الأقوال في الخير والسعادة والتوفيق بينها
جامع السعادات
2023-11-12 05:58
إن الغاية في تهذيب النفس عن الرذائل وتكميلها بالفضائل هو الوصول إلى الخير والسعادة. والسلف من الحكماء قالوا: إن "الخير" على قسمين مطلق ومضاف، والمطلق هو المقصود من إيجاد الكل، إذ الكل يتشوقه وهو غاية الغايات، والمضاف ما يتوصل به إلى المطلق. و"السعادة" هو وصول كل شخص بحركته الإرادية النفسانية إلى كماله الكامن في جبلته.
وعلى هذا فالفرق بين الخير والسعادة أن الخير لا يختلف بالنسبة إلى الأشخاص والسعادة تختلف بالقياس إليهم.
ثم الظاهر من كلام أرسطاطاليس إن الخير المطلق هو الكمالات النفسية والمضاف ما يكون معدا لتحصيلها كالتعلم والصحة، أو نافعا فيه كالمكنة والثروة.
وأما السعادة فعند الأقدمين من الحكماء راجعة إلى النفوس فقط، وقالوا ليس للبدن فيها حظ، فحصروها في الأخلاق الفاضلة، واحتجوا على ذلك بأن حقيقة الإنسان هي النفس الناطقة والبدن آلة لها، فلا يكون ما يعد كمالا له سعادة للإنسان. وعند المتأخرين منهم كأرسطو ومن تابعه راجعة إلى الشخص حيث التركيب، سواء تعلقت بنفسه أو بدنه، لأن كل ما يلائم جزءا من شخص معين فهو سعادة جزئية بالنسبة إليه، مع أنه يتعسر صدور الأفعال الجميلة بدون اليسار، وكثرة الأعوان والأنصار، والبخت المسعود، وغير ذلك مما لا يرجع إلى النفس، ولذا قسموا السعادة إلى ما يتعلق بالبدن من حيث هو كالصحة واعتدال المزاج، وإلى ما يتوصل به إلى إفشاء العوارف، ومثله مما يوجب استحقاق المدح كالمال وكثرة الأعوان، وإلى ما يوجب حسن الحديث وشيوع المحمدة، وإلى ما يتعلق بإنجاح المقاصد والأغراض على مقتضى الأمل، وإلى ما يرجع إلى النفس من الحكمة والأخلاق المرضية.
وقالوا كمال السعادة لا يحصل بدون هذه الخمسة، وبقدر النقصان فيها تنقص. قالوا وفوق ذلك سعادة محضة لا تدانيها سعادة، وهو ما يفيض الله سبحانه على بعض عباده من المواهب العالية، والإشراقات العلمية، والابتهاجات العقلية بدون سبب ظاهر.
ثم الأقدمون لذهابهم إلى نفي السعادة للبدن صرحوا بأن السعادة العظمى لا تحصل للنفس ما دامت متعلقة بالبدن، وملوثة بالكدورات الطبيعية، والشواغل المادية، بل حصولها موقوف عنها، لأن السعادة المطلقة لا تحصيل لها ما لم تصر مشرقة بالإشراقات العقلية، ومضيئة بالأنوار الإلهية، بحيث يطلق عليها اسم التام، وذلك موقوف على تخلصها التام عن الظلمة الهيولانية(1)، والقصورات المادية.
وأما المعلم الأول وأتباعه فقالوا إن السعادة العظمى تحصل للنفس مع تعلقها بالبدن أيضا، لبداهة حصولها لمن استجمع الفضائل بأسرها، واشتغل بتكميل غيره، وما أقبح أن يقال مثله ناقص وإذا مات يصير تاما، فالسعادة لها مراتب، ويحصل للنفس الترقي في مدارجها بالمجاهدة إلى أن تصل إلى أقصاها وحينئذ يحصل تمامها وإن كان قبل المفارقة، وتكون باقية بعدها أيضا.
ثم المتأخرون عن الطائفتين من حكماء الإسلام قالوا إن السعادة في الأحياء لا تتم إلا باجتماع ما يتعلق بالروح والبدن، وأدناها أن تغلب السعادة البدنية على النفسية بالفعل، إلا أن الشوق إلى الثانية، والحرص على اكتسابها يكون أغلب، وأقصاها أن تكون الفعلية والشوق كلاهما في الثانية أكثر، إلا أنه قد يقع الالتفات إلى هذا العالم وتنظيم أموره بالعرض.
