حرق الآبار النفطية إمعان في انتهاك حقوق الإنسان
د. علاء إبراهيم محمود الحسيني
2016-11-20 07:15
دأبت التنظيمات الإرهابية المسلحة على ارتكاب أفظع الجرائم والمخالفات بحق الإنسان العراقي ولم تسلم من شرورها كل مكونات الشعب ومحافظاته، واستخدمت في ذلك مختلف الأسلحة التقليدية والمحرمة وأصابت بالضرر الإنسان والأرض وما عليها من ماء وهواء، فقد اعتادت هذه الزمر المتمردة على استعمال كل الوسائل الخبيثة للوصول إلى غاياتها المنحرفة عن جادة الشريعة الإسلامية والمثل الإنسانية الثابتة والشرعة الدولية المتعلقة بتقديس حقوق الإنسان، بل ان بعض الممارسات هي التمرد بعينه على أوامر الله والخروج الصارخ عن مقتضيات قيم السماء والأرض.
وكان شاهداً على ذلك ما أحدثته العصابات الإجرامية في نينوى بعد اقتراب القوات المسلحة من معاقلها فأقدمت على حرق آبار النفط ومعمل كبريت المشراق فتسبب ذلك بانبعاث أبخرة وغازات سامة وكميات هائلة من الكاربون غطت قرى وبلدات بأكملها وتسببت بتدمير حياة الآلاف من السكان المحليين وفي ذلك مصداق لمعنى الخراب والإفساد في الأرض بعد إصلاحها قال تعالى في سورة الأعراف الآية (56) "وَلَا تُفْسِدُوا فِي الأرض بَعْدَ إِصْلَاحِهَا" بيد ان هذه العصابات المجرمة التي تعاني من أزمة أخلاق وانحراف عقائدي خطير لا تريد الا ان تمعن في إيذاء أكبر قدر ممكن من الأفراد وتخرب الأموال العامة والخاصة وتشبع ملذاتها الجسمانية والمادية بالعدوان على الحقوق والحريات وكل ذلك على حساب ماسي الناس وجراحهم فتسبب فعلهم الأهوج بالآتي:-
1- قتل العديد من الأشخاص بسبب الاختناق:
وتعرض العشرات لعسر في التنفس ونوبات حساسية أو سعال شديد وهو عمل يحقق العدوان على النفس التي حرم الله العدوان عليها بلا مسوغ قال تعالى في سورة الإسراء الآية (33) "وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ" وامتهان لكرامة هؤلاء الناس بلا أدنى حق، وتعقيباً على مثل هذه التصرفات غير المسؤولة يقول سماحة المرجع الراحل آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي في كتاب فقه البيئة، انه لا يجوز الأضرار بالغير مطلقاً ولو كان ضرراً قليلاً فما بالك بالضرر الجسيم الذي وصل إلى حد ازهاق الأنفس البريئة ويقصد سماحته ليس الأضرار فقط المباشر بل حتى غير المباشر عندما يلحق الأذى والضرر بالبيئة التي يعيش بها الإنسان ما يلحق الدمار بمكوناتها سواءً منها سطح الأرض أو الهواء أو الماء والذي من شأنه الانعكاس سلباً على الإنسان وحياته ورفاهيته وهو المخلوق الذي أكرمه الله ورفع من شأنه اذ قال تعالى في سورة الإسراء الآية (70) "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا".
وما تقدم يعني بلا شك ان هؤلاء المجرمين تحققت مسؤوليتهم الشرعية لارتكابهم فعلاً منافياً لتعاليم الشرع المقدس لاسيما وان الرسول الأكرم المبعوث رحمة للعالمين قد طالما أرسى للمسلمين آداب الحرب وهو يوصي قادة الجيوش الإسلامية المتوجهة إلى الجهاد الحسنى بالناس والنبات والحيوان، وكان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إذا أراد أن يبعث سرية للجهاد دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة ولا تقطعوا شجرة إلا أن تضطروا إليها وايما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى رجل من المشركين فهو جارٌ حتى يسمع كلام الله فان تبعكم فأخوكم في الدين فان أبى فابلغوه مأمنه واستعينوا بالله عليه.
وفضلا عن مسؤولية هذه الطغمة الطاغية الشرعية فقد شكل فعلهم الدنيء جريمة جنائية لانتهاكهم قواعد القانون الدولي المنظمة للنزاعات المسلحة بموجب اتفاقية جنيف الرابعة 1949 والبروتكول الثاني لعام 1977 واللذين الزما أطراف النزاع بموجب المادة (2) من الاتفاقية والمادة (13) من البروتوكول بالاتي: (يتمتع السكان المدنيون والأشخاص المدنيون بحماية عامة من الأخطار الناجمة عن العمليات العسكرية...، وتحظر أعمال العنف أو التهديد به أو أي فعل يرمي أساساً إلى بث الذعر بين السكان المدنيين)، وبذلك يجب على أطراف النزاع الداخلي تجنب تعريض المدنيين لأي أذى وان لا يتم استخدام أسلحة أو خطط أو تدابير من شأنها ان تلحق الضرر الجسيم وغير المبرر بهم.
أضف إلى ما تقدم إن أفعال العصابات المارقة في محافظة نينوى تعد جرائم وقعت على إقليم العراق فتكون محاكمتهم وإنزال العقوبة الرادعة بحقهم من اختصاص المحاكم العراقية فما ارتكبوه فعل إرهابي عرفه قانون مكافحة الإرهاب رقم (13) لسنة 2005 في المادة الأولى منه بأنه (كل فعل إجرامي يقوم به فرد أو جماعات منظمة استهدف فردا أو مجموعة أفراد أو جماعات أو مؤسسات رسمية أو غير رسمية أوقع أضراراً بالممتلكات العامة أو الخاصة بغية الإخلال بالوضع الأمني أو الاستقرار والوحدة الوطنية أو إدخال الرعب أو الخوف والفزع بين الناس أو إثارة الفوضى تحقيقاً لغايات إرهابية)، وفعل الحرق تسبب بموت الناس وإيذائهم وادخل على قلوبهم الذعر الشديد فلا مناص من إنزال العقوبة الرادعة التي وردت بالمادة الرابعة من قانون مكافحة الإرهاب بحق الجناة، بل إن ما جنته أيديهم من وبال يشكل كارثة إنسانية ومأساة حقيقية بكل ما للكلمة من معنى.
2- تسبب الفعل الإجرامي المتمثل بحرق آبار النفط ومعمل الكبريت بكارثة بيئية:
فقد تصاعدت الأبخرة والغازات السامة والدخان الأسود المنبعث وانتشر على مساحة واسعة وتسبب بتغييرات جلية للبيئة واصطبغت عشرات الكيلومترات باللون الأسود وأهلكت إعداد كبيرة من الماشية والمزارع، ويرى سماحة المرجع الراحل في كتاب فقه البيئة إن الله سبحانه وتعالى نهى عن التسبب بالضرر للغير والفعل الذي طال البيئة سينعكس بشكل مباشر على حياة الآخرين ويلحق بهم أشد الضرر المادي والمعنوي، ويستدل بقوله تعالى في سورة إبراهيم الآية (28)" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ"، وما روي عن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه الطاهرين عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم انه نهى أصحابه عن إلقاء السم في بلاد المشركين فكيف والحال ان البلاد بلاد المسلمين ويلقي فيها من يدعي الإسلام الموت الزؤام فما انبعث من غازات سامة مميتة وما سيخلفه الدخان من تغيرات بيئية وصحية قد يتطلب سنوات طوال للتغلب على أثارها السلبية وفي ذلك مخالفة لمقاصد الشرع المقدس في ضرورة إصلاح الأرض وتجنب الفساد والإفساد.
ومن ناحية قانونية نجد ان قانون حماية وتحسين البيئة رقم (27) لسنة 2009 عرف الكارثة البيئية (بأنها الضرر الجسم الذي يلحق البيئة الذي لا تكفي القدرات الاعتيادية للدولة على معالجة نتائجه أو السيطرة عليه)، وقد تضمنت المواد (33و34) من القانون ذاته عقوبات عدة توقع على المتسبب بالضرر البيئي تتمثل بالحبس والغرامة التي قد تصل إلى عشرين مليون دينار، اما قانون العقوبات العراقي في المادة (342) فقد نص على انه (يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على خمسة عشر عاماً كل من أشعل النار في مال منقول أو غير منقول ولو كان مملوكاً له اذا كان من شأن ذلك تعريض حياة الناس أو أموالهم للخطر...، وتكون العقوبة السجن المؤبد أو المؤقت إذا كان إشعال النار في إحدى المحلات الآتية...، منجم أو بئر نفط، وتكون العقوبة الإعدام أو السجن المؤبد إذا أفضى الحريق إلى موت إنسان.
3- إن فعل العصابات الإجرامية تسبب في هدر المال العام وتبدد ثروات البلد فبعد أن سرق مجرمو داعش النفط على مدار العامين الماضيين بمساعدة بعض الأشخاص والأحزاب والدول الإقليمية إذ تجري بمرأى ومسمع الحكومات الإقليمية يوماً عمليات موسعة لتهريب النفط العراقي وساهم في ذلك بعض المتنفذين من السياسيين والتجار الأجانب وحتى بعض العراقيين من فاقدي الضمير والذين ساهموا في نهب ثروة الشعب العراقي المظلوم، ثم أقدموا على إحراقها وزرع المتفجرات قرب مواقعها لمنع محاولة إخماد الحرائق فيها، وفي هذا الموطن يحرم المرجع الراحل الشيرازي رحمه الله العدوان على آبار النفط وإتلافها ويضيف إن من تسبب بذلك لزمه الضمان، وبهذا الصدد يقول المولى عز وجل في سورة هود الآية (116) "فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأرض إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ" وفي سورة البقرة الآية (205) "وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَاد" فالحفاظ على الأموال العامة واجب على كل مواطن وفق ما انتهت إليه المادة (27) من الدستور العراقي لعام 2005 ومن تعمد بفعله في إتلاف المال العام والحق الضرر بالمصلحة العامة يعاقب وفق قانون العقوبات العراقي بعقوبات رادعة تصل إلى الحكم على الجاني بالإعدام كما ورد في المادة (197) من قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 المعدل التي جرى نصها بالاتي (يعاقب بالإعدام أو السجن المؤبد كل من خرب أو هدم أو اتلف أو اضر أضراراً بليغة عمداً مباني أو أملاكا عامة أو مخصصة للدوائر والمصالح الحكومية أو المؤسسات والمرافق العامة أو للجمعيات المعتبرة قانوناً ذات نفع عام أو منشئات النفط أو غيرها من منشآت الدولة الصناعية أو محطات القوة الكهربائية والمائية أو وسائل المواصلات أو الجسور أو السدود أو مجاري المياه العامة أو الأماكن المعدة للاجتماعات العامة أو لارتياد الجمهور أو أي مال عام له أهمية كبرى في الاقتصاد الوطني...."
مما تقدم نجد إن ما ارتكبته العصابات المسلحة هو جريمة لها أوجه متعددة وفعل إجرامي شكل اعتداءً صارخاً على مصالح الناس في الحياة والعيش في بيئة سليمة ولابد من التدخل الفوري على المستوى الوطني والدولي لوقف مسلسل الاعتداءات الإرهابية على المواطن والبيئة في العراق واتخاذ الخطوات اللازمة لذلك ومنها منع تزود عصابات الجريمة الإرهابية في العراق بأسباب ووسائل البقاء من مال وسلاح.
...................................................