المجتمعات المتمدنة: عدمية الانحراف وهدفيّة الاصالة
عبد الرزاق عبد الحسين
2018-09-16 04:40
لكل كائن يدبّ على هذه الأرض هدف، حتى الكائنات الصغيرة لا تُستثنى من ذلك، فما بالك بالإنسان وهو سيد الكائنات، إذاً من باب أولى أن يكون هدف الإنسان من الحياة جليّا لا يُبارى ولا يُدانى، ولكن هل جميع الكائنات البشرية تبالي بأهداف محددة في حياتها؟، نعم الجميع يبالي ويبحث ويكدّ حتى يطال ما يرومه من نتائج إلا صنف واحد من البشر، فمن هو هذا الصنف، إنه الإنسان المعانق للرذيلة ويسمى أيضا العاصي ومرتكب الأخطاء الشرعية الأخلاقية وسواها، فمثل هذا النوع من البشر لا وجود للهدفية في حياته!.
لماذا؟؟
إن من تأخذهُ الملذّات إلى مغرياتها ويتلاشى في دوامتها، لم تعد له فرصة الوعي كي يحدد له هدفاً ما في حياته، لأنه منشغل بإشباع رغباته ومنصاع إلى نفسه المتسلطة التي لا تكتفي بمقدار معين من اللذة، بل ترغب دائما بالمزيد، فالإنسان العاصي يحمل نفسا ترتكز على الدناءة في كينونتها ومتطلباتها وديمومتها، لهذا لن تبقى له فرصة لتحويل حياته إلى مشروع نافع له أو للناس، إنه كمن لا يطمح العيش أكثر من اللحظة الآنية، ولا يُبصر أبعد من لحظات الملذات التي يعيشها، وهذا هو الخطر المحدق بمن يغوص في الرذيلة لدرجة أنه يجهل ما هو هدفه من هذه الحياة.
للإمام الشيرازي في كتابه (من معاناة الإسلام والمسلمين) كلمة دقيقة يقول فيها: (الإنسان المشغول بالرذائل يجهل حتى هدفه في الحياة).
هنا تتركز المضاعفات الخطيرة للرذائل، إنها تشل إرادة الفرد، وينتقل ذلك بالتدريج إلى الجماعة، ومن ثم إلى المجتمع كله، فالتهتك والانحلال مثل وباء يلمّ بالجسد فيحيله إلى الخمول ويجعل منه حطاماً لا رجاء منه، لهذا ركّز مفكرو الإسلام وخطباء المنبر الحسيني ونادى المصلحون مرارا وتكرارا بوجوب تقليص أسباب التهتك وتطويق بؤر الرذيلة، وانتشال المجتمع من غول الانحلال الأخلاقي الذي يفتك اليوم بالمجتمعات الغربية.
وما ينتج عن الغوص في الرذيلة لا ينتهي عند تدمير هدفية الإنسان في الحياة، إنها تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، فمن يعاقر الرذائل ويصادقها ويدمن تعاطيها سوف بشجّع الطواغيب على ركوبه والاستخفاف به، وضرب حرياته، وتدمير حقوقه ومن ثم تحويله إلى صفر على الشمال، كائن لا قيمة له على الإطلاق، فالحاكم المتجبر ما كان له أن يكون متجبرا لولا خضوع الرعية له، وهؤلاء ما كان لهم أن يخضوا إلا بعد أن روّضتهم الرذيلة وسلبت إرادتهم، ومحت أهدافهم، وأبرزت لهم ملذاتهم وحدها، فغابوا فيها وغُيِّب الهدف من وجودهم.
يصف السيد محمد الشيرازي هذا المشهد بكلمات معبّرة وتصوير دقيق: (إذا اتصف أبناء المجتمع بالرذائل والصفات غير الأخلاقية فإن هذه الصفات نفسها تكون كافية لإهلاكهم وتسليط الجبابرة عليهم، لأن طبيعة الإنسان العاصي أن يكون مستغرقاً في الملذّات والهوى، ولا يعلم كيف تجري الأمور السياسية والاقتصادية أو غيرها/ المصدر السابق).
وبعض الخطايا لا تتوقف نتائجها الخطيرة عند حدود فاعلها أو عند من يرتكبها، فتتعدى ذلك إلى بقايا المجتمع، وتصيبه بسرعة غير متوقّعة، وفي هذه الحالة يكون المجتمع كلّه عرضةً لنتائج هذه الخطايا المدمِّرة: (إن بعض الذنوب تكون نتائجها السيئة سريعة، أي أن ما يتبعها من مساوي تظهر مباشرة فتنعكس سلبياتها في المجتمع/ الإمام الشيرازي كتاب من معاناة الإسلام والمسلمين).
وقد يجهل كثيرون، بالأخص من ينتمون إلى محدودية المستوى العقلي أو التفكيري الرزين، فهؤلاء قد يظنون أن ما يرتبونه من سلوكيات ضارّة لا تعبر الحواجز الفردية إلى عموم المجتمع، لكن الأمر خلاف ذلك، فالإساءة التي يقترفها فرد لا تتوقف أضرارها عنده فقط، مثلما أن الفعل الحسن لن يتوقف عند من يقوم به، صحيح هو فعل فردي محض، لكن الفرد لا يعيش في فراغ، إنه داخل حاضنة مجتمعية واسعة، وكل ما ينتج عنه من أخطاء سوف تنعكس على المجتمع كله، ويصحّ هذا في حالة الفعل المتقدم أو النافع الإيجابي، أيضا لا يتوقف عند الحدود الفردية، فما يؤديه الفرد من أفعال حسنة، سوف تصبّ في المجموع الاجتماعي العام، وإن كان ذا طابع فردي.
يرد مثل هذا المعنى والتفسير في كلمات معبّرة يمكن قراءتها في نفس المصدر السابق: (إن الله قد جعل لكل صفةٍ أخلاقية حسنة نتائج معنوية إيجابية، ونتائج مادية إيجابية ينتفع الناس منها، وجعل الله لكل صفة لا أخلاقية، ولكل ذنب أو معصية نتائج سلبية تنعكس على روح الإنسان، فتضعف إيمانه، ونتائج سلبية مادية تنعكس أضرارها على المجتمع).
هذا يعني أن الإنسان ليس حرّا في أدائهِ المسيء، ولا يدخل هذا في مدار الحريات الفردية، السبب أن كل ما يرتكبه الفرد من سلوكيات خارجة عن المقبول والمتعارَف، ستكون ذات نتائج مؤذية وقد تكون خطيرة، ليس عليه فقط، فسوف تتعدى شخصه وحدوده إلى الجماعة والمجتمع، فتصيبه بأضرار لا يجوز أن يتحمّلها، وإذا كانت الهدفيّة مصفَّرة في حساباته، وغير عابئ بها، فهذا لا يعني أن يصبح المجتمع كله بلا هدف في الحياة، هنا مكمن الخطورة.
المجتمعات المتمدنة وعت هذا الخطر الماحق، وسنت التشريعات التي تحمي المجتمع من هكذا مضار، وحمَت الفرد أيضا من أفعاله غير الفاضلة التي لا يدرك مدى ما تلحقهُ به وبالمجتمع من أذى قد يصل إلى درجات خطرة، في مجتمعنا هذا الظاهرة لها حضورها، وعلينا مقارعتها، ليس بالقانون وحده، بالتثقيف والتوعية وانتهاز الفرص المناسبة لكشف الأمور بجلاء أمام الفرد والمجتمع، ليكون الجميع متشبثا بهدفية الوجود الإنساني، ومحاصرة الرذيلة ودحضها، كونها مصدر خطر ماحق على الفرد والمجتمع.