الطبيعة البشرية والأخلاق

بروجيكت سنديكيت

2018-10-03 04:40

ماسيمو بيليغوتشي

 

نيويورك — هل للطبيعة البشرية وجود؟ إن الجواب على هذا السؤال يحمل مضامين عدة بالنسبة لمن تهمه الأخلاق. ففي زمن أصبح يُعرَف بانعدام الحس الأخلاقي في القيادة السياسية وتراجع القيم الاجتماعية، لم يكن يوما التفكير في جوهر البشرية أمرا مهما أبدا.

إن المفهوم الفلسفي "للطبيعة البشرية" له تاريخ طويل. إذ أول من بدأ دراستها في الثقافة الغربية هو سقراط، في القرن الخامس قبل الميلاد، لكن أرسطو هو من قال أن الطبيعة البشرية لها ميزات فريدة من نوعها- خاصة، حاجة الناس للاجتماع مع بعضهم البعض وقدرتنا على التفكير. وبالنسبة لرواقيي اليونان الهلنستية، فإن الطبيعة البشرية هي من أعطى الحياة معنى، وهي من ساهم في تبَنِّيهم للكوسموبوليتية والمساواة.

وكان الفلاسفة القدماء في الصين مثل كونفوشيوس ومونشيوس يعتقدون أن البشر طيِّب بالفطرة، بينما كان شونزي يعتقد أن الإنسان بطبيعته شرير ويفتقر للأخلاق. وفي التقاليد اليهودية والمسيحية والإسلامية، تَفسُد الطبيعة البشرية بالأساس بسبب ارتكاب الذنوب، التي يمكن التكفير عنها من خلال عبادة الله، الذي خلقنا في أحسن صورة.

وخلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وسَّع الفلاسفة المعاصرون هذه الأفكار في الغرب. إذ قال الفيلسوف الإنكليزي طوماس هوبز، أن طبيعتنا تقودنا إلى "العزلة، والفقر، والشر، والوحشية وحياة قصيرة"، الأمر الذي يجعلنا في حاجة إلى سلطة سياسية قوية ومركزة (ما يسمى باللوثيان).

وبالمقابل، كان جون جاك روسو يعتقد أن الطبيعة البشرية مَرِنة، لكننا لسنا بالفطرة قادرين على التفكير والنطق بلغة ما، أو الاتصال بالبشر. واختتم كلامه قائلا، أن عدم التوافق بين فطرتنا والحضارة الجديدة هو مصدر عدم سعادتنا، وبهذا الكلام شجع بالحرف الواحد على الرجوع إلى الطبيعة. واعتقد دافيد هوم، وهو من كان دائما حساسا ومعتدلا، أن طبيعة البشر مزيج من الغيرية والأنانية، وأن مزيجا كهذا يمكن أن يتغير جزئيا للأحسن (أو لِلأسوأ) بسبب الثقافة.

ولم يتمكن "الماهيون الجوهريون" في الماضي أن يدافعوا عن أفكارهم المتعلقة بالطبيعة البشرية بسبب أعمال تشارلز داروين التي أنجزها في منتصف القرن التاسع عشر. إذ كانت فكرة أن البشر لديهم مجموعة من الخصائص هم فقط من يمتلكونها، في خلاف مع التطور الدارويني البطيء والتدريجي. وبما أن شكل الإنسان تطور بعد أن كان من فصيلة الرئيسيات، فليس هناك فرق واضح بين أيديولوجيتنا وأيدولوجية الأصناف الاخرى.

إذا، فحمى النقاش الفيلسوفي بشأن الطبيعة البشرية لازالت تتواصل، مصحوبة بأحدث ما توصلت إليه البيولوجيا. واليوم، يقول بعض الفلاسفة أن ما يَعتِقدَاه روسو وداروين يعني أن الطبيعة البشرية بنفسها غير موجودة، وأنه رغم أن البيولوجيا قد تضع قيودا على الجسم، فإنها لا تقيد عقولنا وإرادتنا.

ويقول أخصاء علم النفس التطوري، بل حتى علماء الأعصاب أن هذا كلام فارغ. إذ أن الفكرة التي فهموها من داروين (وجزئيا من روسو) هي أننا لسنا مرنين في السياق الحديث- أي أننا في الأساس، قِرَدَة بلستوسينسية (ذي صلة بالعصر الحديث) وجدت نفسها مجهزة بالهواتف النقالة والأسلحة النووية.

وبصفتي عالما بيولوجيا تطوريا وفيلسوفا في العلوم، رأيي هو أن الطبيعة البشرية موجودة بالتأكيد، لكنها ليست مبنية على "الجوهر" أيا كان نوعه. بل إن الصنف الذي ننتمي إليه، يتميز بمجموعة من السمات الحيوية والمتطورة والتي تعتبر على مستوى الإحصائيات مثالية بالنسبة لسُلاَلتنا، لكنها ليست متواجدة لدى كل فرد، كما أنها ليست غائبة لدى الأصناف الأخرى.

لماذا يعتبر هذا الأمر مهما لأي شخص ليس عالما أو فيلسوفا؟ يدور بذهني سببين إيجابيين على الأقل. واحد منهما شخصي؛ والآخر سياسي.

أولا، إن طريقة تأويل الطبيعة البشرية لها انعكاسات واسعة النطاق على الأخلاق، حسب الدراسة اليونانية الرومانية القديمة حول الطريقة التي يجب أن نعيش بها حياتنا. إذ بالنسبة لشخص يؤمن بالمفهوم اليهودي والمسيحي والإسلامي للطبيعة البشرية، من الطبيعي أن يعبد الله ويسترشد بالوصايا الدينية. بينما بالنسبة لشخص يتبنى الفلسفة الوجودية على غرار جون بول سارتر، وسيمون دو بوفواغ، فقد يؤمن أنه لأن "الوجود يسبق الجوهر"، فنحن أساسا أحرار في تشكيل نمط حياتنا حسب اختياراتنا، ولا نحتاج مساعدة الله في ذلك.

وعلاوة على هذا، تُؤثر الآراءُ بشأن الطبيعة البشرية على الأخلاق. ونعيش اليوم فوضى أخلاقية. فقد وصفت دراسة أنجِزَت مؤخرا في الولايات المتحدة الأمريكية، ولاية دونالد ترامب "بالأكثر فسادا من الناحية الأخلاقية" في تاريخ أمريكا، بينما أشارت دراسة غالابس السنوية حول المواقف اتجاه الأخلاق في أمريكا، إلى تراجع مستقر في القيم الاجتماعية. وإذا توقفنا جميعا لِلَحظة من أجل النظر فيما توصلنا إليه بشأن الطبيعة البشرية، يمكننا أن نفهم جيدا اعتقاداتنا- وأيضا، اعتقادات الآخرين.

وشخصيا، فأنا أميل إلى أخلاق المذهب الطبيعي للرواقيين، الذين يعتقدون أن الطبيعة البشرية تقيد وتقترح ما يمكننا أو ينبغي علينا فعله- ولا تحدده بصرامة. لكن بغض النظر عن ميولاتنا الدينية والفلسفية، فالتفكير في هويتنا- سواء الجانب البيولوجي منها أو غيره- طريقة جيدة لتحمل مسؤولية تصرفاتنا. ولا حاجة للقول، أن العديد مِمَّن يعيش معنا سيستفيد من تمرين كهذا.

ماسيمو بيليغوتشي، أستاذ الفلسفة الإيراني في كلية مدينة نيويورك. ومؤلف كتاب "كيف تكون رواقيًا: استخدام الفلسفة القديمة للعيش في حياة حديثة"
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي