اخلاقيات الربح والخسارة.. بين اليسر والعسر

علي حسين عبيد

2015-05-24 09:59

(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، نص قرآني بالغ الوضوح، يؤكد أن الله تعالى يريد التخفيف من وطأة مصاعب الحياة على الانسان، ولكن هذا لا يعني أن ينتفي دور الانسان او مسؤوليته ازاء ذاته والآخرين، فالتسهيل الالهي، لا يعني إعفاء الناس من مسؤولياتهم، واتخاذهم الكسل والخمول مهجا لحياتهم، فلابد أن يبقى الانسان في جميع الحالات، ضاربا في الارض، باحثا عن رزقه، وساعيا الى الافضل دائما، في الفكر والعمل، إذ أن سجية الانسان هي الطموح الدائم نحو الافضل، وهذا امر مشروع تماما طالما بقي ضمن حدود الضوابط المتعارف عليها، حتى لا يتحول التنافس المشروع بين الناس الى حالات صراع مرفوضة، تضر بالانسان ولا تفيده في شيء قط.

اليسر يمكن أن يكون منهج حياة للإنسان، بالاضافة الى كونه عامل مهم لتحقيق الربحية التي يبحث عنها كل من يجدّ ويسعى لتحقيق النجاح المادي (الاقتصادي) او الفكري والمعنوي ايضا، فصاحب المشروع التجاري او الانتاجي، كبر هذا المشروع ام صغر، لابد أن يتحلى باسلوب اليسر والتفاهم والتسهيل في منهج تعامله مع الاطراف الاخرى التي يتعامل معها، فهو مثلا ينبغي ان ينتهج منهج اليسر مع الزبائن، ويلجأ الى الاسلوب نفسه في تعامله مع البائع او مصدر السلع التي تديم مشروعه، فمن يمتلك مشروعا انتاجيا يحتاج الى مواد اولية حتى يديم انتاجه السلعي، لذلك علاقاته ستكون في اتجاهين ومع طرفين، إنه يشتري ويبيع في الوقت نفسه، يشتري المواد التي يحتاجها للانتاج، وبعد ان يصنّع السلعة يبدأ بالشروع في بيعها، لذا فهو يقوم بالشراء والبيع في وقت واحد.

وهذه العملية توجب عليه نوعا من التعامل بين الطرفين، يديم ارباحه ضمن ضوابط مراعاة الآخرين، أي اعتماده على منهج اليسر والتسهيل مع الاطراف التي يتعامل معها، بعيدا عن منهج العسر الذي يضر كثيرا بالإنسان، على صعيد التعامل المادي او حتى الاخلاقي وما شابه، فاليسر هنا هو مفتاح الحل دائما، وهذا لا يعني أن يأتي الانسان على نفسه اكثر من المطلوب، ولا يعني ان يخسر الانسان حتى يكسب الآخرين، بل يمكن تحقيق الربحية المشروعة، ولكن وفق منهج اليسر وليس العسر.

يقول الامام علي عليه السلام: (الْتَّسَهُّلُ يُدِرُّ الأَرْزَاقَ).

فالتسهّل يدرّ الأرزاق، بمعنى أنّ الرفق بالأهل والاصدقاء والمقربين، وكذلك أطراف التعامل الاخرى، والتساهل معهم وعدم التضييق عليهم، وكذلك التساهل في المعاملات وعدم التشدّد فيها يبعث على درّ الأرزاق وزيادتها وسعتها، هنا نلاحظ أن الرزق يرتبط بصورة واضحة مع طريقة او منهج التعامل مع الزبائن، او الاطراف التي تشترك في عملية الانتاج والبيع والشراء وكافة التعاملات الاخرى، فالأصل أن يبقى اليسر هو الاطار الذي يمضي بالانسان في طريق الربحية المشروعة.

ولعل الامور ستكون جيدة ومناسبة، عندما يتمكن الانسان من تحقيق الربحية المطلوبة، مع احتفاظه في الوقت نفسه، باسلوب لائق يقوم على احترام الاخر والتعامل بانسانية معه، فليس كسب المال هو الهدف الاول والاخير، انما ينبغي أن يتحقق شرط الربحية في اطار اليسر والمنفعة المتبادلة لجميع الاطراف التي تدخل في عملية البيع والشراء والانتاج وما شابه، واذا تمت جميع التعاملات في إطار اليسر والابتعاد عن العسر، فإن الجميع سوف يربحون، ليس في الجانب المادي فحسيب، وانما يزدهر منهج التعامل الانساني بين الجميع، وفي هذه الحالة سوف تتحقق المنفعة لجميع الاطراف.

من هنا فإن العسر غالبا ما يكون حجر عثرة في طريق التعاملات التجارية وحتى الاخلاقية، ويمنع من تطورها وديمومتها، نعم من حق صاحب المشروع الانتاجي، وصاحب المصنع أن ينجح في عمله وان يحقق ارباحا أعلى وافضل، ولكن كل هذا ينبغي ان يتم في اطار منهج اليسر والابتعاد الكلي، عن العسر الذي يتسبب بخسائر كبيرة لجميع الاطراف، بما فيها صاحب الانتاج الذي ربما يظن أنه باعتماده منهج العسر سوف يحقق ارباحا مضافة في المجال المادي، ولكنه في الغالب يكون عرضة لخسارة مادية ومعنوية بسبب تمسكه بالعسر كطريقة للتعامل مع الاخرين، لأن العسر في الحقيقة يعد بوابة لسوء الاخلاق.

كما نقرأ ذلك في قول الامام علي عليه السلام: (الْعُسْرُ يُفْسِدُ الأَخْلاقَ).

فالعُسر والشدّة كما يقول اهل العلم يُفسد الأخلاق، أي أنّ التشديد على الأهل والمقربين، أو على مَن يطلب من الشخص شيئاً، أو على من يتعامل معه، يُفسد كثيراً من الأخلاق، فيجب الاحتراز منه ويجب إبداء قدر من التساهل والتسامح في هذه الأُمور. ويمكن أن يكون المراد أنّ ضيق الحال وعُسر المعيشة تفسد الأخلاق، فإنّ شوهد من شخص مُعسر سوءُ خُلق فيستحسَن مسامحته، وإذا سعى شخص إلى الخلاص من الإعسار وضيق الحال، فمثل هذا السعي يكون مشروعا وينبغي التشجيع عليه بصورة دائمة حتى يندمج مع منظومة السلوك المجتمعي.

وهكذا نلاحظ الفرق الشاسع بين المنهجين في السلوك والتفكير، ونعني بهما منهج اليسر، ومنهج العسر، كذلك يمكننا الفرز بين النتائج التي يتمخض عنها المنهجان في التطبيق العملي، لاسيما ان منهج اليسر يرتبط بمنظومة مقاربة له كلها تفيد بنجاحات مضمونة في هذا المجال/كما هو الحال مع منهج اللين والتسامح والرفق وسوى ذلك من مناهج السلوك والتفكير التي تقدّم التعامل الانساني على الربحية المادية، ولا تلغيها، بمعنى ان الربحية المادية شرط وحق ينبغي ان يكون مضمونا لجميع الاطراف ولكن ضمن الاطار الانساني الذي يضمن الحفاظ على مكاسب مناسبة للجميع، وغالبا ما تفضي منظومة اليسر والقيم المقاربة لها نحو الصواب.

وهذا ما نقرأه بالنص، في قول الامام علي عليه السلام: (الْرِّفْقُ مِفْتاحُ الصَّوابِ).

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا