الخواطر النفسانية والوساوس الشيطانية
جامع السعادات
2024-04-28 05:43
إعلم أن الخاطر ما يعرض في القلب من الأفكار فإن كان مذموما داعيا إلى الشر سمي (وسوسة)، وإن كان محمودا داعيا إلى الخير سمي (إلهاما). وتوضيح ذلك: إن مثل القلب بالنسبة إلى ما يرد عليه من الخواطر مثل هدف تتوارد عليه السهام من الجوانب، أو حوض تنصب إليه مياه مختلفة من الجداول، أو قبة ذات أبواب يدخل منها أشخاص متخالفة، أو مرآة منصوبة تجتاز إليها صور متباينة.
فكما أن هذه الأمور لا تنفك عن تلك السوانح، فكذا القلب لا ينفك عن واردات الخواطر. فلا تزال هذه اللطيفة الإلهية مضمار لتطاردها ومعركة لجولانها وتزاحمها، إلى أن يقطع ربطها عن البدن ولذاته، ويتخلص عن لدغ عقارب الطبع وحياته. ثم لما كان الخاطر أمرا حادثا فلا بد له من سبب، فإن كان سببه شيطانا فهو الوسوسة، وإن كان ملكا فهو الإلهام. وما يستعد به القلب لقبول الوسوسة يسمى إغواء وخذلانا، وما يتهيأ به لقبول الإلهام يسمى لطفا وتوفيقا. وإلى ذلك أشار سيد الرسل (ص) بقوله: في القلب لمتان (1): لمة من الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق، ولمة من الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق. وبقوله (ص): قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن.
أقسام الخواطر ومنها الإلهام
الخاطر ينقسم إلى ما يختلج بالبال من دون أن يكون مبدأ للفعل: وهي الأماني الكاذبة والأفكار الفاسدة، وإلى محرك الإرادة والعزم على الفعل، إذ كل فعل مسبوق بالخاطر أولا، فمبدأ الأفعال الخواطر، وهي تحرك الرغبة، والرغبة العزم، والعزم النية، والنية تبعث الأعضاء على الفعل، (والثاني) كما عرفت إن كان مبدأ للخير يكون إلهاما ومحمودا، وإن كان مبدأ للشر يكون وسواسا ومذموما.
(والأول) له أنواع كثيرة:
(منها) ما يرجع إلى التمني، سواء كان حصول ما يتمناه ممكنا أو محالا، وسواء كان المتمني حسنا محمودا أو قبيحا مذموما، وسواء كان عدمه مستندا إلى قضاء الله وقدره أو إلى تقصيره وسوء تدبيره فيخطر بباله أنه يا ليت لم يفعل كذا أو فعل كذا.
(ومنها) ما يرجع إلى تذكر الأحوال الغالبة، إما بدون اختياره أو مع اختيار ما، بأن يتصور ما له من النفائس الفانية فيستر به، أو يتخيل فقده فيحزن لأجله، أو يتفكر في ما اعتراه من العلل والأسقام واختلال أمر المعاش وسوء الانتظام، أو يذهب وهمه إلى حساب المعاملين أو جواب المعاندين وتصوير إهلاك الأعداء بالأنواع المختلفة من دون تأثير وفائدة.
(ومنها) ما يرجع إلى التطير، وربما بلغ حدا يتخيل كثيرا من الأمور الاتفاقية الدالة على وقوع مكروه بنفسه أو بما يتعلق به، ويضطرب بذلك، وإن لم تكن مشهورة بذلك عند الناس، وربما حدثت في القوة الوهمية خباثة وشيطنة تذهب غالبا إلى ما يؤذيه ويكرهه ولا يذهب إلى ما يريده ويسره، فيتخيل ذهاب أمواله وأولاده وابتلاءه بالأمراض والأسقام ووصول المكروه من الغير ومغلوبيته من عدوه، وربما حصل لنفسه نوع إذعان لهذه التخيلات لمغلوبية العاقلة للواهمة. فيعتريه نوع اضطراب وانكسار، وقلما يذهب مثل هذه القوة الوهمية فيما يشاء ويريده من تخيل الغلبة وحصول التوسعة في الأموال والأولاد، بحيث يحصل لنفسه نوع إذعان لها، فتنبسط وتهتز. وهذا شر الوساوس وأردؤها، وربما كان المنشأ لبعضها نوع اختلال في الدماغ. وجميع الأنواع المذكورة بأقسامها مفسدة للنفس يحدث فيها نوع ذبول وانكسار ويصدها عما خلقت لأجله.
