المياه والثمن الباهظ المترتب على الاقتصاديات الرديئة
بروجيكت سنديكيت
2023-12-06 07:37
لندن ــ بعد ما يقرب من الثلاثين عاما من المفاوضات العالمية المعنية بمعالجة تغير المناخ، لا تزال الجهود الرامية إلى السيطرة على المشكلة متأخرة، ويعكس هذا توقف التقدم نحو إيجاد مسار مستدام في عموم الأمر. يزيد كل عام من التأخير من إلحاح المشكلة والحاجة إلى الحفاظ على قدرة الأرض على الصمود في مواجهة التأثيرات الأشد خطورة المترتبة على الانحباس الحراري الكوكبي.
لقد مرت سبعة عشرة عاما منذ نَـبَّـهَـت مراجعة ستيرن العالم إلى التكاليف المترتبة على التقاعس عن العمل في التصدي لتغير المناخ، وعامان منذ فعلت مراجعة داسجوبتا الشيء ذاته في ما يتصل بالتنوع البيولوجي والأسس البيئية التي يقوم عليها اقتصادنا. الآن، ينشأ إجماع مماثل بين الخبراء حول الأمن المائي. ولكن يبدو أن أغلب البلدان لا تزال غير مدركة لحقيقة مفادها أن إهمال المياه قد يؤدي إلى إهدار التقدم المحرز على جبهات أخرى.
إننا نواجه أزمة مياه عالمية يجب أن تسترعي ذات المستوى من الاهتمام والطموح والعمل الذي تستلزمه أزمتا المناخ والتنوع البيولوجي. تشير أوجه الارتباط بين أزمات المناخ والتنوع البيولوجي والمياه إلى قضية أساسية تتلخص في قيام اقتصاداتنا على أسس اقتصادية معيبة. الواقع أن فِـكرنا الاقتصادي الحالي يقودنا إلى النظر في العائدات الناجمة عن نهب خيرات كوكب الأرض فحسب، في حين نتجاهل عوامل خارجية مثل الأضرار البيئية وما يترتب عليها من تبعات.
هذه الحسابات الرديئة تجعلنا نبدو أكثر ثراء في حين أننا نصبح في حقيقة الأمر أكثر فقرا، حيث نستنزف مصادر رفاهتنا على حساب أجيال المستقبل. الأسوأ من ذلك أن ذات التفكير يسفر عن سياسات هزيلة. إننا نتفاعل على الدوام مع إخفاقات السوق ونناضل من أجل سد فجوات التمويل، في حين ينبغي لنا أن نلاحق استراتيجيات استباقية لتشكيل الاقتصاد بما يحقق الصالح العام. هذا التصور القصير النظر للعالم الذي ينعكس في الـفِـكر الاقتصادي الحالي ــ وفي إفراطنا في استغلال الموارد الطبيعية على نطاق عالمي ــ يهدد الآن بزعزعة استقرار كوكب الأرض بالكامل. لقد أربكنا بالفعل ست من "العمليات التسع الأساسية الشديدة الأهمية للحفاظ على استقرار نظام الأرض وقدرته على الصمود ككل". والحدود التي ننتهكها ــ التي تشمل تغير المناخ، وخسارة التنوع البيولوجي، وتغير المياه العذبة ــ تحدد مساحة عمل آمنة للبشرية. وبتجاهل هذه الحدود، تسببنا في تعظيم خطر حدوث تغيرات بيئية مفاجئة أو لا رجعة فيها تنتشر على نطاق واسع وتهدد بدرجة خطيرة الحضارة الإنسانية. دَعَـت مراجعة داسجوبتا إلى تحول جوهري في الـفِـكر الاقتصادي استنادا إلى مبادئ الاستدامة القوية، وتصور لاقتصاد يعمل ــ على المستويات كافة ــ ضمن حدود معينة علميا. الواقع أن ميزانيتنا محدودة عندما يتعلق الأمر بالأنظمة البيئية مثل المياه، والتنوع البيولوجي، والكربون، والنيتروجين، والفوسفور، والملوثات، والتربة. ونحن في احتياج إلى اقتصاد قادر على العمل ضمن حدود هذه الميزانيات بطرق فَـعّـالة ومسؤولة اجتماعيا.
