هذا المقام؛ إذ الكلمة تشمل كلَّ ما يظفر به الإنسان في حياته من الأموال، سواء كان ذلك بالحرب والجهاد مع الكفار، أو باستخراج المعادن، أو إيجاد الكنز، أو بالغوص في البحار والأنهار، أو بالاكتساب من الزِّراعة، أو الصّناعة، والتِّجارة. وقد صرَّح بذلك جمع كبير من علماء اللغة، وقد نقلنا بعض أقوالهم في الحوارية الأولى.

الشَّاب (متأملًا): فهمت، لكن كيف نعرف أنَّ هذا هو المعنى الصَّحيح للكلمة؟

العالم: لا ريب يا بني أنَّ معرفة الدلالة الوضعيَّة للكلمة لا تتحقق إلَّا بالرُّجوع إلى أعلام اللغة وخبراء هذا الفن، وتتبع موارد استعمال كلمة "الغنيمة" في القرآن الكريم والسنَّة الشَّريفة وكلمات العلماء المهرة. وإذا ثبت عموم الوضع، فعلى من يقول بالتَّخصيص أن يقدِّم برهانًا واضحًا يثبت صحَّة قوله، وإلَّا فالاعتماد يكون على ظاهر اللفظ كما هو الحال في مطلق الألفاظ.

الشَّاب (مستفسرًا): هل هناك مثال محدد يوضح هذا المعنى؟

العالم (مستأنفًا): نعم، قال الشيخ الطريحي في مجمع البحرين: "الْغَنِيمَةُ في الأصل هي الفائدة المكتسبة؛ ولكن اصطلح جماعة على أنَّ ما أخذ من الكفار، إن كان من غير قتال فهو فيء، وإن كان مع القتال فهو غَنِيمَةٌ"(1).

وفي أقرب الموارد: "غَنِمَ‌ الغازي غُنْماً وغَنْماً وغَنِيْمَةً‌ وغُنْمَاناً: اصاب فيئاً والشَّيءَ غُنْماً: فاز بهِ‌ بلا مشقَّةٍ‌ ونالهُ‌ بلا بدلٍ‌ فهو(غَانِمٌ)"(2).

وقال معلوف في المنجد: "غنم غنماً الشَّيء: فاز به وناله بلا بدل... والغنيمة المكسب عمومًا"(3).

الشَّاب (مبتسمًا بثقة): إذن، المعنى اللغوي يثبت أنَّ الغنيمة ليست مختصة بغنائم الحرب فقط؛ وتشمل كلَّ مكسب يظفر به الإنسان.

العالِم (مقرًّا بإيماءة هادئة): أحسنت يا ولدي، وهذا الأساس يمنحنا الاطمئنان لمعنى الآية قبل النَّظر في بقيَّة الحجج الشَّرعيَّة.

الشَّاب (مستفسرًا وهو يرفع حاجبيه قليلًا): إذن، هل يُفهم من الآية الكريمة: (ما غنتم) أنَّ المقصود هو كلُّ ما يناله الإنسان ويظفر به من مكاسب؟

العالِم (مبتسمًا بتأكيد): بالضَّبط، فلا ينبغي الشَّك في دلالتها؛ فهي بمعنى الإصابة والفوز بالشَّيء؛ أي كلّ ما أصبتم وفزتم به. وأمَّا تفسيرها على أنَّها مختصة بغنائم دار الحرب، فهو مخالف لصريح كلام علماء اللغة، ويخرج عن المعنى الحقيقي للكلمة، إلَّا إذا وجدت قرينة صريحة تحدد ذلك.

الشَّاب (بحماس): فهمت الآن، إذًا الآية ذاتُ معنى عام يشمل كلَّ ما يُغنم ويُكتسب، ولا يُصار إلى تخصيصها إلَّا إذا قامت قرينةٌ بيِّنة تدلُّ على ذلك.

العالِم (مبتسمًا برضا): وهذا ما يسهِّل فهم الخمس وعموم وجوبه على كلِّ المكاسب.

الشَّاب (بفضول): وهل هناك ما يوضِّح هذا المعنى من كلام المفسرين؟

العالم (مبتسمًا): نعم ياعزيزي، فالمفسرون أكَّدوا ما ذهب إليه علماء اللغة. مثلًا، ذكر القرطبي في تفسيره

"الغنيمة في اللغة ما يناله الرَّجل بسعي، ومنه قول الشَّاعر:

وقد طوَّفت في الآفاق حتَّى * رضيت من الغنيمة بالإياب

وقال آخر:

ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه * أنَّى توجه والمحروم محروم

والمغنم والغنيمة بمعنى، يقال: غنم القوم غنمًا. واعلم أنَّ الاتفاق حاصل على أنَّ المراد بقوله (تعالى): (أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ) مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر، ولا تقتضي اللغة هذا التَّخصيص على ما بيَّناه، ولكن عرف الشَّرع قيَّد اللفظ بهذا النَّوع" (4).

وقال الآلوسي في تفسيره: "غنم في الأصل من الغنم بمعنى الربح" (5).

وفي تفسير المنار: "الغنم بالضم والمغنم والغنيمة في اللغة ما يصيبه الانسان ويناله ويظفر به من غير مشقة -كذا في القاموس- وهو قيد يشير إليه ذوق اللغة أو يشم منه ما يقاربه؛ ولكنه غير دقيق. فمن المعلوم بالبداهة أنَّه لا يسمى كلّ كسب أو ربح أو ظفر بمطلوب غنيمة، كما أنَّ العرب أنفسهم قد سموا ما يؤخذ من الأعداء في الحرب غنيمة وهو لا يخلو من مشقة، فالمتبادر من الاستعمال أنَّ الغنيمة والغنم ما يناله الانسان ويظفر به من غير مقابل مادي يبذله في سبيله (كالمال في التجارة مثلًا) ولذلك قالوا: إنَّ الغرم ضد الغنم وهو ما يحمله الانسان من خسر وضرر بغير جناية منه ولا خيانة يكون عقابًا عليهما. فإن جاءت الغنيمة بغير عمل ولا سعي مطلقًا سميت الغنيمة الباردة" (6).

 ويمكن أن نستخلص من كلمات العلماء أنَّ تفسير لفظ "الغنيمة" بالمأخوذ في الحرب هو تفسير شرعي اصطلاحي، لا مجرَّد نقلٍ للمعنى اللغوي العام. والمقصود بهذا التَّفسير هو إعطاء الكلمة معنى خاصًّا في نطاق الشَّريعة، يحدد مورد استعمالها في الأحكام الشَّرعيَّة، لا ربطها بمعناها اللغوي الواسع الذي يشمل كلَّ ما يُكتسب من ربح أو فائدة. وقد أوضح عدد من المفسرين هذا المعنى، مؤكدين أنَّ الاستعمال الشَّرعي للفظ "الغنيمة" أضيق من مفهومها اللغوي المطلق.

ويتقوَّى هذا الرَّأي بتأكيد علماء الإماميَّة، الذين لم يختلفوا مع نظرائهم في التَّفسير اللغوي للكلمة، وأيدوا هذا التَّوجه في التَّخصيص الشَّرعي.

الشَّاب (بفضول): هل هناك علماء من الإماميَّة أكَّدوا أنَّ معنى الغنيمة أوسع من الغنائم الحربيَّة؟

العالم (مبتسمًا): نعم يا بني، الشَّيخ الطوسي صرَّح بأنَّ "وعند أصحابنا الخمس يجب في كلِّ فائدة تحصل للانسان من المكاسب وأرباح التِّجارات والكنوز والمعادن والغوص وغير ذلك ممَّا ذكرناه في كتب الفقه" (7).

الشَّاب (مندهشًا): وهل هذا متفق عليه عند غير الشَّيخ الطوسي؟

العالم: بالتَّأكيد، فالمقداد السيوري قال أيضًا: "الغنيمة في الأصل هي الفائدة المكتسبة، واصطلح جماعة على أنَّ ما أخذ من الكفار إن كان من غير قتال فهو في‌ء، وإن كان بقتال فهو غنيمة" (8). وهذا يوضح أنَّ العموم اللغوي للغنيمة أوسع من التَّخصيص الشَّرعي.

وقال الطبرسي: "وقال أصحابنا إنَّ الخمس واجب في كلِّ فائدة تحصل للإنسان في المكاسب وأرباح التِّجارات وفي الكنوز والمعادن والغوص وغير ذلك ممَّا هو مذكور في الكتب ويمكن أن يستدل على ذلك بهذه الآية، فإنَّ في عرف اللغة يطلق على جميع ذلك اسم الغنم والغنيمة" (9).

وقال السيِّد الطباطبائي: "ظاهر الآية أنَّها مشتملة على تشريع مؤبد كما هو ظاهر التَّشريعات القرآنيَّة،

وأنَّ الحكم متعلق بما يسمى غنمًا وغنيمة سواء كان غنيمة حربيَّة مأخوذة من الكفار أو غيرها ممَّا يطلق عليه الغنيمة لغة كأرباح المكاسب والغوص والملاحة والمستخرج من الكنوز والمعادن، وإن كان مورد نزول الآية هو غنيمة الحرب فليس للمورد أن يخصص" (10).

أمَّا غير ذلك من أقوال المفسرين من كلا الفريقين، فقد اختلفوا في طريقة التَّخصيص؛ لكنهم جميعًا اتَّفقوا على أنَّ الكلمة في الأصل تحمل معناها العام والحقيقي. والتَّخصيص يحتاج دائمًا إلى دليل واضح وسبب وجيه قبل أن يُعتمد.

الشَّاب (متحمسًا): وهل فقهاء الإماميَّة يفسرون الغنيمة بهذا العموم؟

العالم (مبتسمًا بثقة): نعم يا بني، ففقهاء الإماميَّة ذهبوا إلى أن الخمس واجب في كلِّ مغنم، سواء أكان مأخوذًا بالحرب من الأموال والسلاح والعبيد، أو من المعادن، أو بالغوص، أو الكنز، أو العنبر، أو حتَّى أرباح التِّجارة والزِّراعة والصِّناعة بعد المؤونة والكفاية.

الشَّاب (مندهشًا): هل هناك من نقل هذا صراحة في كتبهم؟

العالم: بالتَّأكيد، الشَّيخ المفيد في المقنعة ذكر ذلك صراحة (11)، والسيِّد المرتضى في الانتصار أكَّد أنَّ الإماميَّة انفردوا بالقول بأنَّ الخمس واجب في جميع المغانم والمكاسب، واستدلوا بالآية الكريمة: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ)..."(12).

الشَّاب (مستفسرًا باهتمام): وماذا عن الشَّيخ الطُّوسي؟

العالِم (بوقار وهو يفتح كتابه): قال الشيخ الطُّوسي في المبسوط: "وأمَّا الغنيمة فمشتقة من الغنم، وهو ما يستفيده الإنسان بسائر وجوه الاستفادة، سواء كان برأس مال أو بغير رأس مال، فالغنيمة على ضربينِ: أحدهما ما يؤخذ من دار الحرب بالسَّيف والقهر والغلبة. والآخر ما يحصل من غير ذلك من الكنوز والمعادن وارباح التِّجارات وغير ذلك" (13).

الشَّاب (بفضول): وماذا عن المحقق البحراني؟

العالم (مطمئنًا): المحقق البحراني قال بصراحة: "ظاهر كلام جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) حصره في سبعة: غنائم دار الحرب والمعادن والكنوز والغوص والمكاسب وأرض الذمي التي اشتراها من مسلم والحرام المختلط بالحلال، قال في المدارك: وهذا الحصر استقرائي مستفاد من تتبع الأدلة الشَّرعيَّة وذكر الشَّهيد في البيان: أنَّ هذه السَّبعة كلها مندرجة في الغنيمة" (14).

الشَّاب (مبتسمًا): إذًا، اتفق العلماء على أنَّ معنى (ما غنمتم) في الآية الكريمة شامل لكلِّ الأرباح والفوائد، وليس مقتصرًا على الغنائم الحربيَّة فقط، مؤكدين أنَّ الدلالة لغويَّة في الأساس. ومن خلال ما سطره أئمة اللغة والمفسرون من كلا الفريقين، وكذلك فقهاء الإماميَّة، يتَّضح أنَّ العرب كانت تستخدم كلمة "الغنيمة" لكلِّ فائدة يحصل عليها الإنسان، حتَّى لو لم تكن نتيجة حرب أو قتال. وبناءً على هذا المعنى العام، استعمل القرآن الكريم والسنَّة الشَّريفة الكلمة؛ لذا فإنَّ أي تخصيص للكلمة من دون دليل يكون باطلًا، وهذا كله من منطلق اللغة والدلالة الوضعيَّة.

العالم (مبتسمًا): ولتعلم يا بني، أنَّ السنَّة الشَّريفة قد وردت هذه المادة فيها بجميع مشتقاتها اسمًا وفعلًا ومصدرًا ولم تكن مستعملة إلَّا في المعنى الحقيقي.