(ومنها) ما يرجع إلى التفاؤل، وهذا ليس مذموما. وقد ورد من رسول الله (ص): إنه يحب التفاؤل، وكثيرا ما يتفاءل ببعض الأمور.
(ومنها) الوسواس في العقائد، بحيث لا يؤدي إلى الشك المزيل لليقين، فإنه قادح في الإيمان كما تقدم. ومرادنا بالوسوسة وحديث النفس في العقائد هنا ما لا يضر بالإيمان ولا يؤاخذ به -كما يأتي-.
تذنيب قد ظهر مما ذكر: إن أكثر جولان الخاطر إنما يكون في فائت لا تدارك له، أو في مستقبل لا بد وأن يحصل منه ما هو مقدر، وكيف كان هو تضييع لوقته، إذ آلة العبد قلبه وبضاعته عمره، فإذا غفل القلب في نفس واحد عن ذكر يستفيد به أنسا بالله أو عن فكر يستفيد معرفة الله ليستفيد بالمعرفة حبا لله، فهو مغبون، وهذا إن كان فكره ووسواسه في المباحات، مع أن الغالب ليس كذلك، بل يتفكر في وجوه الحيل لقضاء الشهوات، إذ لا يزال ينازع في الباطن كل من فعل فعلا مخالفا لغرضه، أو من يتوهم أنه ينازعه ويخالفه في رأيه، بل يقدر المخالفة من أخلص الناس في حبه حتى في أهله وولده ثم يتفكر في كيفية زجرهم وقهرهم وجوابهم عما يتعللون في مخالفتهم، فلا يزال في شغل دائم مضيع لدينه ودنياه.
المطاردة بين جندي الملائكة والشياطين في معركة النفس
قد عرفت أن الوسواس أثر الشيطان الخناس، والإلهام عمل الملائكة الكرام. ولا ريب في أن كل نفس في بدو فطرتها قابلة لأثر كل منهما على التساوي، وإنما يترجح أحدهما بمتابعة الهوى وملازمة الورع والتقوى، فإذا مالت النفس إلى مقتضى شهوة أو غضب وجد الشيطان مجالا فيدخل بالوسوسة، وإذا انصرفت إلى ذكر الله ضاق مجاله وارتحل فيدخل الملك بالإلهام. فلا يزال التطارد بين جندي الملائكة والشياطين في معركة النفس.
لهيولانية وجودها وقابليتها للأمرين بتوسط قوتيها العقلية والوهمية، إلى أن يغلب أحد الجندين ويسخر مملكة النفس ويستوطن فيها، وحينئذ يكون اجتياز الثاني على سبيل الاختلاس، وحصول الغلبة إنما هو بغلبة الهوى أو التقوى، فإن غلب عليها الهوى وخاضت فيه صارت مرعى الشيطان ومرتعه وكانت من حزبه، وإن غلب عليها الورع والتقوى صارت مستقر الملك ومهبطه ودخلت في جنده، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (خلق الله الإنس ثلاثة أصناف: صنف كالبهائم، قال الله تعالى: -لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها) الأعراف 179- وصنف أجسادهم أجساد بني آدم وأرواحهم أرواح الشياطين، وصنف كالملائكة في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله).
ولا ريب في أن أكثر القلوب قد فتحها جنود الشياطين وملكوها، ويتصرفون فيها بضروب الوساوس الداعية إلى إيثار العاجلة واطراح الآجلة.
والسر فيه: أن سلطنة الشيطان سارية في لحم الإنسان ودمه ومحيطة بمجامع قلبه وبدنه، كما أن الشهوات ممتزجة بجميع ذلك، ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الشيطان ليجري من بني آدم مجرى الدم)، وقال الله سبحانه - حكاية عن لسان اللعين -: (لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم) الأعراف 16، 17.
فالخلاص من أيدي الشياطين يحتاج إلى مجاهدة عظيمة ورياضة شاقة فمن لم يقم في مقام المجاهدة كانت نفسه هدفا لسهام وساوسهم وداخلة في أحزابهم.