وأما في الأموات فيختص بما يتعلق بالنفس فقط لاستغنائهم عن الأمور البدنية، فتختص السعادة فيهم بالملكات الفاضلة، والعلوم الحقة اليقينية، والوصول إلى مشاهدة جمال الأبد، ومعاينة جلال السرمد. وقالوا إن الأولى لشوبها الزخارف الحسية، ولكدورات الطبيعية ناقصة كدرة، وأما الثانية فلخلوها عنها تامة صافية، لأن المتصف بها يكون أبدا مستنيرا بالأنوار الإلهية، مستضيئا بالأضواء العقلية، مستهترا (2) بذكر الله وأنسه، مستغرقا في بحر عظمته وقدسه، وليس له التفات إلى ما سوى ذلك، ولا يتصور له تحسر على فقده لذة أو محبوب، ولا شوق إلى طلب شيء مرغوب، ولا رغبة إلى أمر من الأمور، ولا رهبة من وقوع محذور، بل يكون منصرفا بجزئه العقلي مقصورا همه على الأمور الإلهية من دون التفات إلى غيرها.
وهذا القول ترجيح لطريقة المعلم الأول، من حيث إثبات سعادة للبدن، ولطريقة الأقدمين من حيث نفي حصول السعادة العظمى للنفس ما دامت متعلقة بالبدن. وهو "الحق المختار" عندنا، إذ لا ريب في كون ما هو وصلة إلى السعادة المطلقة سعادة إضافية. ومعلوم أن غرض القائل يكون متعلقات الأبدان كالصحة والمال والأعوان سعادة أنها سعادة إذا جعلت آلة لتحصيل السعادة الحقيقية لا مطلقا، إذ لا يقول عاقل إن الصحة الجسمية، والحطام الدنيوي سعادة، ولو جعلت وسيلة إلى اكتساب سخط الله وعقابه، وحاجبة عن الوصول إلى دار كرامته وثوابه، وكذا لا ريب في أن النفس ما دامت متعلقة بالبدن مقيدة في سجن الطبيعة لا يحصل لها العقل الفعلي، ولا تنكشف لها الحقائق كما هي عليه انكشافا تاما، ولا تصل إلى حقيقة ما يترتب على العلم والعمل من الابتهاجات العقلية واللذات الحقيقية. ولو حصلت لبعض المتجردين عن جلباب البدن يكون في آن واحد ويمر كالبرق الخاطف.
هذا وقد ظهر من كلمات الجميع أن حقيقة الخير والسعادة ليس إلا المعارف الحقة، والأخلاق الطيبة، والأمر وإن كان كذلك من حيث أن حقيقتهما ما يكون مطلوبا لذاته، وباقيا مع النفس أبدا وهما كذلك، إلا أنه لا ريب في أن ما يترتب عليهما من حب الله وأنسه، والابتهاجات العقلانية، واللذات الروحانية مغاير لهما من حيث الاعتبار، وإن لم ينفك عنهما، ومطلوبيته
لذاته أشد وأقوى، فهو باسم الخير والسعادة أولى وأحرى، وإن كان الجميع خيرا وسعادة. وبذلك يحصل الجمع بين أقوال أرباب النظر والاستدلال، وأصحاب الكشف والحال، واخوان الظاهر من أهل المقال، حيث ذهبت (الفرقة الأولى) إلى أن حقيقة السعادة هو العقل والعلم، و (الثانية) إلى أنها العشق، و (الثالثة) إلى أنها الزهد، وترك الدنيا.
كيف تحصل السعادة؟
لا تحصل السعادة إلا بإصلاح جميع الصفات والقوى دائما، فلا تحصل بإصلاحها بعضا دون بعض، ووقتا دون وقت، كما أن الصحة الجسمية، وتدبير المنزل، وسياسة المدن لا تحصل إلا بإصلاح جميع الأعضاء والأشخاص والطوائف في جميع الأوقات، فالسعيد المطلق من أصلح جميع صفاته وأفعاله على وجه الثبوت والدوام بحيث لا يغيره تغير الأحوال والأزمان، فلا يزول صبره بحدوث المصائب والفتن، ولا شكره بورود النوائب والمحن، ولا يقينه بكثرة الشبهات، ولا رضاه بأعظم النكبات، ولا إحسانه بالإساءة، ولا صداقة بالعداوة.
