الصدق وصناعة الثقة
من المحفزات الأخلاقية
محمد علي جواد تقي
2023-02-12 05:53
"انظر إلى ما بلغ به علي، عليه السلام، عند رسول الله، صلى الله عليه واله وسلم، فألزمه. فإنّ عليّاً، عليه السلام، إنّما بلغ ما بلغ به عند رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بصدق الحديث وأداء الأمانة".
الإمام الصادق، عليه السلام، متحدثاً الى إصحابه
لنتصور يوماً يكون الناس جميعاً صادقون في حديثهم؛ بدءاً من أفراد الأسرة، ومن ثمّ الجيران وأهل الحي السكني، ثم السوق، وحتى الدوائر الرسمية ومرافق العمل المختلفة ومؤسسات التعليم، وصولاً الى المسؤولين في الدولة، ليوم واحد فقط.
يسأل الأب ابنه –مثلاً- هل راجعت واجباتك المدرسية؟ فيجيب بالنفي، ليتخذ الأب اجراءاته التحفيزية، او يبدأ بمعالجة المشكلة في أجواء ودية، أو أن يسأل المشتري في السوق؛ هل السلعة جيدة؟ فلا يجيب البائع بالإيجاب فوراً، إنما يشرح الانواع الموجودة لديه بأسعار مختلفة، فيشعر المشتري بالأمان والاستقرار في عملية الاختيار بما يصونه من الغبن، أو أن يسأل الطالب في الجامعات الأهلية: هل بالإمكان تخفيض أجور الدراسة مراعاة للظروف المعيشية القاسية، فيأتي الجواب بالإيجاب، كيف سيكون الوضع النفسي لهذا الطالب؟ وكيف سيكون إذا جاء الجواب بالنفي؟
في جميع مرافق الحياة يمثل الصدق أحد أعمدة الأمن النفسي لافراد المجتمع، وهي صفة مثل غيرها من الصفات الحميدة يرجوها الجميع لانفسهم، ولا يحب أحداً أن يُقال له: "كاذب" وإن كان كذلك، انعكاساً للفطرة السليمة في نفس كل انسان، كما هو الحال في الأمانة، والتواضع، والكرم، والشجاعة، فلا يقبل أحد أن يقال له؛ إنك خائن، ولا؛ متكبّر، ولا بخيل، ولا جبان، وإن كانت تتجسد فيه هذه الصفات، لأن حالة الأنس بالآخر تستوجب التحلّي والتقمّص بالصفات الحسنة والحميدة لتحقيق أفضل النتائج في العلاقات البينية والاجتماعية.
الكذب ومحاولات التبييض!
يتصور البعض أن من المستحيل الصدق على طول الخط العلاقات الاجتماعية، لاسيما في السوق وأجواء العمل، والمبررات مهما تشبثت بالواقع الاقتصادي والسياسي الخاطئ من أساسه، فهي لا تصمد أمام عواقب الكذب، لذا نلاحظ ثمة محاولات حثيثة لتأسيس مفهوم أخلاقي جديد يخفف من بشاعة الكذب وسوداويته فيجعله "كذبة بيضاء"! أي؛ تخفيف سواد هذه الرذيلة ببياض مصلحة او منفعة معينة، وبذلك يضمن التخلص من أضرار نذكر منها اثنين أوردها سماحة المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي في كتابه القيّم: "الفضيلة الاسلامية":
الضرر الأول: الخسارة المالية في السوق اذا صدق في قوله بسعر البضاعة التي اشتراها من المصنع او الشركة، بينما الكذبة البيضاء ستطلق يده في وضع السعر المناسب له.
الضرر الثاني: الخسارة المعنوية، ومنها؛ خسران ماء الوجه عندما يُسأل عمن ارتكب هذا الخطأ في مكان العمل بهذه المؤسسة او تلك، فان الكذبة البيضاء ربما تنجيه من موقف محرج، و ربما من منقصة في شخصيته، ومن ثمّ تهديداً لمستقبله المهني.
ربما تضمن الكذبة البيضاء مصلحة شخصية بيد أنها تهدد المصلحة العامة بحالة عدم الثقة وفقدان المصداقية، والأخطر من هذا؛ استسهال هذه الحالة بالذات، حتى تبدو المسألة عادية، ولا يخجل من يُتهم بفقدان المصداقية في عمله –مثلاً- لانه يتأبط تبريراً من افراد آخرين في المجتمع اختاروا نفس الطريقة في التعامل، وهو تبرير يحتاج هو بحد ذاته الى مصداقية واقعية، بيد أن تعميم الخطأ يخفف من وطأة الذنب نفسياً، فهو يتهم الآخرين بالكذب وعدم المصداقية معه مما يجبره على فعل الشيء نفسه بالمقابل، لكن ربما يكون هؤلاء الآخرين في طريقهم لتنمية ملكة الصدق في نفوسهم، ثم صنع المصداقية في التعامل البيني لما يلمسونه من ضرر كبير يلحقه الكذب بجدار الثقة فيما بين الافراد، والأمان من نتائج العلاقات الاجتماعية.
الصدق يحتاج لثمن
أكد العلماء أن الخصال الحميدة تحتاج الى تنمية في نفس الانسان لتتحول الى ملَكَة في نفسه، فهي ليست غريزة أو نزعة جاهزة يتناولها صاحبها وقتما شاء لدى أبسط إثارة بمساعدة الهوى المتحفّز دائماً في النفس، "فالصدق ملكة تحتاج تنمية بينما الكذب استرسال لا يحتاج إلا لترك النفس لهواها"، (كتاب؛ الفضيلة الاسلامية).
وهنا تحديداً يكمن الاختبار في قوة النفس أمام الرغبات والنزعات من خلال عمليات ترويض، وتهذيب أرسى دعائمها أهل البيت، عليهم السلام، في تراث زاخر من الروايات والمواقف والسيرة المضيئة خلال وجودهم بين أوساط المجتمع آنذاك، فالامام الصادق، عليه السلام، يدعونا الى بذل جهد خاص لتنمية ملكة الصدق في حديثه لشيعته بأن "لاتنظروا الى طول ركوع الرجل، وسجوده، فان ذلك شيء اعتاده، ولو تركه لاستوحش لذلك، ولكن انظروا الى صدق حديثه، وأداء أمانته".
وفي حديث أخر يحكم الإمام، عليه السلام، الربط بين الصدق وبين الإيمان كمفهوم واسع وشامل، بأن "أربع من كُنّ فيه كمُل إيمانه، ولو كان ما بين قرنه الى قدمه ذنوب لم ينقصه ذلك؛ الصدق، وأداء الأمانة، والحياء، وحسن الخُلق".
فاذا أردنا أن تسود الثقة في علاقاتنا الاجتماعية، علينا بذل مجهود نفسي خاص يقلل من النظر الى المصلحة الخاصة مقابل إعطاء الأهمية للمصلحة العامة لنضمن لانفسنا المصلحة الحقيقية البعيدة عن الخسارة والذل والهوان، وليست المصلحة الوهمية في خيال البعض، وقد صدق رسول الله حيث قال: "النجاة في الصدق".