في غياب اهتمام جماعي عاجل وجهازي شامل بالروابط التي لا تنفصم بين تغير المناخ وأزمات المياه وخسارة التنوع البيولوجي، لن يتسنى لنا أن نرى مستقبلا مستداما، لأن التقاعس عن العمل في أي مجال يؤثر حتما على المجالات الأخرى. تُـعَـد الأراضي الرطبة والغابات مخازن الكربون الأكبر في العالم، وهي تعتمد على دورة مياه مستقرة وتنوع بيولوجي مزدهر. تمتص بالوعات الكربون الأرضية نحو 25% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. وبدونها قد يصل مستوى ثاني أكسيد الكربون إلى 500 جزء في المليون بدلا من 420 مليون جزء في المليون، وهو المستوى الحالي.
من الواضح أن التعجيل بالتخلص التدريجي من الوقود الأحفوري أمر ضروري لكنه غير كاف. فحتى لو تمكنا من إزالة الكربون من الاقتصاد غدا، لن يكون مستقبلنا مستداما قبل أن نتخذ خطوات للحفاظ على أنظمة المياه والموائل الطبيعية. يُـظـهِـر الـعِـلم الآن أن خسارة الطبيعة في حد ذاته قد يدفعنا بقوة إلى اختراق الحاجز المتمثل في هدف اتفاق باريس للمناخ الذي يلزمنا بالحد من الزيادة في درجات الحرارة العالمية نتيجة للانحباس الحراري الكوكبي بما لا يتجاوز 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة، وهذا يُـنذِر بعالم حيث لا يتمكن ملايين البشر الذين يعيشون في بيئات معرضة للخطر من الاستمرار في التكيف.
من الأهمية بمكان إعطاء الأولوية لحماية الموارد المائية والتنوع البيولوجي إلى جانب إزالة الكربون بينما ننتقل إلى اقتصاد يعمل ضمن حدود كوكبية آمنة. وسيرا على خطى مراجعة ستيرن المعنية باقتصاديات تغير المناخ ومراجعة داسجوبتا المعنية باقتصاديات التنوع البيولوجي، تحث اللجنة العالمية لاقتصاديات المياه على تحول مماثل بشأن قضية المياه.
يستند هذا الفِـكر الجديد إلى ثلاث ركائز..
أولا، يتعين علينا أن نتعامل مع دورة المياه العالمية باعتبارها منفعة مشتركة تُـدار بشكل جماعي وتخدم مصالح الجميع. الحق أن قضية المياه لا تتشابك على نحو متزايد مع قضايا مثل تغير المناخ واستنفاد رأس المال الطبيعي لكوكب الأرض فحسب؛ بل وتشكل أيضا مصدرا رئيسيا لا يحظى بالقدر اللازم من التقدير للاتكالية المتبادلة بين البلدان.
ثانيا، يتعين علينا أن نتجاوز النهج التفاعلي القائم على إصلاح السوق، لننتقل نحو نهج استباقي قائم على تشكيل السوق يعمل على تحفيز الاستثمار في المياه وتسعير العوامل الخارجية السلبية على النحو المناسب. ولن يتسنى للحكومات تقدير وإدارة وتمويل المياه على النحو الذي يدفع التحول الذي نحتاج إليه إلا بالاستعانة بعقلية اقتصادية جديدة.
ثالثا، تتطلب معالجة التحديات المترابطة التي تواجهنا "مزيجا من السياسات" الشاملة التي تخضع لها كل القطاعات والموجهة نحو تحقيق النتائج، بدلا من التدخلات المعزولة والمنعزلة التي اتسمت بها عملية صنع السياسات الاقتصادية حتى وقتنا هذا. الواقع أن الاستراتيجيات الاقتصادية الموجهة نحو إنجاز مهام بعينها من الممكن أن تعمل على حشد الوزارات، والقطاعات، وأصحاب المصلحة كافة حول أهداف محددة مرتبطة بالمياه، وبوسع الأدوات الموجهة نحو تحقيق النتائج أن تساعدنا في تحقيق هذه الأهداف. يعرض مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (مؤتمر الأطراف 28 COP28) المنعقد في دبي الفرصة لتحقيق إنجاز ضخم في هذا الصدد.
تشكل الأدلة العلمية المتنامية التي تثبت اضطلاعنا في زعزعة استقرار دورة المياه العالمية التي نعتمد عليها جميعا مؤشرا صارخا لقصور جهودنا الجماعية، حتى بعد ثلاثة عقود من مفاوضات المناخ في إطار منظمة الأمم المتحدة، وعشر سنوات من تأسيس المنتدى الحكومي الدولي المعني بخدمات الحفاظ على التنوع البيولوجي والأنظمة البيئية. لم يعد من الممكن تجاهل القضايا المتصلة بالمياه. فإذا لم نسارع إلى التصدي لها إلى جانب التحديات المترابطة الأخرى، فسوف يذهب أي تقدم نحرزه في مجالات أخرى أدراج الرياح.
.....................................................