وبالجملة لا يحصل التفاوت في حاله، ولو ورد عليه ما ورد على أيوب النبي عليه السلام أو على برناس الحكيم، لشهامة ذاته، ورسوخ أخلاقه وصفاته، وعدم مبالاته بعوارض الطبيعة، وابتهاجه بنورانيته وملكاته الشريفة. بل السعيد الواقعي لتجرده وتعاليه عن الجسمانيات خارج عن تصرف الطبائع الفلكية، متعال عن تأثير الكواكب والأجرام الأثيرية فلا يتأثر عن سعدها ونحسها، ولا ينفعل عن قمرها وشمسها. أهل التسبيح والتقديس لا يبالون التثليث والتسديس، وربما بلغ تجردهم وقوة نفوسهم مرتبة تحصل لهم ملكة الاقتدار على التصرف في مواد الكائنات، ولو في الأفلاك وما فيها، كما حصل لفحل الأنبياء وسيد الأوصياء صلوات الله عليهما وآلهما من شق القمر ورد الشمس.
وقد ظهر مما ذكر أن من يجزع بورود المصائب الدنيوية، ويضطرب من الكدورات الطبيعية، ويدخل نفسه في معرض شماتة الأعداء وترحم الأحباء، خارج عن زمرة السعداء، لضعف غريزته وغلبة الجبن على طبيعته، وعدم نبله بعد إلى الابتهاجات التي تدفع عن النفس أمثال ذلك.
ومثله لو تكلف الصبر والرضا وتشبه ظاهرا بالسعداء لكان في الباطن متألما مضطربا، وهذا ليس سعادة لأن السعادة الواقعية إنما هو صيرورة الأخلاق الفاضلة ملكات راسخة بحيث لا تغيرها المغيرات ظاهرا وباطنا.
بلغنا الله وجميع الطالبين إلى هذا المقام الشريف.
غاية السعادة التشبيه بالمبدأ
صرح الحكماء بأن غاية المراتب للسعادة أن يتشبه الإنسان في صفاته بالمبدأ: بأن يصدر عنه الجميل لكونه جميلا، لا لغرض آخر من جلب منفعة، أو دفع مضرة، وإنما يتحقق ذلك إذا صارت حقيقته المعبر عنها بالعقل الإلهي والنفس الناطقة خيرا محضا، بأن يتطهر عن جميع الخبائث الجسمانية، والأقذار الحيوانية، ولا يحوم حوله شيء من العوارض الطبيعية، والخواطر النفسانية، ويمتلئ من الأنوار الإلهية، والمعارف الحقيقية، ويتيقن بالحقائق الحقة الواقعية، ويصير عقلا محضا بحيث يصير جميع معقولاته كالقضايا الأولية، بل يصير ظهورها أشد، وانكشافها أتم، وحينئذ يكون له أسوة حسنة بالله سبحانه، في صدور الأفعال وتصير إلهية أي شبيهة بأفعال الله سبحانه في أنه لصرافة حسنة يقتضي الحسن، ولمحوضة جماله يصدر عنه الجميل من دون داع خارجي، فتكون ذاته غاية فعله، وفعله غرضه بعينه، وكلما يصدر عنه بالذات وبالقصد الأول فإنما يصدر لأجل ذاته، وذات الفعل وإن ترشحت منه الفوائد الكثيرة على الغير بالقصد الثاني وبالعرض.
قالوا وإذا بلغ الإنسان هذه المرتبة فقد فاز بالبهجة الإلهية، واللذة الحقيقية الذاتية، فيشمئز طبعه من اللذات الحسية الحيوانية، لأن من أدرك اللذة الحقيقية علم أنها لذة ذاتية، والحسية ليست لذة بالحقيقة لتصرمها ودثورها وكونها دفع وألم.
وأنت خبير بأن هذا التصريح محل تأمل لمخالفته ظواهر الشرع فتأمل.