العالم (مستأنفًا): نورد لك بعض الأمثلة للتَّأكيد: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): "رحمَ الله عبدًا تكلَّم

فغنم، أو سكت فسلم" (15). وفي حديث النَّبي موسى (عليه السلام): "يَا مُوسى، اجْعَلْ لِسَانَكَ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِكَ تَسْلَمْ، وَأَكْثِرْ ذِكْرِي بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ تَغْنَمْ، وَلَا تَتَّبِعِ الْخَطَايَا فَتَنْدَمَ، فَإِنَّ الْخَطَايَا مَوْعِدُهَا النَّارُ" (16).

"وعن الحارث الأعور أنَّ عليًّا (عليه السلام) سأل ابنه الحسن (عليه السلام) عن أشياء من المروءة... ثمَّ قال (عليه السلام): فما الغنيمة؟

 قال (عليه السلام): الرَّغبة في التَّقوى، والزَّهادة في الدُّنيا، هي الغنيمة الباردة" (17).

العالم (بتأكيد): كلُّ هذه الأمثلة تثبت أنَّ الغنيمة بمعناها اللغوي الحقيقي تشمل كلَّ ما يُستفاد ويُغنم، وليس محصورًا بغنائم الحرب فقط.

الشَّاب (متسائلًا بجدِّية): لماذا نقلت لي أحاديث السنَّة الشَّريفة؟

 أليس من الأولى الرُّجوع إلى القرآن الكريم لفهم المراد من ألفاظه، خاصَّة إذا كان هناك غموض أو إبهام؟

العالِم (مطمئنًا بهدوء): لقد نقلنا بعض الأحاديث عن المعصومين (عليهم السلام)، التي تضمنت لفظ "الغنائم" و"المغانم" وما يشابهها، دالة على مطلق الفائدة، ولم يرد فيها ما يوجب تخصيصها بالغنائم الحربيَّة فقط كما يزعم البعض.

العالم (مضيفًا بحزم): إضافة إلى ذلك، فإنَّ الآية الشَّريفة نفسها تحتوي على دقائق ورموز تجعلها في مقام التَّشريع الدائم والقانون الأبدي، وهذا لا يمكن أن يُختصر على مورد محدد كما نقلنا في كلمة السيِّد الطباطبائي.

الشَّاب (طالبًا الإجابة): سيِّدي، هناك من يسأل سؤالًا آخر ويقول: إذا كان الخمس حقًا ماليًا بهذه الأهميَّة التي يذكرها علماؤنا، فلماذا لم يُذكر في القرآن الكريم كما ذُكرت الزَّكاة؟ فالزَّكاة وردت في أكثر من ثلاثين موضعًا، بينما لم يُذكر الخمس إلَّا في آية واحدة؟

العالم (مبتسمًا بهدوء): هذا السُّؤال يا بُنيّ ليس شبهة بالمعنى الدَّقيق؛ وإنَّما هو أشبه بالاعتراض على حكمٍ إلهيٍّ ثبت بالكتاب والسنَّة والإجماع. فالخمس شُرّع بآيةٍ صريحةٍ من كتاب الله (سبحانه)، وكفى بها حجَّة قاطعة، قال (تعالى): (مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (18)، فالمؤمن لا يقيس عدد الآيات؛ وإنَّما يتبع ما ثبت صدوره من الله (تبارك وتعالى) ورسوله الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) وأهل بيته (صلوات الله عليهم).

ثمَّ تابع قائلًا: إنَّ الاعتراض من هذا النَّوع ينافي جوهر التَّسليم، وهو حقيقة الإسلام نفسه، كما قال (سبحانه): (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (19). فالمسلم الحق لا يجعل معيار قبوله للأحكام عدد مرَّات ذكرها؛ بل مقدار وضوح الدَّليل وثبوته.

وأردف بابتسامةٍ مطمئنة: إنَّ الخمس والزَّكاة كلاهما حقّان ماليان شرّعهما الله (تعالى)، أحدهما ذُكر مرارًا لتعلُّقه بجميع النَّاس، وأمَّا الآخر فقد ورد مرَّةً واحدة، ولعلَّ السَّبب في ذلك أنَّه موجَّهٌ إلى فئةٍ خاصَّةٍ من المؤمنين، ويأتي في سياقٍ تشريعيٍّ متميِّزٍ عن غيره.

ثمَّ رفع رأسه قائلاً: فليسأل المعترض نفسه: ما الفرق بين حكمٍ إلهيٍّ ثبت بآيةٍ واحدة وآخر بآيات متعددة؟ أليس كلاهما من الله (عزَّ وجلَّ)؟ وهل يُقاس نور التَّشريع بعدد مرَّات ذكره؟ 

ألا يكفي أن يُذكر مرَّة واحدة ليكون حجَّةً خالدةً إلى يوم الدِّين؟

الشَّاب (طالبًا للتوضيح): سيدي، هل تتفضّل بإعطائي خلاصة لما دار بيننا في هذه الجلسة؟

ابتسم العالم وقال للشاب بلطف: يا بُنيّ، خلاصة ما خرجنا به من هذا الدَّرس يمكن أن نوجزه في سبع نقاط محوريَّة، تفتح لك باب الفهم الدَّقيق لمعنى الخمس في القرآن والسنّة.

أوَّلًا: إنَّ كلمة "غنم" في أصلها اللغوي كلمة واسعة جدًا، لا تقتصر على غنائم الحرب، وتشمل كلَّ فائدة ومكسب وربح يتحصَّل عليه الإنسان، وقد أقرَّ بذلك كبار أئمة اللغة، وإن اختلفت تعبيراتهم في بعض التَّفاصيل.

ثانيًا: إنَّ العلماء، على اختلاف مدارسهم، متفقون على المعنى اللغوي العام لكلمة الغنيمة، فهي عند الجميع تدلُّ على مطلق الفائدة، لا خصوص المغنم العسكري.

ثالثًا: إنَّ السنَّة الشَّريفة استخدمت هذه المادة في كلِّ اشتقاقاتها بنفس معناها الواسع، من دون أي تقييد أو تخصيص، ما يعني أنَّ الشَّرع نفسه لم يحصرها في مورد واحد.

رابعًا: كلُّ محاولة لتقييد معنى الغنيمة بمعنى خاص تحتاج إلى دليلٍ واضحٍ ومعتبر، وهو ما لم يثبت، فكلُّ التَّعليلات العرفيَّة أو الاتفاقيَّة التي طُرحت لا تنهض بالحجَّة أمام ثبوت المعنى اللغوي والشَّرعي.

خامسًا: القول بأنَّ سياق آية الخمس يقيّد المعنى قول غير دقيق؛ لأنَّ السِّياق لا يغيِّر معنى الكلمة، ويحدّد مصداقها فقط، فلا يضرّ بعمومها الأصلي.

سادسًا: إنَّ الآية الكريمة بأسلوبها المحكم ومؤكداتها البليغة نزلت لتشرِّع حكمًا عامًّا وأبديًا، لا يختص بزمنٍ أو حادثةٍ بعينها، وهذا من إعجاز التَّعبير القرآني.

وسابعًا: حتَّى لو أغفلنا كلَّ ما سبق، فإنَّ السنَّة النبويَّة بما ورد فيها من أقوال النَّبي الأعظم (صلَّى الله عليه وآله)، تُثبت عموم الخمس وتؤكِّد شموله لكلِّ موارد الفائدة، فلا يصح بعد ذلك أي تأويلٍ يخالفها أو يحدّ منها.

ثمَّ قال وهو يربت على كتف الشَّاب: هكذا يتَّضح لك يا بنيّ أنَّ الخمس فريضة إلهيَّة شاملة، جاءت لتنظم علاقة العبد بماله وربِّه (تبارك وتعالى)، ولتجعل من الإنفاق في سبيل الله (سبحانه) وسيلة تطهيرٍ وبركةٍ واتصالٍ بالنبوة والإمامة.

 وبعد هذا الاستعراض، يتَّضح أنَّ معنى (ما غنمتم) في القرآن الكريم أوسع من كونه غنائم الحرب فقط، فهو يشمل كلَّ مكسب يحصل عليه الإنسان سواء كان بالحرب أو بغيرها من وسائل الكسب المشروع. وقد أكَّد علماء اللغة والمفسرون من الفريقينِ، وكذلك فقهاء الإماميَّة، أنَّ العموم اللغوي للكلمة قائم، وأنَّ أي محاولة لتخصيصها تحتاج إلى دليل واضح ومقنع.

 إنَّ الحكمة من هذا الحوار هي أن نفهم فريضة الخُمس في ضوء اللغة والشَّريعة معًا؛ إذ إنَّ الإدراك الدَّقيق لمعنى الغنيمة يمكِّن المسلم من تطبيق حكم الخمس على كلِّ ما يظفر به من مكاسب وفوائد في حياته، وبذلك تتحقق روح العدل والنَّزاهة في التَّعاملات الماليَّة، وفق ما قرَّره القرآن الكريم والسنَّة النبويَّة من مبادئ الإنصاف والتَّزكية.

