لاٰ يَسُودُ مَنْ لاٰ يَحْتَمِلُ إخْوانَهُ
كريم المحروس
2018-12-01 04:29
في معنى "ساد": عَظُمَ وعمَّ وحَكَمَ وهَيْمَنَ. وفي معنى "احتمل": صبر وتَجَلَّدَ وأَعْذَرَ وعفا.. فمن لا يصبر على إخوانه ولا يعذر ولا يعفو؛ لن يكون محل تعظيم وتفخيم وهيمنة ووجاهة..
فلا تخلو حركة ذاتية أو موضوعية فينا من احتمال، وكأن الاحتمال إجراء نتبعه لسد نقص فينا أو لتعويض عنه.. فأنت تمشي على الأرض لتطبع عليها خطواتك؛ فأنت إذن تحتمل فتبذل من جسمك طاقة من أجل تكوين حركة المشي.. أنت تحمل جسدا مثقلا بالكتلة والوزن ومقيدا بالزمن، ولست مجردا منها؛ فأنت بذلك تحتمل لتسود وتتجاوز هذا التحدي..
كل تصرفاتنا الطبيعية في اليقظة أو في المنام لا تتم بلا احتمال. نحن إذن صابرون محتملون بالعادة في الكثير من حركتنا منذ الولادة!
إننا من الصابرين المحتملين من غير أن نشعر بذلك بحكم العادة وما جبلنا عليه.. بعض تصرفاتنا بحاجة إلى نسبة عالية من الاحتمال. منها ما تعلق بعلاقاتنا مع محيطنا الاجتماعي. فقد نحتمل في الصداقات برضا منا، وقد نحتمل مجبرين، وقد لا نحتمل مطلقا.
ومن يحتمل ويصبر ويتجلد راضيا هانئا مستقرا فهو من أولئك الذين اعتادوا التماس عذر للإخوان كلما اقترفوا خطأ بحقه، أو من أولئك الذين يتبعون هذا العذر بالعفو من غير مِنَّة.. فلا إخوان بلا احتمال.. ولا حتى وجاهة أو سيادة أو زعامة أو هيمنة بلا احتمال!
الأخوّة الصادقة هي التي يتبادل فيها الإخوان الاحتمال بلا تكلف، وهل يسود نظام المجتمع الاستقرار إلا بالاحتمال.. ومن غير الاحتمال تسود الفوضى ويعم السخط ويكثر الهالكون بموت الفجأة وما أشبه.
وربما نندهش لاستقرار مجتمع مشهور بحدية المزاج، بناء على ظنون عندنا بغياب صفة الاحتمال!، فهل ذلك شذوذ عن القاعدة؟!..إن الظن لا يغني من الحق شيئا: المجتمع حاد المزاج يؤسس بطبعه لثقافة تفاهم فيما بين عناصره نظنها مزاجا حادا وهي ليست كذلك!.
قد يستعمل المجتمع حاد المزاج لهجة ثقيلة المعاني في العلاقة بين الإخوان ولكن علاقاته هذه تبقى مستقرة!.. الحدّية هنا ثقافة خاصة لا تخلو من لغة تفاهم واحتمال.. فإن طرأ على هذا اللون من المجتمعات فرد من خارج ثقافته؛ تنافر وتخاصم حتى يضطلع الفرد الوافد الطارئ بثقافة هذا المجتمع!
الاحتمال قبر العيوب ولا حد زمني يستغنى فيه عن الاحتمال، الحاجة إلى الاحتمال تكون من المهد إلى اللحد.. وفي الأغلب الأعم يصبح الاحتمال عادة لا تتطلب عناء فكر لإعمالها أو حتى لإدراكها..
الإيمان والتقوى بحاجة إلى احتمال رياضة خاصة.. الاحتمال لا يفارق عاقل مؤمن.. "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ". فلو قررت في يوم من الأيام تدوين المواقف التي احتملت فيها، ومنها ما كان عادة من الاحتمال؛ ستعجز عن تدوين وقائع ساعة من حياتك كنت فيها محتملا.. الاحتمال مراتب نجتازها، وتصبح مثقلة عند كل مخمصة أو أزمة تعترض مسيرة حياتنا.
فمن خبرات واقعنا اليومي، وعلى صفحات التواصل الاجتماعي متعددة الثقافات أو الأعراق أو الأديان أو الطوائف أو الاتجاهات الفكرية والسياسية؛ تختلف الأمزجة.. فإن افتقدنا الإحتمال؛ تحولت هذه الصفحات إلى مضمار خصومة وكراهية.
إننا نخشى من تحول فرص التواصل المتاحة إلينا إلى غصص نأسف على مرورها بلا ثمرة نعتز بها ونفخر.