..................................

الهوامش:

1. مجمع البحرين، الشيخ فخر الدِّين الطريحي، المحقق: أحمد الحسيني، الناشر: انتشارات مرتضوي، المطبعة: طراوت: ج 6، ص 126.

2. أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد، شرتوني، سعید: ج 4، ص 73.

3. المنجد في اللغة، لويس معلوف، ط 19، بيروت: ص 561.

4. الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي)، القرطبي (ت: ٦٧١هـ)، ١٤٠٥هـ - ١٩٨٥م، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت – لبنان، تحقيق: أبو إسحاق إبراهيم أطفيش: ج ٨، ص 1.

5. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (تفسير الآلوسي): الآلوسي (ت: ١٢٧٠هـ)، ١٤١٥هـ. ق، الناشر: دار الكتب العلميَّة، منشورات محمَّد علي بيضون -لبنان– بيروت، تحقيق: عبد البارى عطيه، علي، ط1: ص 200.

6. تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)، الشيخ محمَّد رشيد رضا (ت: ١٣٥٤هـ)، ١٤١٤هـ. ق، الناشر: دار المعرفة -لبنان– بيروت، ط1: ج 10، ص 3.

7. التبيان في تفسير القرآن، الشيخ الطوسي (ت: ٤٦٠هـ)، ١٤٠٩هـ، الناشر: مكتب الإعلام الإسلامي، تحقيق وتصحيح: أحمد حبيب قصير العاملي، ط1: ج 5، ص 123.

8. كنز العرفان في فقه القرآن، المقداد السيوري (ت: ٨٢٦ هـ)، ١٣٨٤هـ - ١٣٤٣ ش، الناشر: المكتبة الرضوية – طهران، تحقيق وتعليق: الشيخ محمد باقر (شريف زاده) وأشرف على تصحيحه واخراج أحاديثه: محمد باقر البهبودي: ج ١، ص 248.

9. تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي (ت: ٥٤٨ هـ)، ١٤١٥هـ - ١٩٩٥م، الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات -بيروت– لبنان، تحقيق وتعليق: لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين، ط1: ج 4، ص 468.

10. تفسير الميزان، السيد الطباطبائي (ت: ١٤٠٢هـ)، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة: ج 9، ص 91.

11. المقنعة، الشيخ المفيد (ت: ٤١٣هـ)، ١٤١٠هـ، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي، ط2: ص 276.

12. الانتصار، الشريف المرتضى (ت: ٤٣٦هـ)، ١٤١٥هـ، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي: ص 86.

13. المبسوط، الشيخ الطوسي (ت: ٤٦٠ هـ)، الناشر: المكتبة المرتضوية لإحياء آثار الجعفرية، تحقيق وتصحيح وتعليق: السيد محمد تقي الكشفي: ج 2، ص 64.

14. الحدائق الناضرة، المحقق البحراني (ت: ١١٨٦هـ)، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، تحقيق وتعليق: محمد تقي الإيرواني: ج 12، ص 320.

15. بحار الأنوار، العلامة المجلسي (ت: ١١١١هـ)، ١٤٠٣هـ - ١٩٨٣م، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت – لبنان، تحقيق: علي أكبر الغفاري، ط3: ج ٧٤، ص 178.

16. الكافي (دار الحديث)، الشيخ الكليني (ت: ٣٢٩ هـ)، الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر – قم، ط1: ج ١٥، ص 126.

17. كنز العمال، المتقي الهندي (ت: ٩٧٥ هـ)، ١٤٠٩هـ - ١٩٨٩م، الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت – لبنان، تحقيق وضبط وتفسير: الشيخ بكري حياني، تصحيح وفهرسة: الشيخ صفوة السقا: ج 16، ص 215.

18. سورة الحشر/ الآية: 7.

19. سورة آل عمران/ الآية: 19.

ذات صلة

فلسفة النظم والنظام في رؤية الإمام الشيرازيالشباب العراقي وإرادة التغيير في الانتخابات البرلمانيةالصديقة الزهراء: المرأة الحُرة التي يقتلها الصمتخارطة طريق المرجعية الرشيدة لعراق بعد 2003الاقتصاد العالمي: لعبة بلا قواعد